لا تثق بكلّ ما تقوله الخَطَّابة. إنها تنمّق الحديث لإنجاح صفقة الزّواج. خذ كلّ ما تتلفظ به بحذر، ولا تعدّ كلامها على أنه الفيصل. عليك أن تذهب لتتأكد من كلّ المعلومات، حتى لو كلّفك ذلك حزم حقائبك والسفر إلى مدينة أخرى لمعرفة من يتقدم للزواج بابنتك أو من هي التي يريد ابنك خطبتها. إذا اعتمدت على ما تحكيه الخطّابة فأنت تغامر، فالخطّابات لم يعدن مثل الزمن الماضي، بل أصبح معظمهنّ مجرّد تاجرات".
كانت هذه وصيّة رجل مسنّ لنا، كان يجلس عند مدخل أحد قصور تافيلالت في الجنوب الشرقي للمغرب. في الواقع، لم يعد عمل الخطّابة في مأمن اليوم في المغرب بأكمله، بل أصبح محطّ نقاش وتساؤل وتشكيك.
الخطّابة... حاضرة في المجتمعات المحافظة
يقول إسماعيل مباركي، الباحث في الثقافة الشعبية في تافيلالت وهي منطقة يغلب عليها الطابع المحافظ، إنّ الخطّابة هي صاحبة "مهنة" تنشطُ بشكل كبير في المجتمعات الموغلة في المحافظة. فكلما اشتدّت "تقليدانيّة" مجتمع ما، كانت تلك فرصةً خصبةً لكي تنبت خطّابة أو خطّابات، ذلكَ أنّ هذه المهنة موجودة بكثرة في الأماكن التي من الصعب، أو من المستحيل، أن يتعارف فيها الشّاب والشابّة بشكل مباشر، تبعاً لكون "العفة" و"الوقار" و"الشرف" و"الحشمة" وغيرها، هي "الشّروط الموضوعية" لمجتمع توجد فيه الخطّابات. لهذا أصل هذه المهنة كان في دول الشرق الأوسط، وتحديداً في الخليج "العربي"، قبل أن تصل إلى المغرب.
لا تثق بكلّ ما تقوله الخَطَّابة. إنها تنمّق الحديث لإنجاح صفقة الزّواج. خذ كلّ ما تتلفظ به بحذر، ولا تعدّ كلامها على أنه الفيصل. عليك أن تذهب لتتأكد من كلّ المعلومات
يضيف مباركي في تصريحه لرصيف22، أنّ هذه المجتمعات كانت تعدُّ المرأة مشروعاً للزّواج، وتالياً وجب صونها، حتى يأتي من يتزوجها. وفي رحلتها الحياتية قبل الزواج، يُمنع عليها أن تفكّر، بالمطلق، في التحدّث إلى أيّ شاب غير "محارمها" بشكل معيّن. هذا كان معياراً خاصّاً جعل من الزيجات أمراً معقداً من دون عمل الخطّابات. ففي مجتمع كل النساء فيه، تقريباً، محجّبات، ولا يذهبن إلى المدرسة إلا نادراً، كيف ستُعرَف الفتاة الصالحة للزواج فيه؟ إنّ هذا الدور تُرك لوقت طويل للخطّابة في منطقة تافيلالت.
من هي الخطَّابة أصلاً؟
تجيبنا امرأة مسنّة نقابلها في مدينة الرّيصاني (في الجنوب الشرقي للمغرِب)، قائلةً إنّه تبعاً لأعراف تافيلالت الصّارمة، فالخطَّابة هي وسيطٌ بين زوجين محتملين، وتتقاضى نظير "عملها" هذا بدلاً ماليّاً. وقد يعتمد عليها الرجل والمرأة على حدّ سواء.
هكذا، تكون الخطّابة مكلّفةً عمليّاً ومبدئيّاً بجمع "كلّ" المعلومات الممكنة عن شخص ما يطمح إلى الزواج، فتحاول الربط بين المواصفات المتاحة لديها، وبين ما يمكن أن يطلبه السائل أو السائلة، أي الباحث عن الزواج أو الباحثة. وعملها هذا ليس سهلاً، بل قد يكلّفها شهوراً من البحث. وتتوفّر الخطّابة على ألبومات صور للسائلين، وذلك بغية عرضها على أزواج وزوجات محتملين/ ات.
تبعاً لأعراف تافيلالت الصّارمة، فالخطَّابة هي وسيطٌ بين زوجين محتملين، وتتقاضى نظير "عملها" هذا بدلاً ماليّاً. وقد يعتمد عليها الرجل والمرأة على حدّ سواء
من الناحية السوسيولوجيّة، يرى الباحث في علم الاجتماع أحمد صديقي، في حديثه إلى رصيف22، أنّ الخطّابة كانت محوراً مفصليّاً في تماسك الرّوابط الاجتماعيّة داخل مجتمع الواحات. لقد كانت هي نقطة الملتقى بين عائلتين معيّنتين، وكان لها دور كبير جداً في نسج العلاقات الاجتماعية داخل النسق الثقافي الفيلالي على وجه الخصوص. بمعنى أنّ الخطّابة، ببساطة، هي حلقة الوصل بين طرفين يريدان الزواج... ولا يعرفان أي شيء عن بعضهما، غير ما قالته "الوسيطة".
صانعة فرح... "كاذبة"؟
تساهم الخطّابة في صناعة العرس، كونه خليّة الفرح الأولى. لكن، ماذا لو كانت أسس هذا الفرح "زائفةً"؟
تقول امرأة فيلاليّة في حديثها إلى رصيف22، إنّ "عمل الخطّابات أصبح مشبوهاً منذ زمن، وأصبح محدوداً تبعاً لذلك، نظراً لكون بنات هذا الجيل وأبنائه يدمّرون تقاليدنا نحن. إنهم لا يريدون منّا التدخل في زواجهم، ويحذروننا من البحث لهم عن زوج/ ة كما كان الأمر حتى بداية العشرية الحالية. بيد أنّ ذلك لا يعني نهاية عمل الخطّابات، بل ما زال معتمداً عليه في القُصور (قرى محصّنة)، والأرياف المحاذية للرّيصاني وأرفود"...
سارة، فتاة مطلقة تبلغ من العمر 28 سنةً، تقول في حديثها معنا، إنّ زواجها كان فاشلاً تماماً نتيجة "المواصفات" المغلوطة التي قدّمتها إحدى الخطّابات. "هذه الخطّابة هي التي أشرفت على زواجي، وهي التي قدّمت لي شخصاً قادماً من نواحي مدينة مكناس. تزوجته ووجدت أنّ المحالّ التجارية ملك والده وأنه مجرد أجير عند أبيه، وليس مقاولاً كما قالت الخطّابة. قالت إنه لطيف، لكنه كان عنيفاً جداً. صبرت في البداية، إذ صعب عليّ للغاية أن أعود مطلّقةً إلى بيتنا وإلى تلك المنطقة، فلن أتحمّل نظرة المحيط هناك. لكنه كان عنيفاً، وقد صبرت لمدة سنة، قبل أن ينفد كلّ صبري وتطلّقت منه".
نتواصل مع لْعزيزة، وهي إحدى الخطّابات في منطقة الريصاني. تقول إن الكثير من أبناء واد زم وتادلة وزاوية الشّيخ ومناطق أخرى يدلفون إلى منطقة تافيلالت للزواج من بنات المنطقة. لْعزيزة، ترى أنّ "هناك مغالطات كثيرةً وتعميماً غير مقبول غايتهما التشكيك في مصداقية عمل الخطّابات، وهناك إمعان في ربط سلوكيات فردية لبعض الخطّابات بكلّ النّشيطات في هذه المهنة. حتى الأثمان التي نشتغل بها عادية وتتراوح بين 500 درهم و3،000 درهم".
سارة، فتاة مطلقة تبلغ من العمر 28 سنةً، تقول في حديثها معنا، إنّ زواجها كان فاشلاً تماماً نتيجة "المواصفات" المغلوطة التي قدّمتها إحدى الخطّابات
تضيف لعزيزة في حديثها إلى رصيف22، أنّ لكل "خطابة ثمنها، وهناك خطابة معروفة في الريصاني لا تشتغل بأقل من 5،000 درهم، وهي ذات مال ونفوذ اجتماعي. فلو كانت هذه التهم صحيحةً، وكنا نكذب وننمق ونبالغ في عملية الوصف، لماذا ما زال السّكان يلجأون إلينا، ويستشيروننا، وظلت عائلات كثيرة وفيةً لتعاملها معنا، وكانت النتائج مُرْضيةً، على الدّوام، لنا نحن ولعائلَتي العريس والعروس. والمعطيات التي نقدّمها ليست من وحي خيالنا، وإنما هي رسائل نتلقاها من طرف ونقوم بإبلاغها إلى الطرف الآخر".
"شُبهة" التّسليع!
تحكي لنا مروة، البالغة من العمر 26 سنةً، أنّ إحدى الخطّابات، كانت قادمةً بعرض زواج، يستهدف فتاةً من عائلة محترمة اجتماعيّاً. المثير في ما ترويه مروة، أنّ الخطّابة تعاملت معها وكأنها سلعة: خاطبتني بأن أقف، وأن أدور حول نفسي، ثم طلبت مني الكشف عن شعري. قالت إنني جميلة، مقارنةً بفتاة رأتها قبل يومين حينها. لم تعجبني المقارنة نهائيّاً. كان تصرفها مهيناً لي ولتلك الفتاة التي لا أعرفها. بدوتُ والفتاة، كأننا مجرّد بضاعة، تتفقّدها الخطّابة لكي يتم تداولها.
من جهة أخرى، يرى الفاعل الثقافي والحقوقي في مدينة الريصاني، أحمد إسماعيلي، أنّ الزواج في مدينة الريصاني ما زال يُعدّ صفقةً عند البعض، وكثيرون هم من يأتون للزّواج ببنات المدينة نظراً لكون هؤلاء، ينطلقون من "طمع" في الأثاث الذي تأخذه الفتاة الفيلاليّة إلى بيت زوجها. فالفتاة في هذه المناطق تتكلف عائلتها بتجهيز غرفة نومها وزوجها. ولهذا كان كثيرون يأتون للزواج هنا، وبمساعدة من الخطّابات. لذا من دونهنّ لا يستطيع الرجل الوافد من مناطق بعيدة أن يتعرف إلى البنات المستعدات للزواج، والخطّابة تصبح جزءاً من عملية التواطؤ هذه.
الزواج في مدينة الريصاني ما زال يُعدّ صفقةً عند البعض، وكثيرون هم من يأتون للزّواج ببنات المدينة نظراً لكون هؤلاء، ينطلقون من "طمع" في الأثاث الذي تأخذه الفتاة الفيلاليّة إلى بيت زوجها
الشائع في هذه المناطق، وفق ما يوضحه إسماعيلي لرصيف22، أنّ الفتاة التي تبلغ أكثر من 20 سنةً وتبقى بلا زواج، تُسمّى (وفق صورة نمطية) "بايرةً". وهذا النّوع هو الأكثر طلباً من طرف الخطّابات، لأنّ تلك هي الغنيمة. فالفتاة التي لم تتزوج تتعرض لضغوط نفسية من طرف عائلتها، من خلال التلميحات، خصوصاً العائلات المحافظة. وكثيرات من هؤلاء حين يتزوجن ويجدن أن الظروف سامة أو غير ملائمة أبداً، يتعرضن لضغوط من طرف العائلة حتى يصبرن، ويُطلب منهن ألا يفكرن في الطّلاق، لأن الطلاق، مأساة أخرى، في نظر العائلات ذاتها. كما نسجّل حالات لفتيات تعدّين العشرين سنةً يقصدن الخطابات من دون علم عائلاتهنّ.
رحلة التراجع؟
يقول أحمد صديقي، الباحث في علم الاجتماع في جامعة سيدي محمد بنعبد الله في فاس، إنّ "منطقة تافيلالت لا تسبح في فراغ بمعزل عن السياق الاجتماعي العام الذي يعيشه المجتمع المغربي بأكمله؛ أي أن التحولات التي طالت أدوار الخطّابة كانت نتاجاً لاستيعاب المجتمع الواحيّ (الواحات) لمجموعة من القيم المستحدثة، وعلى رأسها قيم التّعارف بين الشباب والشابات. هذه القيم لم تكن حاضرةً بشكل كبير سابقاً. ويمكننا مثلاً استحضار دور مواقع التّواصل الاجتماعي في عملية التحول هذه".
صديقي يرى، في حديثه إلى رصيف22، أنه إلى جانب هذه القيمة يجب استقراء تحولات قيمة الولاء للوالدين أيضاً. ففي السّابق كان ولوج الشّباب إلى مؤسسة الزّواج يتمّ بشكل عمودي، من أعلى إلى أسفل، أي من الأم، ثم الأب، ثم الولد المقبل على الزواج. لكن قيمة الولاء هذه شهدت بعض التّحولات. وطبعاً، هنا لا يمكننا الجزم، بشكل انطباعي، بأنّ هذه القيمة اتجهت نحو الاندثار، بل على العكس من ذلك لا زالت تقاوم؛ وهذا ما يبرر حضورها واستمراريتها الآن، إلا أنّ الوضع مختلف عن السابق تماماً. بيد أن تجاوز هذا الولاء معناه الحسم مع نطاق اشتغال الخطّابة.
يسترسل صديقي عادّاً أن احتواء قيم التّعارف قبل الزواج والقبول بها نتاج نماذج مجموعة من التجارب الزوجية الفاشلة التي يشاهدها الشباب المقبل على الزواج، والتي يكون فيها الزوج وأفكاره وقيمه ومستواه التعليمي... إلخ، غير متطابقين مع أفكار الزوجة وقيمها ومستواها والعكس أيضاً. مما يؤدي إلى الطّلاق في نهاية المطاف. بمعنى أن الزواج الذي تصنعه خطّابة أصبح محدوداً أمام اتساع أفق الشباب.
لهذا، أصبح شباب المنطقة يفضلون التّعارف قبل الزواج، تفادياً لأيّ مشكلة مفترضة في زواج كانت "كلمة الفصل" فيه للخطّابة. وهذا التعارف يعني دفن دور الخطّابة والإجهاز على عملية الزواج بشكلها التقليدي عموماً.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...