لا شك أن إحدى أكبر التحديات التي يواجهها الرجال، خاصة في عالمنا العربي، هو التعامل مع صحتهم العقلية، خصوصاً وأنه من الملاحظ أن معدل انتحار الذكور يرتفع بشكل ينذر بالخطر، لدرجة باتت الصحة النفسية للرجل تصنّف على أنها "أزمة صامتة".
وبقدر ما يعتبر الاكتئاب شائعاً بين الرجال، فإن قلّة من الرجال تعترف به، إذ يتظاهر معظم الذكور بأنهم ليسوا متعبين أو حزينين، هذا ويزعمون بأنه بوسعهم التعامل مع أي عقبة تعترض طريقهم، فيعمدون إلى "دفن" مشاعرهم وأحاسيسهم والزعم بأنهم قادرين على بسط سيطرتهم على كل شيء، الأمر الذي ينهكهم نفسياً ويجعلهم غير قادرين على متابعة حياتهم بشكل صحي.
فما هي "الذكورية السامة"؟ كيف تؤثر على علاقة الرجل بمحيطه ولماذا لا يتحدث الرجال عن حالتهم النفسية؟
السلوك السام
إن الذكورية السامة هي عبارة عن تصرفات وسلوكيات معيّنة يتبناها بعض الرجال، كإقدامهم على كبح جماح عواطفهم في المواقف العصيبة، والتصرف بعدوانية وبسط سيطرتهم بالقوة، وفق ما جاء في صحيفة الإندبندنت البريطانية.
واللافت أن الذكورية قد تتجلى بأشكال متعددة، بحسب رأي الممثل والناشط توم روس ويليامز، والذي قال: "إحدى الطرق التي تظهر بها الرجولية في بعض الأحيان، السلوك السام الذي ينتهي دائماً بالعنف"، مشيراً إلى أن هذا العنف إما يسري على الرجال أنفسهم أو ضد أشخاص آخرين.
هذا وأضاف ويليامز: "أعتقد أن العملية ما هي إلا اعتداءات صغيرة تتصاعد إلى درجة يتم فيها ممارسة العنف في العالم".
وعليه يمكن وصف الذكورة السامة كشكلٍ من أشكال الرجولة التي تُعرّف من خلال العنف والجنس والمكانة والعدوانية، كما أن الرجال الذين يُظهرون سلوكاً مرتبطاً بالذكورة السامة غالباً ما ينظرون بصورة نمطية إلى بعض الصفات الأنثوية، كالتأثر العاطفي، على أنها صفات سلبية.
وقبل الغوص في الأسباب التي تدفع بعض الرجال إلى كبت مشاعرهم وأحاسيسهم، قد يسأل البعض: من أين أتت الذكورة السامة في الأصل؟
تكشف الكاتبة إيميلي سي إيه سنايدر، أنه تم استخدام مصطلح "الذكورة السامة" للمرة الأولى من قبل الأخصائي في علم النفس شيفيرد بليس، بين الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي، بحيث بحث بليس في فصل الصفات السلبية للرجال عن تلك الإيجابية، واستخدم مصطلح "الذكورة السامة" كوسيلة للتمييز بينهما.
وشملت الصفات التي عرّفها بليس بأنها "سامة" للرجولة: تجنّب التعبير عن العواطف، التطلّعات الجامحة لفرض الهيمنة الجسدية والجنسية والفكرية، والسعي الممنهج للتقليل من آراء النساء وأجسادهنّ والشعور بالذات لديهنّ.
في هذا الصدد، اعتبرت الناشطة الاجتماعية ساندرين افرام، أن الذكورية السامة في مجتمعاتنا هي وليدة توقعات وأفكار خاطئة يتمسك بها الذكور منذ ولادتهم، بالإضافة إلى نقص الذكاء العاطفي لديهم.
وكشفت افرام أنه في الكثير من الأحيان يكون الفشل مصير العلاقة العاطفية التي تسودها الذكورية السامة، "بحيث يُقدم بعض الرجال على اتخاذ القرارات من تلقاء أنفسهم ومن دون الرجوع إلى شريكتهم، لأنهم، وبكلّ بساطة، يعتبرون أنه من المفترض عليهم أن يعرفوا أكثر من المرأة"، وفق ما قالته لموقع رصيف22.
وأشارت ساندرين إلى أن هناك عدداً لا بأس به من الرجال الذين يشعرون بالخوف من المرأة الذكية والتي تتمتع بطموحات وأهداف كبيرة قد تفوق طموحهم، فيتجنبون الانخراط في علاقة عاطفية معها.
واللافت أن مثل هذه المواقف الذكورية واجهتها ساندرين على المستوى الشخصي: "في إحدى المرات قال لي أحدهم: لا يمكنني أن أكون معك، أنت أفضل مني".
هذا وربطت ساندرين افرام الذكورية السامة بالصورة النمطية التقليدية التي تقول إنه يتعيّن على الرجال أن يبسطوا سيطرتهم على جميع الأمور، أما في حال فقدوا السيطرة فإنهم يشعرون بأنهم فقدوا هويتهم وأنهم على وشك أن يخسروا كل شيء من حولهم، فيتقوقعون على أنفسهم بدلاً من طلب المساعدة، وذلك خشية من نظرة المجتمع.
الوصمة الاجتماعية
صحيح أنه لا يمكن فصل الصحة النفسية عن الصحة الجسدية، إلا أن المثير للإهتمام هو هذه "الوصمة" التي لا تزال تحيط بالرجال الذين يتحدثون بجرأة عن حالتهم النفسية.
في الواقع، إن الرجال الذين يتحدثون بصوت عال عن أي نوع من المسائل النفسية، يمكن أن يتم اعتبارهم ضعفاء وقد يكونوا أكثرعرضة للنبذ بسبب صدقهم وشفافيتهم، وبالتالي عوضاً عن تقدير الرجل على شجاعته في التعبير عن مشاعره الحقيقية، فإن البعض يسخر منه ويقلل من أهمية أحاسيسه.
خلال مرحلة الطفولة يتم تربية الأطفال الذكور على كيفية التغلب على مشاعر الحزن التي قد تنتابهم وكيفية السيطرة على ردود أفعالهم العاطفية، لدرجة تجعلهم يعيشون "بغربة" عن مشاعرهم، ومع التقدم في العمر يشعر معظم الرجال بالقلق من الأحكام التي قد يصدرها المجتمع وألسنة الناس التي لا ترحم في حال أفصح عما يدور بداخله من صراعات واضطرابات نفسية.
والحقيقة أن هذا الموقف التقليدي المتمثل في إقدام الرجل على كبت مشاعره أو تجاهلها، هو أمر قديم وخطير وقد يولد مشاكل نفسية عديدة، لا سيما وأن فكرة البحث عن علاج نفسي تعتبر نقطة ضعف بالنسبة إلى البعض، إذ لا تزال هناك فكرة في ثقافتنا مفادها أن الرجال بحاجة لأن يكونوا أقوياء وأن طلب المساعدة ليس سلوكاً ذكورياً.
كيف تؤذي الذكورة السامة الصحة النفسية للرجال؟
اعتبر الطبيب النفسي الشهير سيغموند فرويد أن الناس يقمعون من عقولهم الواعية ما يعتقدون أنها أفكار مخزية، بمعنى آخر، يدفن الناس في اللاوعي ما يخجلون منه.
والحقيقة أنه في العديد من الثقافات وبخاصة في المجتمعات العربية التي يغلب عليها الطابع التقليدي، يواجه العديد من الرجال صعوبة بالغة في التعبير عن مشاعرهم بسبب "الذكورة السامة" والتي تشجع الرجل على كتم أحاسيسه مقابل تعزيز "هيمنته" في مواقف اجتماعية معيّنة.
خلال مرحلة الطفولة يتم تربية الأطفال الذكور على كيفية التغلب على مشاعر الحزن التي قد تنتابهم وكيفية السيطرة على ردود أفعالهم العاطفية، لدرجة تجعلهم يعيشون "بغربة" عن مشاعرهم، ومع التقدم في العمر يشعر معظم الرجال بالقلق من الأحكام التي قد يصدرها المجتمع في حال أفصح عما يدور بداخله من صراعات واضطرابات نفسية
وبالنظر للمجتمعات التقليدية، نلاحظ أنه ومنذ الطفولة تتم تربية الذكر بطريقة صارمة، بالإضافة إلى مقارنة الصبيان الذكور الذين يعبرون عن مشاعرهم بالفتيات، فيقال لهم: "الصبي لا يبكي"، "كن رجلاً"، "لا تكن مثل الطفل"، "أنت تبكي كالفتيات"...، وهكذا يتعلم الذكر منذ صغره كيف يقمع مشاعره الحقيقية فيعيش حزناً داخلياً وصراعاً بينه وبين نفسه، ومع مرور الوقت يمكن أن يؤدي هذا السلوك إلى اختلال في التعبير العاطفي والاكتئاب.
بمعنى آخر، يفرض المجتمع التقليدي بعض القواعد الصارمة لتربية الذكور، بخاصة وأن هناك اعتقاداً شائعاً بأن الثقة والقوة والهدوء هي العناصر الأساسية للرجل الحقيقي، وأن أي شيء "عاطفي" هو أمر نسائي، وبالتالي يجب خنقه وتجاهله، وبالتالي فإن الرجال الذين ترعرعوا في كنف نظام بطريركي يعزز الذكورة السامة لديهم أحاسيس معقدة تجاه مشاعرهم، فيحاولون في الكثير من الأحيان كتمها أو تجنبها، الأمر الذي يدفعهم للتعبير عن صراعاتهم الداخلية من خلال توجيه الغضب لمن حولهم، مثل شركاء حياتهم أو أطفالهم.
في هذا الصدد، تحدث الأخصائي في علم النفس هاني رستم عن البعد الاجتماعي والثقافي للذكورية السامة وتأثيرها على حياة الفرد وسير عمل المجتمع، فأوضح أن الطفل في معظم مجتمعاتنا العربية يكون "معلّباً" بحيث أنه يخضع لمعايير اجتماعية صارمة، كأن يتم تعليمه المشي بطريقة معيّنة والجلوس بطريقة معيّنة والتحدث بأسلوب معيّن... "وذلك لأنه يتعيّن عليه أن يشبه صورة معيّنة، وبخاصة صورة الأب في المنزل أو حتى صورة الله، وهي فكرة موجودة في اللاوعي"، وفق ما قاله.
وكشف رستم، في حديثه مع رصيف22، أن هذا "التعليب" يخالف جوهر الطبيعة البشرية التي تسير وفق مبدأ الـfluidity (الانسياب)، شارحاً ذلك بالقول: "الإنسان بطبيعته يتطور ويتغيّر وتتبدل أحاسيسه ومشاعره بطرق مختلفة وفق معطيات وعوامل نفسية أو اجتماعية"، وتابع قائلاً: "كلما كان المرء معلّباً، كلما كان ذلك يعني أنه مسجون في صندوق مغلق، رُسمت حدوده، وبالتالي ليس هناك من إمكانية للنمو بشكل فطري".
وعليه اعتبر هاني أن هذه المعايير الصارمة والصور النمطية التي يتربى عليها الطفل تؤثر عليه بشكل كبير في المستقبل، بحيث أنه سيعمد إلى تفريغ هذه المشاعر المكبوتة بمظاهر وطرق عنيفة، كالضرب والأذى، بالإضافة إلى تعامله السيء مع الآخرين، وبالأخص الإساءة إلى النساء في حياته.
لا بأس من أن يشعر الرجل بالإكتئاب. لا بأس من أن يشعر بالإرهاق، لا بأس من أن يشعر بالحزن أو القلق أو الخوف، فهذه كلها مشاعر طبيعية يختبرها كل إنسان، ولكن ما هو غير مقبول هو أن يعاني الرجل بصمت وأن يتمسك بالذكورية السامة التي تدمر صحته النفسية وعلاقاته مع الآخرين
وعن هذه النقطة، يقول رستم: "عبر التاريخ هناك اعتراف علني بأن المرأة تضطلع بدور كبير وعظيم، بالأخص لجهة تمتعها بالقدرة على احتضان الجنين في رحمها والإنجاب، وبالتالي قد يشعر الرجل في عقله الباطني بالخوف من قوة المرأة، الأمر الذي يجعله يقف في المقلب الآخر من خلال العمل على تعزيز الذكورية السامة".
في الختام يجب التأكيد على أهمية أن يتحرر المرء من الصور النمطية والأفكار الخاطئة عن الرجولة، فلا بأس من أن يشعر الرجل بالاكتئاب، لا بأس من أن يشعر بالإرهاق، لا بأس من أن يشعر بالحزن أو القلق أو الخوف، فهذه كلها مشاعر طبيعية يختبرها كل إنسان، ولكن ما هو غير مقبول هو أن يعاني الرجل بصمت وأن يتمسك بالذكورية السامة التي تدمر صحته النفسية وعلاقاته مع الآخرين.
معاً يمكن محاربة الوصمة التي لا يتحدث عنها الرجال الحقيقيون حول مشاكلهم النفسية، عند القيام بذلك يصبح بإمكاننا الإنخراط في محادثة إيجابية لاستبدال الصمت الضار الطويل. إن مشاكلنا العقلية أصبحت تقتلنا حرفياً، وهذا يجب أن يتوقف.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...