أَغلبِيّتنا تنَاهت إلى مسَامعنا، قَبل أن نَلج الجامعة، بعض من نصائح السابقين إليها. كنّا نسمع مجموعةً من التحذيرات بين الفينة والأُخرى، مجملها يتجه اتجاهاً واحداً: "احذروا، وتجنّبوا الحَلَقِيَّات (التجمعات الطلابية)". نصائح مبهمة، أما المفاهيم التي وُظّفت في النصائح فكنا نسمعها للمرة الأولى.
عند بدء التسجيل في الجامعة، اتضحت بعض المعالم في ذهني، فما إن تَفِد إليها، تصطدم مع الفصائل الطلابية النشطة داخل الساحة الجامعية، ما يسمى في عرفهم "أيام استقبال الطالب الجديد".
كل فصيل يتخذ له ركناً، ورايات تحمل رمزه: "المطرقة والمنجل" تعبيراً عن "رفاق النهج الديمقراطي القاعدي"، الرمز الأمازيغي "تيفيناغ" الذي يعبّر عن "الحركة الثقافية الأمازيغية"، ناهيك عن الفصائل المحسوبة على التيار الإسلامي "العدل والإحسان"، أو "التجديد الطلابي". كما قد تجد في بعض المواقع الجامعية (مراكش، أكادير، الرباط)، فصيلاً، يعبّر عن "الشعب الصحراوي".
بعدها تخبرك سنوات الجامعة بالمزيد: بنية العمل الأيديولوجية التي يستند إليها كل فصيل، والخلافات التي تعرفها جراء هذا الاختلاف الأيديولوجي وتنتج عنفا يصل إلى حالات يقتل فيها طلاب أو يصابون بجروح خطيرة، كما وقع في سبتمبر/أيلول الأخير في جامعة فاس.
مع تعدد الفصائل الطلابية والاختيارات الراديكالية لبعضها، يصبح العنف أداة للنزاع حول الشرعية في الأوساط الطلابية. ما هي أسباب العنف "المسلّح" داخل أسوار الجامعات المغربية؟
أن تلج الجامعة، معناه أنك ستعرف أسماء "شهداء" الفصائل الطلابية: "محمد الطاهر الساسيوي، عبد الرحمن الحسناوي، عُمر خالق، وآيت الجيد بنعيسى..." وغيرهم. أسماء هي في قاموس كل فصيل، رموز حية في الذاكرة.
تحولات كثيرة عرفتها الساحة الجامعية المغربية، إبان التسعينيات، مع ظهور الفصائل الطلابية. خلافات جوهرية، أقحمت العمل الطلابي في مستنقع العنف، والعاهات المستديمة، والتقتيل، وهي حصيلة تسائل الفضاء الجامعي، وطبيعة العمل الطلابي.
صراع قديم
في حديث إلى رصيف22، يرى حمزة، خريج التجربة القاعدية في الراشيدية، أن المطّلع على سيرورة وكرونولوجية الصراع من داخل الجامعة بين الفصائل النشطة، يحتاج -إن كان علميّاً- في مقاربته إلى أن يعود بالزمان إلى الوراء، ويقف بكل حياد على المحطات والتغيّرات التي طبعت الجامعة المغربية. هنا لا بد أن نتوقف عند بروز اليسار وتوسع أيديولوجيته في الأوساط الشعبية وحتى السياسيّة العالمية. هذا المدّ اليساري كان له الأثر على الساحة الجامعة، ببروز تيارات يسارية راديكالية تنادي تبعاً للشروط "الموضوعية" في المغرب، التغيير الجذري.
يضيف حمزة: "باعتبار الجامعة مرآةً المجتمع، كانت مسرحاً للنقاشات السياسية والفكرية والثقافية والاجتماعية التي يخوض فيها المغاربة عموماً، امتازت بدءاً بالحوار والنقاش الديمقراطي بعيداً كل البعد عن العُنف، لكن، بدخول التيارات الإسلامية ومحاولتها فرض أيديولوجتيها بكل الطرق التي تراها ملائمةً، انحرفت الشروط عن النقاش والصراع الفكري إلى مستنقع العنف، مما فرض على "القاعديين" (يسار راديكالي)، طرح تكتيك يكثف برنامجهم الديمقراطي العام: "نكون أو لا نكون"، وتحول الأمر من منطق المقارعة إلى منطق الدفاع بكل السبل، سواء الفضح السياسي أو المواجهة المسلحة.
بأفول الإسلاميين بدورهم، برزت في الجامعة -حسب المتحدث- تيارات عرقية، تدافع عن "الشعب الأمازيغي"، في ضرب مُمنهج للـ"علمية والأممية وانحراف الصراع بين من يملك ومن لا يملك، إلى صراع بين القومية العربية والثقافة الأمازيغية. انتهت باغتيال طالبين يساريين في ظرف 12 يوماً، تلاهما اغتيال طالب صحراوي في الآونة الأخيرة، مع كل هذا يظهر أن العُنف لم ينتهِ بعد".
من جهته، يرى عزيز الجهابلي، فاعل حقوقي ونقابي، في حديثه إلى رصيف22، أن "العنف داخل الجامعة المغربية يرجع بالأساس إلى غياب الأساس التنظيمي المرتبط بالإطار النقابي، الاتحاد الوطني لطلبة المغرب (المنظمة التاريخية للطلاب المغاربة)، وإلى عدم بلورة مواقف ورؤى مؤسسة على أرضية الحد الأدنى بين الفصائل التاريخية للاتحاد الوطني لطلبة المغرب التي هي الطلبة القاعديون والطلبة الاتحاديون والطلبة الاشتراكيون نسبةً إلى حزب التقدم والاشتراكية والطلبة الديمقراطيون نسبةً إلى منظمة العمل الديمقراطي الشعبي، وطلبة 'رفاق الشهداء' وهو فصيل سُمّي بطلبة الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية اللجنة الإدارية، على نقيض المكتب السياسي".
إسلاميون ويساريون وناشطون من الحركة الأمازيغية، وطلاب صحراويون. مزيج "حارق" بين أسوار الجامعة المغربية يعجز عن الحوار، ويختار لغة العنف والعنف المضاد. فإلى متى؟
العنف داخل الجامعة ارتبط، أيضاً، بالعجز عن الوصول إلى توافق بين هذه الفصائل يسمح بعقد مؤتمر استثنائي لتجاوز محطة المؤتمر السابع عشر للاتحاد الوطني لطلبة المغرب، الذي انعقد في صيف 1981، ولم يُكتب له النجاح ولم تترتب عنه أي مقررات تنظيمية أو سياسية أو نقابية.
يضيف المتحدث، أنه لم يسجّل ممارسة العنف والعنف المضاد المفضي إلى الموت، إلا مع بداية تسعينيات القرن الماضي حين غيّر التيار الإسلامي من إستراتيجيته، تجاه الاتحاد الوطني لطلبة المغرب، إذ كان هذا التيار يصف "أوطم"، بـ"الاتحاد الوثني لطلبة الملاحدة".
يرى عبد المجيد عباسي، عن منظمة التجديد الطلابي (الإسلامية)، أن فكرة أن العنف ظهر مع بروز قوة شوكة التيارات الإسلامية داخل الجامعة بدايات تسعينيات القرن الماضي، ادّعاء تفنّده الحقائق التاريخية التي تتمثل في نسف عدد مهم من أنشطة الفصائل اليسارية من طرف فصائل يسارية منافسة، والتي كانت تهيمن على المشهد الجامعي قبل ظهور الاسلاميين، بالإضافة إلى ظهور انشقاقات في الفصائل اليسارية.
فكرة أن العنف ظهر مع بروز قوة شوكة التيارات الإسلامية داخل الجامعة بدايات تسعينيات القرن الماضي، ادّعاء تفنّده الحقائق التاريخية
عند الحديث عن تاريخ العنف داخل الجامعة المغربية الذي شهدته منذ الستينيات مروراً بالسبعينيات وصولاً إلى يومنا هذا، يرى محمد ضريف، الأستاذ الجامعي اليساري وصاحب كتاب "أزمة الحركة الطلابية المغربية"، أن تاريخ العنف داخل الجامعة ارتبط بالانقسام الذي كان قد طال حزب الاستقلال سنة 1959، بعد تأسيس حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، إذ إن "الاتحاد الوطني لطلبة المغرب"، المعروف اختصاراً بـ"أوطم"، كان مرتبطاً بحزب الاستقلال كونه كان الحزب الأقوى في تلك المرحلة، غير أنه إثر الانشقاق الذي عرفه الحزب، رأى التنظيم الطلابي نفسه ذا توجه تقدمي وحداثي وانحاز إلى حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، وهو ما دفع حزب الاستقلال إلى تأسيس إطار طلابي خاص به يحمل اسم "الاتحاد العام لطلبة المغرب"، وهو ما جعل كل شروط العنف متوفرةً في تلك المرحلة، يقول ضريف، إذ إن "أوطم" عدّ نفسه الممثل الوحيد والشرعي للطلبة ولم يكن يسمح لفصائل أخرى من خارج هذا التنظيم بالتحرك داخل الجامعة، ما جعل ثقافة العنف تترسّخ داخل الجامعة المغربية، خصوصاً بعد سنة 1965، بعدما بدأ اليسار الجديد أو ما يُسمى باليسار "الراديكالي"، يتحكم في المركزية الطلابية "الاتحاد الوطني لطلبة المغرب".
في سنة 1968، ومع الحركة الماركسية اللينينية التي أرادت أن تحول "أوطم" إلى حزب يساري سياسي، وجب عليها القيام بتغييرات سياسية، ودخلت في مواجهات مع التيارات الإصلاحية ومع السلطة، وهو ما دفع إلى حظر التنظيم الطلابي يوم 24 كانون الثاني/ يناير 1973.
الحركة الثقافية الأمازيغية و"ميثاق نبذ العنف"
يرى مراد عنزي، الناشط السابق في الحركة الطلابية الأمازيغية، في حديث إلى رصيف22، أن "الحركة الثقافية الأمازيغية التي ظهرت بداية التسعينيات كانت شاهدةً وغير منخرطة في دوامة العنف التي كانت بين الإسلامويين واليساريين، ما جعلها -انطلاقاً من مبادئها- تفرز حلاً لعله يكون وسطاً بين جميع الأطراف التي ستضمن للجميع أن يبدوا آراءهم، ويضمن وجودهم داخل الساحة الجامعية، ويتمثل في "ميثاق شرف لنبذ العنف والإقصاء الفكري والأيديولوجي". وعليه، هذا الميثاق كانت له أبعاد كبيرة جداً، كحل لمعضلة العنف الجامعي، وقد قدمته الحركة الثقافية الجامعية سنة 1999، بعدما راكمت العنف الجامعي، وسجلت ملاحظتها على ما مر من التاريخ.
في ما يخص تفاعل الفصائل مع هذا الميثاق، يضيف مراد أنّ "بعض الفصائل عدّته مبادرةً حسنةً، من بينها جميع الأطياف اليسارية غير الراديكالية من ‘الماويّين’ (نسبةً إلى ماو تسي تونغ)، واليسار التقدمي، وكذلك العدل والإحسان (الإسلامي) الذي أبدى رغبته في اكتمال هذا العمل. لكن إيمان فصيل ‘النهج الديمقراطي القاعدي’ (اليساري الراديكالي)، المؤمن إيماناً تنظيمياً قبل أن يكون موضوعياً بأنه الممثل الشرعي الوحيد للاتحاد الوطني لطلبة المغرب، جعله يرفض بالمطلق أن يفتح نقاشاً مع الأطراف السياسية الأخرى كونها -حسب أدبياته- خطراً عملياً على الاتحاد الوطني لطلبة المغرب، ليرفض هذا الفصيل الميثاق رفضاً تاماً".
ميثاق نبذ العنف كانت له أبعاد كبيرة جداً، كحل لمعضلة العنف الجامعي، وقد قدمته الحركة الثقافية الجامعية سنة 1999، بعدما راكمت العنف الجامعي، وسجلت ملاحظتها على ما مر من التاريخ
إن الحركة الثقافية الأمازيغية -حسب المتحدث- التي تتبنى مبادئ السلمية والديمقراطية والعلمانية، لا يمكن أن تنخرط في مُستنقع العنف، أو تكون سبباً فيه. في ظل وجود فصائل تُسمّي هذا بالظلامي، والآخر بالتحريفي والشوفيني، والتغيير الجذري للنظام، تلك التصنيفات التي تُعطى للفصائل الأخرى، يظهر أن سبب العنف هو نتاج فكري يتجسد في ممارسات عنيفة، كذلك الطرف الإسلامي الذي يتبنى فكرة الجهاد بمستوياته الأربعة.
وهذا ما يدفع هذه الفصائل التي تتبنى فكراً متحجراً -حسب المتحدث- إلى رفض قنوات النقاش والحوار، عكس الحركة الثقافية الأمازيغية التي تؤمن بمبدأ النسبية، ما دفعها حسب هذا المبدأ إلى تغيير خطابها منذ سنة 2003، لتجعله خطاباً تحررياً شمولياً، وأنتجت مواقف غير عدائية لا تخدم الأطياف الأخرى التي لا تؤمن سوى بالخط الواحد.
لكن بالرغم من تبنّي الطلبة "الأمازيغيين" لخطاب نبذ العنف، فقد شهدت الساحة الجامعية أكثر من مرّة في العقدين الأخيرين مواجهات داميةً، أدت إلى مقتل طلبة أحياناً، خاصةً بينهم وبين الطلبة الصحراويين، في مواقع جامعية، كمراكش وأكادير.
العنف وليد الواقع المجتمعي؟
يرى، رشيد لزرق، الباحث في العلوم السياسية، أن واقع الصراع بين الفصائل الطلابية، وما يرافقه من عنف، لا يمكن تفسيرهما إلا ضمن السياق العام الاجتماعي، الذي يكشف تحولات في البنى الاجتماعية التي يعرفها المجتمع المغربي، وما يرافقه من عسر التحول بفعل جمود المنظومة الاجتماعية، وتوجيه الطاقة الشبابية في اتجاه الإبداع الذي يخلق واقعاً مغايراً.
يتعرف الشاب داخل الجامعة على عالم مغاير يتعرض خلاله للانفصال عن المؤسسات التقليدية التي أنشأته، من دون أن تولّد لديه تصوراً ملائماً للعمل السياسي أو تلقّنه تثقيفاً سياسياً، مما يولّد لدى الطالب حالة صراع داخلي، تختلط بالإحساس بخيبة الأمل في ظل مستقبل غير مضمون النتائج، لأن الجامعة المغربية خاصة بالشُّعب المفتوحة ولا يدخلها سوى أبناء الفقراء.
هذا الواقع -حسب المتحدث- انعكس على طبيعة العلاقة بين المجتمع والسلطة، وهو ما يفسر انخراط أبناء الطبقة الشعبية في فصائل صدامية سواء على أساس أيديولوجي أو ديني أو لغوي، ويلجأون إلى الاختباء وراء المرجعيات أو ينقادون وراء نظرية المؤامرة، وتوظيف الانتماء المناطقي أو اللغوي ضد مشروع الدولة، مما يفرز تشوهاً في الطرح الفصائلي، الذي يتحول إلى تعبير عن مكبوتات تعجز عن تحقيق ذاتها في المنظومة السياسية، أو الاجتماعية خارج أسوار الجامعة.
يضيف رشيد لرزق، أن الواقع يعبّر عن أزمة المنظومة التعليمية عموماً، ويطرح سؤالاً عن جودة التعليم، وعن ضعف مخرجات العمليات الأكاديمية والبحث العلمي والدراسات العليا، وعن تراجع حكامة المؤسسات الجامعية، وتنصيب جيل من رؤساء الجامعات فاقد للكفاءة، لم يستطيعوا بناء إطار لمؤسسة قوية للعمل الطلابي، كما فشلت كل الفصائل الطلابية في توحيد الصفوف وبناء إطار متجدد للفعل الطلابي، وبقي الاتحاد الوطني لطلبة المغرب مؤسسةً احتكاريةً للفصيل السياسي.
أسباب موضوعية وذاتية تدفع بكثيرين إلى الانسياق وراء خطاب الفصائل العنيفة التي يجدون فيها عائلةً كبيرةً، في ظل مجتمع يديره ظهره لطلاب الجامعات، خاصةً أبناء الفقراء منهم.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...