تتحدث بياتريس ديدياي عما سمته بهوس كتّاب اليوميات بتخزين وتدوين كل شيء، حتى أن بعضهم يجري تعديلات على مخطوطه أثناء مراجعته أو طباعته على الآلة الكاتبة، أو قبيل دفعه للنشر، فأندريه جيد مثلاً، لا يتردّد أحياناً في إتلاف قسم كبير من عمله لأنه رآه زائداً، بعد أن باعد بين لحظة الكتابة ولحظة القراءة والتحرير الثاني. وكاتب اليوميات يبدو في بعض الأحيان كالمصاب بداء التخزين القهري Compulsive hoarding، فالكتّاب يشعرون طوال الوقت بأن عليهم أن يخزّنوا كل شيء فقد يحتاجون تلك الذكريات، تماماً كما يشعر مريض الاكتناز القهري بالحاجة لاستخدام تلك المقتنيات التي دخلت بيته حتى ينتهي إلى تجميع القمامة من الشارع وحشو بيته بها.
إن تسجيل هذا الركام من الذكريات الذي يجتاح كاتب اليوميات، بعضه ما عاشه في ذلك اليوم وبعضه في شكل استطرادات ومقاطع من السيرة الذاتية والذكريات البعيدة استحضرتها محفزات لحظة الكتابة، من شأنه أن يجعل من دفتر اليوميات ينتفخ ويزدحم بالعناصر والمواد والخامات، إذ تتداعى الذكريات محمّلة صوراً شخصية وعائلية وقصاصات جرائد وبطاقات بريدية ورسائل، بل يعكف بعض كتاب اليوميات على رسم تلك الأماكن التي زاروها أو الناس الذين قابلوهم. لذلك يتحدث فيليب لجون عن أن اليوميات الخاصة هي أثر واحد في نسخة واحدة، ويقصد المخطوطة، خاصة إذا كانت سجلت بخط اليد.
وهذا البعد التراكمي لليوميات والذي يتحوّل إلى أكوام من الورق لمن ألزم نفسه بالكتابة يوماً بيوم، ينقلب في لحظة إلى أمر يثقل كاهل الكاتب ويشعره بالإحباط، كما حدث مع أميال عندما وقف يحصي الصفحات التي أنجزها خلال عشر سنوات ليصرخ في وجه نفسه في اليوميات نفسها: "ما فائدة الـ 16300 صفحة لهذه اليوميات؟".
تقول احدى شخصيات رواية "يوميات" للروائي الأمريكي تشارلز مايكل تشاك بولانيك: "خط يدك. الطريقة التي تمشي بها. الصحن الصيني الذي تختاره. كل هذا يمنحك بعداً. كل ما تفعله يكشف عنك. كل شيء هو صورة ذاتية. كل شيء يوميات". بقدر ما تشير هذه المقولة في بدايتها إلى أن اليوميات هي التوقيع الخاص للفرد في العالم وأثره الخاص الذي يتركه، فإن خاتمتها تشير إلى أمر آخر متعلق بصنعة اليوميات وانفتاحها على إمكانيات حضور متعدّد. فكما هي الرواية التي صنعت بطابعها الإسفنجي صورتها الامبريالية من خلال قدرتها على الاستحواذ وامتصاص الفنون والخطابات حتى استحالت عن الضبط والتقعيد. فلا نكاد نقع لها على تعريف جامع مانع بحكم تحركها الدائم كخذروف في الحركة، كذلك تنهض اليوميات أكثر من الرواية، لأنها لا تكتفي بامتصاص الخطابات الأخرى أو الاستحواذ على مجالات أخرى، إنما تصل إلى درجة الالتباس بها وتقمّصها ومحو الحدود بينها كيوميات وموادها، ما يعطيها بعداً حربائياً يجعلها تتلون بلون الحقل الذي تتفاعل معه وتذوب فيه.
فهي مسرحية وفيلم ورواية ومعرض فنون تشكيلية وكتاب تشكيلي وكتاب فوتوغرافي وهي كتاب أعمدة صحفية ومقاطع موسيقية وتغريدات وتدوينات على المدونات أو في صفحات التواصل الاجتماعي. ولا يمكن أن نرجعها إلى فن اليوميات إلا بالنظر في ميثاقها الأجناسي الذي قد يكون مضللاً إذا ما توغل الكاتب في اللعب والتجريب من داخل الفن نفسه.
لماذا نكتب اليوميات؟
ترتبط النشاطات البشرية دائماً بسؤال الغائية. ما الذي يجعلنا نفعل ذلك الأمر وما الذي يجعلنا نستمر في فعله إذا ما فعلناه؟ فالفعل البشري غائي دائماً وهادف. صاحب هذا السؤال نشاط الكتابة منذ النشأة إلى اليوم، بما في ذلك الكتابة الأدبية. وضع جان بول سارتر، في كتابه "ما الأدب؟" السؤال عن جدوى الكتابة في المرتبة الثانية بعض سؤال المفهوم في باقة أسئلته الشهيرة: "ما الكتابة؟ لماذا نكتب؟ لمن نكتب؟"، ويتساءل عن سر اختيار الكتابة وسيلة للهروب من الواقع كما يدعي البعض.
إذا اعتبرنا أن اليوميات فن من ناحية، وهي كتابة في أهم تمظهراتها، حق لنا أن نتساءل عن غاياتها وما الذي يدفع بالمرء لممارسة هذا النشاط اليومي والذي يلازم بعض كتاب اليوميات سنين طويلة؟
فـ" الفن لدى بعض الناس هروب من الواقع، ولدى بعضهم الآخر تغلب. لكن في استطاعة المرء أن يهرب من الواقع بالرهبانية، أو الجنون، أو بالموت، كما يمكن التغلب بقوة السلاح. فلماذا إذن يختار المرء الكتابة دون غيرها؟"، وإذا اعتبرنا أن اليوميات فن من ناحية وهي كتابة في أهم تمظهراتها، حق لنا أن نتساءل عن غاياتها وما الذي يدفع بالمرء لممارسة هذا النشاط اليومي والذي يلازم بعض كتاب اليوميات سنين طويلة؟
أغراض اليوميات
يشير المنظّر الفرنسي فيليب لوجون في "هكذا تحدث فيليب لوجون" إلى أن اليوميات فن خاص، لأنه يمكن أن يصاحب كل أبعاد حياتنا، فهناك يوميات للحلم وأخرى للمآتم أو الحرب، أو العناية بالحديقة، أو المطبخ أو التربية أو المطالعة والأمراض والشغل والعطل إلخ..." وهذا التعدّد للأغراض والتيمات يحيل على تعدد حاجات التسجيل وغاياته.
يرى البعض أن ما يعيشونه، إن كان على المستوى الذاتي أو الجماعي، يكتسي أهمية ما يدفعهم إلى تسجيلها يوماً بيوم. بعض هذه التجارب مقترن أهميته بالخطر والحزن وبعضها مرتبط بالفرح والسعادة أو بالمعرفة، ولئن كانت اليوميات التي كتبت مدفوعة بمشاعر الخوف كانت أكثر حظاً في التلقي بسبب ميل القارئ إلى قراءة التجارب المؤلمة، فإن اليوميات التي لم تكن مرتبطة بالكوارث والخطر بشكل عام كانت أقل حظاً.
البحث عن شريك
افتتحت رينيا شبيغل يومياتها بهذا التساؤل: "لماذا قررت أن أبدأ يومياتي اليوم؟ هل حدث شيء مهم؟ هل اكتشفت أن صديقي يحتفظ بمذكرات خاصة به. لا! أنا فقط أريد صديقاً، أريد شخصاً يمكنني التحدث إليه حول مخاوفي اليومية وأفراحي. شخص سوف يشعر بما أشعر به، ويؤمن بما أقول ولا يكشف أسراري. لا يمكن لأي إنسان أن يكون هذا النوع من الأصدقاء، ولهذا السبب قررت البحث عن شخص مقرب من شكل اليوميات.
اليوم يومياتي العزيزة. هي بداية صداقتنا العميقة. من يدري كم ستستمر؟ قد تستمر حتى نهاية حياتنا.
أعود إليك وستستمعين لأفكاري ومخاوفي، لكن لن تكشفيها أبداً لأي شخص آخر، ستظلين صامتة مثل كتاب مسحور، محبوسة بمفتاح سحري ومخبأ في قلعة ساحرة. لن تخونيني".
ترتبط النشاطات البشرية دائماً بسؤال الغائية. ما الذي يجعلنا نفعل ذلك الأمر وما الذي يجعلنا نستمر في فعله إذا ما فعلناه؟ فالفعل البشري غائي دائماً وهادف. وقد صاحب هذا السؤال نشاط الكتابة منذ النشأة إلى اليوم
بدا من خلال هذا المقطع الافتتاحي لليومية الأولى أن الكاتبة وضعت أسساً ليومياتها عبر تحديد غاياتها الكبرى وهو الاصغاء وكتم الأسرار. لم تكن الكاتبة تعلم ما ستسجله كما يحدث عادة في السير الذاتية لأن الأحداث التي ستصنع الأسرار مازالت لم تحدث. غير أنها وضعت أفقاً للتلقي .
محاولة إثبات الوجود
يعتبر سؤال الغاية واحداً من الأسئلة الثابتة التي تواجه كاتب اليوميات، خاصة أن اليوميات نشأت في الصمت، أي أن غاية المشاركة لم تكن موجودة. ومع ذلك فهي تنطلق من الحاجة إلى إعلان الوجود، أو ما يمكن أن نسميه بالخروج على العالم، ولو كان هذا العالم كله مجرّد سر مقفل لا يرى النور. يصف جان بول سارتر المسألة بـ" حاجتنا إلى الشعور بأننا ضروريون بالإضافة إلى العالم". فنحن لا نتمظهر لأنفسنا إلا من خلال أفعالنا وإنتاجنا. وهكذا تلبي ممارسة اليوميات حاجة عميقة لإعلان هذا الوجود للذات قبل العالم بتحسس الأثر الذي تفعله وهو تسجيل اليوميات.
إنها الطريقة المثلى لإثبات الذات في غياب فعل ينتزع اعترافاً من الآخر بوجودنا، حتى لو كنا في عمق اليأس. إنها الفعل الميكانيكي العبثي الوحيد الذي يبقينا على قيد الحياة. يصفه غسان كنفاني بالفعل الإجباري: "هأنا ذا أكتب من جديد... يوميات كريهة لحياة كريهة تنتهي بموت كريه، مستشعراً كم أنا مجبر على أن أكتب، كم أنا مجبر على أن أموت، كم أنا مجبر على أن أعيش".
ومن مظاهر العبثية التي يتحرك بها فعل تسجيل اليوميات هو الاعتراف فيها ذاتِها بأنها بلا جدوى وليس لها أي قيمة، ومع ذلك يستمر تعلّق الكاتب بها، كيوميات أندريه جيد التي هجا فيها عمله مرات، ولكنه كان كالمدمن، يحتاج إلى إنهاء المزيد منه ليستمر بالعيش. يقول في يومية بتاريخ 13 كانون الأول/ديسمبر: "أتشوق لإنهاء هذا الدفتر؛ فأنا لا أكتب فيه شيئاً له قيمة؛ لكني لن أتركه إلا منجزاً".
إن اثبات الوجود هنا يتمظهر من خلال في فعل التسجيل لا من خلال معنى الفعل وقيمته. إنه فعل يرحل بالكتابة نحو فعل إيروسي وفحولي هنا، يكتسب قيمته ولذته بانجازه.
حفظ التجربة العامة
يمكننا أن ندرج هنا اليوميات التي تنهض كشاهدة على العصر أو فترة تاريخية معينة، مرتبطة بالحرب أو بالسلم، بعالم السياسة أو الثقافة.
تعبر يوميات المؤرخ والروائي المغربي عبد الله العروي "خواطر الصباح" التي وضعها في ثلاثة أجزاء، من اليوميات العربية النموذجية التي تناولت الشأن العام العربي، وخاصة السياسي منه، طيلة أربعين عاماً.
يقول: "شرعت في تسجيل هذه الخواطر وأنا تلميذ في ثانوية مراكش سنة في 1949. استعملت جزءاً منها في كتاباتي السابقة، وبخاصة في اليتيم 1978 وأوراق 1998. لم أحتفظ بكل أسف بالمسودة. أستهلّ هذا الجزء بخواطر صيف 1967 حيث اندلعت الحرب العربية الإسرائيلية الثانية، وأتوقف سنة 1973 في أعقاب الحرب الثالثة، ولقد استغنيت عن بعض الخواطر التي تتعلق بالوضع الداخلي المغربي".
تعبر يوميات المؤرخ والروائي المغربي عبد الله العروي "خواطر الصباح" التي وضعها في ثلاثة أجزاء، من اليوميات العربية النموذجية التي تناولت الشأن العام العربي، وخاصة السياسي منه، طيلة أربعين عاماً
وتبدو النية واضحة من أول يومية 8 أيار/جون 1967 وهو تسجيل الوقائع التاريخية السياسية والتعليق عليها:
"بعد 19 سنة، قضي الأمر وضاعت فلسطين بكاملها. مؤقتاً في أحسن الاحتمالات. وطيلة هذه السنوات تعزّزت الصهيونية بانتظام، بقوى غير ذاتية أساءت إلى العرب وتطلعاتهم. نجحت خطة إسرائيل: حرب قصيرة وسلام مفروض.
سبب النجاح واضح: نظام عبد الناصر ضعيف سياسياً. اعتمد بالأساس على مساعدة الشيوعية الروسية دون أن يدرك في الوقت الملائم أن طبيعتها تغيرت. لم تتخلّ أمريكا عن إسرائيل في حين أن روسيا تخلّت عن العرب".
ثم يتوسع المؤرخ ليحلّل نتائج الحرب وخسارات القومية العربية وانتهاء سياسة عبد الناصر ومكاسب الفكر الصيني والإمبريالية الأمريكية وسيطرتها على الأراضي العربية وعلى البترول.
يفضح عبد الله العروي النظام الناصري في اليومية الموالية بتاريخ 10 أيار/جون حين يكتب: "خطاب البارحة [9] مؤثر وصريح، يدعو إلى الرثاء. لاعب خانه الحظ، لم يتوفر لديه الورقة الرابحة. ففسّر [الطرح]
أول انطباع: كلام برجوازي صغير في ميناء معناه. الرئيس هو الرئيس قبل وبعد الخطأ والهزيمة. بعد لحظة: هذا تراجع تكتيكي. يتخلى لكي يعود.
سياسياً، هذه هي الهجمة المضادة الخاطفة التي كنا نتمناها في الميدان والتي لم تحدث. يقدم نفسه على الفور، في أعقاب الهزيمة، أمام المحكمة التي تبرّئ ساحته في الحين. وفي الوقت نفسه يبرّئ ساحة الجيش. أوليس هو لب المشكل؟ لا خوف على البيروقراطية. لن تمس مصالحها.
المسؤول الوحيد عن الهزيمة، حسب التحليل، هو تراخي السوفيات.".
يسترسل عبد الله العروي في كشف رؤيته للهزيمة، محملاً عبد الناصر كل المسؤولية، لأن "عروبة مصر مصلحية في الأساس، أحادية الاتجاه، كما كانت جرمانيا بروسيا"، وهزيمة عبد الناصر مرجعها اعتماده على الغير و"لا تحرير أبداً بمساعدة الغير".
وعلى هذا الشكل تتواصل يوميات عبد الله العروي: الحدث أولاً ثم التعليق عليه. وهنا يمكننا أن نستشف غاية اليوميات، وهو تحليل الأحداث والتعليق عليها وهي بعد ساخنة، قبل أن تلفها التحريفات من مؤرخي السلطة أو الأيديولوجيا.
لا يمكن حصر أغراض ودوافع كتابة اليوميات، لأنها متعدّدة بتعدّد كتّاب اليوميات وحاجات البشر المتنوعة والمختلفة، وضبطها في خانات عامة أو الإشارة لأغلبها والمهيمن منها ليس سوى محاولة لفتح نوافذ على هذا الفن المنتشر غرباً والذي يشهد خطواته الأولى عربياً، كفعل فني وأدبي
أما د. أحمد حجي فقد بدا واضحاً في بداية تصديره لكتابه في تحديد غايته من تسجيل يومياته، عندما كتب في 5 نيسان/أبريل 1979: "منذ أن وصلت إلى جبهة القتال في الخط الأمامي، تلح عليّ ذكرتي أن أسجّل ما يحدث وما يجري في مواجهتنا للعدو الصهيوني، وأقول حقيقة بأن الذي أكتبه وما يجري به قلمي ليس إلا النزر اليسير.
وإذا لم توافني منيتي أو يدركني الموت فسوف أقصّ على شعبنا مأساة مقاومته للعدو، وبطولات جنوده وبسالتهم... أما إذا كانت نهايتي ستكون على أرض القناة، فسأموت مستريحاً، لأن أفكاري وجدت طريقها ولم تعجز عن الحركة... وبذلك تكون هذه المذكرات هي حديث الرصاص الذي يجب أن تتكلّم به قضية شعبنا".
لقد أراد أحمد حجي أن تكون اليوميات بديلاً عن التاريخ الرسمي، وأن تكون الشهادة الميدانية من ساحة القتال التي لا تنافسها في نقل الأحداث ووقائعها وثيقة، ومن ثم فإننا نستطيع أن نخمّن موقفا للكاتب مما يسجل ويروّج عن الحرب في الأوساط الرسمية والإعلام الرسمي.
تطوير الكتابة الإبداعية ومقاومة عقدة الصفحة البيضاء
يربط الكثير من الكتاب تعلقه بكتابة اليوميات بفكرة رياضة الفكر وتقوية العضلات الإبداعية، وهذا ما تتبناه الكاتبة الفرنسية الأمريكية أنييس نن، التي تشبّه الكتابة اليومية بالعزف على البيانو كل يوم لكسب المهارة. تقول في مؤلفها "رواية المستقبل": "الكتابة كل يوم كممارسة الضرب على البيانو، كل يوم تمنح المرء الرشاقة، ثم حين تأتي لحظات الإلهام العظيمة، يغدو المرء ذا شكل جميل، طرياً ناعماً. والكتّاب الذي لا يدرّبون، ويجلسون وينتظرون لحظة الفيض العظيمة، كثيراً ما يجدون أصابع كتابتهم تصدأ في لحظة انطلاقها، وإذا كان لها أن تنطلق". وتعتبر أنييس نن أنها طريقة مثلى، خاصة للكتّاب الشباب لكي يطوروا من أسلوبهم وينموا عضلات الخيال.
لئن استبعد النقّاد أن يكون الذهاب إلى كتابة اليوميات ناتج عن إفلاس إبداعي وقلة الإنتاج، واستشهدوا بتولستوي وديستوفسكي وجورج أورويل وفرجينيا وولف وكافكا، فإن الكتاب أنفسهم كثيراً ما كانوا في يومياتهم يتحدثون عن معاناتهم مع الخلق الإبداعي وانحباسه. بعضهم يتحدث عن عقدة الجملة الأولى، والبعض الآخر يتحدث عن التقدم في العمل، وبعضهم خصص يوميات برمتها للحديث عن المعاناة في إنجاز عمل إبداعي، كالكاتب العراقي حسن مطلك الذي أعدمه صدام حسين في يومياته "العين إلى الداخل" .
يقول حسن مطلق في أول يومية بتاريخ 4 أيار/جون 1983: "أنهيت دراستي الجامعية. جالس الآن في غرفتي، في قريتي، أقرأ وأستمع إلى الموسيقى. لقد عزمت على شيء... وإني لأرتجف حتى في الكلام عنه: أن أكتب رواية... يا للهول...!
روايتي الأولى ستكون كافية لقتلي أو إحيائي... وإنني خائف أيما خوف.
إنني أستجمع قوتي للوثوب، للافتراس، للبدء في الكتابة... يا له من عمل شاق... أتهرب منه مثلما أشتاق إليه".
إن الشروع في تسجيل اليوميات متزامن مع قرار كتابة الرواية الأولى ومدفوع به في آن، لأن مشاعر الخوف التي اجتاحت حسن مطلك من قراره هي التي جعلته يشرع في كتابة اليوميات وكأن الكتابة، كتابة الرواية تحديداً، هي سر خطير وثقيل عليه أن يجد من يشاركه في حمله ليتحمّله ولم يجد غير دفتر اليوميات ليكون ذلك الصديق الوفي على عادة كتاب اليوميات عبر تاريخ هذه الفن.
علاج الأزمات النفسية
من أشهر التعريفات للكتابة هي تلك التعريفات النفسية باعتبارها نشاطاً علاجياً للشفاء من أمراض قديمة مدفونة أو طارئة، ويعتبر تسجيل اليوميات شكلاً من أشكال هذه الكتابة التي تطمح إلى أنقاذ النفس من تلك الأمراض. فهي نشاط مقاوم ليس بارتباطها بمصاحبة الأمراض المميتة، تلك الأمراض الأكثر وضوحاً، كالسرطان والسيدا التي كتبت فيها مئات اليوميات، مثلاً، لكن تلك الأمراض النفسية، بداية بالاكتئاب إلى أثر الصدمات والخيبات والخسارات من موت الأقارب وحوادث الاغتصاب والتحرّش والتحولات العقدية أو الجندرية.
يشرع الكاتب في تسجيل يومياته أحياناً بطلب من الآخرين، كما حدث في الحرب العالمية الثانية في هولندا، عندما طلب رئيس الحكومة المنفي من مواطنيه أن يسجلوا يومياتهم لإدانة النظام النازي بعد ذلك، واستجاب بعض الجنود في الحرب العالمية الأولى لطلبات أصدقائهم وأقاربهم بتسجيل يومياتهم، كما استجاب بعض المدنيين من الكبار والصغار، وكانوا يقدمون لهم وصفات لليوميات وخططاً ومفاهيم لها، كما هو الحال مع الطفلة بيتي كوهر التي تلقت هذا الطلب من أمها:
"1 آب/أغسطس 1914
من اليوم ألمانيا في حالة حرب. تقول والدتي إن علي أن أكتب يوميات عن الحرب. إنها تعتقد أنه سيكون مفيدة لي عندما أكبر. هذا صحيح. عندما أبلغ الخمسين أو الستين من عمري، فإن ما كتبته عندما كنت طفلاً سيبدو غريباً. لكن كل هذا سيكون صحيحاً لأنه يجب ألا تكذب في يوميات..
بدأ الصرب ذلك. انضمت النمسا والمجر وألمانيا وصربيا وروسيا وفرنسا. ليس لدينا أي فكرة عن شكل الحرب. هناك أعلام على جميع المنازل في المدينة، كما لو كنا نقيم مهرجاناً. هم الأسود والأبيض والأحمر".
بيتي كوهر. تلميذة ألمانية عمرها عشر سنوات
كما هو واضح من اليومية لم تكن بيتي كوهر التي ستصبح بعد ذلك راقصة وممثلة وشاعرة ومؤلفة ألمانية شهيرة، تفكر في كتابة اليوميات قبل أن تطلب منها أمها ذلك. غير أن بيتي كانت تكتب الحرب بطريقة أخرى أيضاً، عبر استمرارها في الرقص ومعارضتها للحرب وتعلقها بعد ذلك بالمسرحي اليهودي ليونارد شتيكل الذي تزوجت منه وغادرت ألمانيا باتجاه سويسرا، وهناك واصلت نضالها ومقاومتها للحرب عبر الكتابة والفن، ولم تظهر يومياتها إلا بعد سنوات تحت عنوان"هناك سنلتقي مرة أخرى".
وتعتبر اليوميات الروحية تقليداً غربياً في الثقافة المسيحية، حيث تزدحم المكتبات بالمفكرات والدفاتر الجاهز لخوض تلك التجربة الروحية والدينية عبر فن اليوميات، إن كان ذلك مرتبطاً بالتعمق في التجربة الدينية أو تسجيل تجربة التحول الديني.
والحق أنه لا يمكن حصر أغراض ودوافع كتابة اليوميات، لأنها متعدّدة بتعدّد كتاب اليوميات وحاجات البشر المتنوعة والمختلفة، وضبطها في خانات عامة أو الإشارة لأغلبها والمهيمن منها ليس سوى محاولة لفتح نوافذ على هذا الفن المنتشر غرباً والذي يشهد خطواته الأولى عربياً، كفعل فني وأدبي.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...