لئن كانت اليوميات، من جهة، هي الفن الأكثر حميمية وملامسة لدواخل الذات، وإذا كانت العواطف، من جهة أخرى، هي الأمور الأكثر تعقيداً في تركيبة الكائن البشري بتحولاتها وتغيراتها، وهي الأكثر هيمنة على سلوكه وتفكيره، ما يجعل الكائن البشري كائناً عاطفياً بالدرجة الأولى، فإن هذا ما يرشح اليوميات لتكون الفن الأكثر تعبيراً عن هذا الكائن العاطفي.
فلا يمكن أن نغفل عن أن اليوميات ترعرعت تحت وسائد الفتيات في اليابان وأوروبا مضمخة بدموعهن، لتظل ظاهرة الاحتفاظ باليوميات مرتبطة بعالم المراهقين إلى اليوم بالتوازي مع ممارستها كنشاط فني، وظلت علاقتها بالبوح العاطفي قائمة حتى مع كبار المؤلفين والفنانين، وهذا ما تؤكده مدونة اليوميات العالمية، وخاصة منها اليوميات الكلاسيكية والمتعلقة بالحياة الخاصة للكاتب والمعروفة بـ"اليوميات الحميمة"، تلك التي تكشف لنا الهشاشة العاطفية لكتّاب اليوميات، فعدد من مشاهيرهم يعاني من الإخفاق العاطفي: فرانز كافكا وفرناندو بيسوا وتشيزاري بافيزي وغسان كنفاني وهانس كريستيان أندرسون وفرجينيا وولف وأنييس نن واندريه جيد والشابي...
العزلة والحب
ليس هناك من كتابة تتطلب العزلة والسرية كما اليوميات، فهي الممارسة الأكثر سرية في حيوات الكتّاب، حيث ينسحب الواحد منهم نحو محرابه الخاص لممارسة هذا الفعل؛ تسجيل اليوميات، كما ينسحب الكائن البشري من الفضاء العمومي إلى الفضاء الحميم والسري لممارسة الحب. فالحب بمفهوميه؛ الجنس والعواطف، لا يمكن أن يتدفق إلا في السر وفضاء العزلة، باعتباره ينتمي إلى عالم الحميم؛ "الانتيم". وهما، ونعني ممارسة الجنس وإعلان العاطفة، يُشوّشَان ويُشوّهان في الفضاء المشترك والمعلن.
وبالرجوع إلى أصل كلمة intime الفرنسية وأصلها اللاتيني intimus، تتكشف لنا صلة ما يعرف بـ"الأدب الحميم" بالعالم الداخلي للذات، مقارنة ببقية أنواع الأدب الأخرى التي يمكن أن ندرجها في عالم الاكستيم extime؛ العالم الخارجي والمشترك والجمعي. وهو ما يتقاطع مع المعنى المعجمي العربي وتؤكده الإحالة على معنى القرب في قوله تعالى في سورة الشعراء: "فما لنا من شافعين ولا صديق حميم"، وإحالة على الساخن في وصف ماء الشرب في جهنّم كعقاب أخروي، يقول تعالى: "والذين كفروا لهم شراب من حميم"، وبإرجاع هذه المعاني كلّها إلى اليوميات باعتبارها اعترافات يومية على النفس للنفس ومكابدة التعرّي والحرص على إخفاء ذلك عبر وجوب بقاء التجربة في السرّ نصل إلى معنى العذاب الذاتي.
وكل هذا يدفع بممارسة اليوميات لتكون فعلاً شبقياً ذاتياً يطلب صاحبه اللذة متحملاً الألم وحده، دون نية في امتلاك شريك غير دفتر اليوميات نفسه.
هانس فرخ البط القبيح
قليلون الذين يعلمون بحزن ملك الخرافة وأدب الأطفال، الكاتب الدنماركي الكبير هانس كريستيان أندرسون، صاحب القصص الشهيرة؛ "ملكة الثلج"، "عقلة الإصبع"، "بائعة أعواد الثقاب الصغيرة" و"فرخ البط القبيح". كان رجلاً خجولاً وعاشقاً أبدياً لم يسعفه الحب أبداً، وظل معلقاً بمشاعر من جهة واحدة.
تذكر الحكايات حول سيرته أنه وُجد ميتا في الرابع من آب/أغسطس عام 1875وعلى صدره صندوق به رسالة طويلة من ريبورغ فويغت، حبيبته التي رفضته أيام الشباب. عاش هانس حياته كاملة يتلقى الرفض من كل الفتيات اللاتي تجرأ على التصريح لهن بحبه. ولم تكن مغنية الأوبرا السويدية جيني ليند استثناء، ولم تنفع قصته "العندليب" التي كتبها من وحي حبه لها والتي منحتها لقب "العندليب السويدي"، في جعله يتمتع بذلك الحب، بل كانت تذكّره كل مرة أنه ليس أكثر من أخ وأن مشاعرها نحوه لا ترتقي إلى مشاعر امرأة نحو رجل.
كانت يومياته التي ظل يكتبها طيلة خمسين سنة، من 1825 إلى سنة 1875، مسرحاً لإفراغ تلك الخيبات وذلك الحزن الذي احتله طوال حياته، وانعكس على قصصه وخرافاته، حتى أنه عندما يسأل عن نفسه أو عن الصعوبات التي واجهته ليحقق ذلك النجاح يرد: اقرؤوا "فرخ البط القبيح".
إن هذه الإشارة لهذه القصة بالذات تعكس في جانب منها وعياً من الكاتب بأنه كان منبوذاً لشكله، وأن نجاحه الأدبي لم يحقق له السعادة، فلا أحد يعلم بمشاعر فرخ البط القبيح في نهاية القصة سواه.
يكتب كريستيان أندرسون بيومياته يوم 20 أيلول 1825: "ما الذي يمكن أن أكونه؟ ما الذي سأصير عليه؟ مخيلتي الحية تأخذني الآن إلى بيت المجانين ومشاعري العنيفة تدفعني إلى الانتحار. سابقاً، كان يمكن لهذا التعالق أن يجعل مني شاعراً عظيماً. يا إلهي...".
غسان كنفاني: إنني لا أخاف الموت، ولكني لا أريد أن أموت ...لقد عشت سنوات قليلة قاسية، وتبدو لي فكرة أن لا أعوض فكرة رهيبة... إنني لم أعش قط... لذلك فأنا لم أوجد... ولا أريد أن أغادر دون أن أكون، قبل المغادرة موجوداً...
كنفاني العاشق المتيم
عاش الكاتب الفلسطيني غسان كنفاني قصة حب كبيرة مع الكاتبة السورية غادة السمان، تعرّف القراء على بعض تفاصيلها في كتاب "الرسائل" الذي نشرته غادة السماء إثر اغتيال غسان كنفاني، غير أن يوميات غسان كنفاني التي نشرت منذ سنوات قليلة تكشف جانباً آخر من الحكاية العاطفية التي جمعت بين الكاتبين، وبدا فيها غسان كنفاني معترفاً بحبه لغادة، ولكنه يتهرّب منه محاولاً التخفيف عنها في اليوميات، ويطلب منها أن تصّعد العلاقة إلى علاقة صداقة، ويربط هذا الطلب وهذا التخلي بقدر الموت الذي يحاصره نتيجة مرضه، ولا يريد لحبيبته أن ترتبط برجل ميت حتماً.
يقول واصفا العلاقة التي تربطه بغادة السمان يوم 21 شباط/فبراير 1960:
"كتبت اليوم رسالة إلى (...) ( و(...) كانت قصة حب بلا شك، أما الآن فهي مأساة... إن رسائلها الأخيرة لي كانت تحمل طابعاً خاصاً. كأنها كانت تريد أن أقول موقفي بوضوح كي تعرف ماذا يتعين عليها أن تفعل. وهذا من حقها بلا أدنى شك. لقد كتبت لها رسالة اليوم حاولت أن أكون فيها مخلصاً لها ولنفسي".
ويضمّن غسان بطريقته الفنية رسالته في اليومية، وفيها ينطلق الكاتب من تشخيص حالته الصحية التي تتدهور يوماً إثر يوم: "أنا مشوش جداً... لذلك تبدو أفكاري مهزوزة. والذي يشوشني خبر زفّه الطبيب إليّ ظهر أمس. لقد بدأ هذا القلب المسكين يتعب... إنه يخفق بلا جدوى... وحينما أنظر الآن إلى الأشياء أحسّ بأنني خارجها... إنها مسحوبة من المعقول... إنني لا أخاف الموت، ولكني لا أريد أن أموت ...لقد عشت سنوات قليلة قاسية، وتبدو لي فكرة أن لا أعوض فكرة رهيبة... إنني لم أعش قط... لذلك فأنا لم أوجد... ولا أريد أن أغادر دون أن أكون، قبل المغادرة موجوداً... أتعرفين الذي أعنيه؟ إن شعوري غريب جداً... شعور إنسان كان ذاهباً إلى مكان ما كي يتسلم عملاً ملائماً، فمات فجأة في الطريق... إن شعوري الآن هو هذه (الفجأة) بالذات...".
كانت هذه اليومية من أطول يوميات غسان كنفاني وبدت مكتوبة بعقلانية ومنهجية على غير عادة اليوميات التي تأتي متشظية ومشوّشة، فبعد طرح الموضوع ونسخ الرسالة التي كشفت عن مرضه الذي يدفعه إلى التخلي عن علاقته بغادة، يعود غسان ليحلل ويؤكد على أن هذا التخلي يأتي من عدم رغبته في توريط أحد معه، حتى لا يشعر بالذنب وأنه تسبب في تعاسته.
بعد أقل من سنة يتزوج غسان كنفاني من آني هوفر؛ مدرسة دنماركية التقاها في يوغسلافيا في مؤتمر طلابي، زارت بعد ذلك لبنان ورافقها غسان في زيارة إلى المخيمات للتعريف بالقضية الفلسطينية، وطلب يدها بعد أقل من عشرة أيام من تعارفهما، ليتزوجا يوم 12 ديسمبر 1961 ويرى أنه عرض عليها الزواج قائلاً:
"هل تتزوجيني؟ أنا فقير لا مال لي ولا هوية. أعمل فى السياسة ولا أمان لي. وأنا مصاب بالسكري".
ولكن لماذا لم يخف غسان كنفاني من الارتباط بآني الدنماركية؟ أين كان ذلك الإحساس باليأس والشعور بالموت القريب؟ هل كان حباً من أول نظرة أم هو هروب من حب مميت آخر، احترفت فيه غادة السمان فن الغواية الشرقية القاتل، عبر الشد والجذب، حتى قرر غسان أن ينسحب من اللعبة؟ ليس هناك من إجابة إلى الآن عن حقيقة قرار غسان كنفاني بوضع حد للعلاقة، والتي حاولت غادة السماء بعد ذلك بنشرها لرسائل غسان أن تؤكد أنها كانت معشوقة غسان الأبدية. كانت الرسائل فعلاً تظهر ولعه بها وهيامه الروحي والجسدي، وكان لا يخفي عشقه ولا اشتهاءه لها رغم زواجه.
إن فن الترسل مرتبط ارتباطاً وثيقاً بفن اليوميات، لذلك يتقاطعان ويتداخلان، فكلاهما كتابة حميمية، الأولى للآخر الحميم والثانية للذات الحميمة، لذلك لا يمكن قراءة قصة الحب التي جمعت بين غسان كنفاني وغادة السمان من اليوميات دون استحضار الرسائل التي نشرتها غادة السمان. كشفت تلك الرسائل أن علاقة الحب ظلت مستمرة من ناحية غسان كنفاني، وظل يراسلها ملتاعاً حتى بعد أن كتب لها رسالة التخلي التي أوردها في اليوميات، وبعد سنوات من زواجه بالدنماركية وانجابه لابنيه وآخر رسائله كانت بتاريخ 25 آب 1968. ومع ذلك تبقى تلك العلاقة لغزاً، فلم تضمّن غادة رسائلها في الكتاب المنشور ولا نشرت عائلة غسان رسائلها.
إن ما تكشفه الرسائل، وهي امتداد لليوميات، هو واقع الإخفاق العاطفي لغسان كنفاني وتواصله بعد الزواج والإنجاب، ولا نعلم إذا كانت تلك المقاطع من يومياته التي دفعت بها زوجته الدنماركية إلى مجلة الكرمل لنشرها، والتي جُمّعت بعد ذلك في كتاب مع يومياته الصحفية، هي كل اليوميات التي كتبها كنفاني، أم أن العائلة أعدمت أو أخفت بقية اليوميات لأسباب قد تكون متعلقة باستمرار هذه العلاقة بين غسان كنفاني وغادة السمان.
فالزوجة لم تسمح إلا بيومية واحدة كانت إعلان تخلي غسان عن غادة، تلك اليومية التي نسخ فيها رسالته التاريخية. ويبدو من سياق الأحداث وردّات الفعل أن إقدام غادة السمان على نشر رسائل غسان كنفاني التي وجهها لها، ورغم المقدمات الطويلة التي حبّرتها، كانت ردة فعل على نشر اليوميات وتلك اليومية بالذات، خاصة أن قرار النشر يأتي من "غريمتها العاطفية" زوجة حبيبها الشهيد. وكأن هناك تنازعاً بين اليوميات والرسائل وبين الحب ومؤسسة الزواج.
إن المتأمل في الرسائل سيلاحظ أن غادة السمان لم تنشر رسائل غسان كنفاني الأولى والسابقة لزواجه، فهل في ذلك إشارة واضحة لدوافع النشر؟ ومن تأمل أطوار هذه الحكاية العاطفية بين غسان وغادة ينبت سؤال آخر: هل كانت غادة السمان فعلا حبيبة مشتهاة أم هي مجرد دفتر أيضا يلوذ به ليخزن فيه غسان كنفاني أوجاعه وأفكاره، كما كان يفعل مع اليوميات، وكما لمّح لذلك كافكا في علاقته بميلينا؟
كافكا الخاطب الأبدي ومحطم سرير الزواج
"كافكا الخاطب الأبدي" هو عنوان رواية للفرنسية جاكلين راؤول دوفال، وهو عنوان يلخص الحالة العاطفية لكافكا، فالخطوبة عادة هي العتبة الأولى التي تمهد لدخول الفرد إلى مؤسسة الزواج، وهي طريق الحب نحو الوصال الكامل، غير أن بقاء الفرد في مرحلة العتبة الخارجية يعني أن تلك الذات وقع تثبيتها في مرحلة الوجود بالقوة بلغة الوجوديين، أو مرحلة ما قبل الإشباع أو لحظة الشوق.
كان كافكا لا ينجح في الوصول بالعلاقة إلى الزواج كل مرة، ودائماً ما كان ينتهي مسار العلاقة العاطفية عند الخطوبة.
لم ينجح كافكا لا مع ميلينا ولا فيليسي ولا غريتي ولا حتى النساء الأخريات، كن يدخلن حياته وبمجرد توغلهن فيها يأخذن طريق المغادرة.
يقول لويس غروس في كتابه "ما لا يدرك": "التزم كافكا بالزواج في ثلاث مناسبات، مرتين مع الموظفة البرلينية فيليسي باور، ومرة مع السكرتيرة بنت براغ جولي ووهريزك. ولكن في اللحظة الأخيرة، وفي جميع الحالات، انسحب من المسرح مختاراً عذاب العزلة المغوي. صحيح أن كافكا، في أواخر أيامه، وبعد الحب المضطرب وشبه الأخوي الذي عاشه مع ميلينا جاسينسكا، عاش ستة أشهر مع ديورا ديامنت، وهي يهودية برلينية في التاسعة عشرة من العمر، كان ينوي الزواج بها، لكنَّ الأمر لم يتحقق، إذ إن موته المُبكر قد ربح الجولة".
كل هذا الإخفاق يؤكده الكاتب الأرجنتيني لويس جروس في كتابه "ما لا يُدرك"، والذي خصصه للحياة العاطفية لكل من التشيكي فرانز كافكا والبرتغالي فرناندو بيسوا، والإيطالي تشيزاري بافيزي.
ويرى في الرسائل واليوميات فضاء للبوح بكل الحميم والمسكوت عنه، فيقول: "سواء في الرسائل أو في اليوميات الحميمة، يتعرى المخاطبون أمام الأشباح، وهذا صحيح إلى حد ما، فالتعري لا يكون كاملاً أبداً، ذلك أنه حتى النص الأكثر عرياً تتخلله حجب لا متناهية. ومع ذلك، ثمة شيء ما قد يرشح عبر الشرخ، تحدث المعجزة جزئياً بفضل العنصر الاستعرائي والسير ذاتي الذي تحويه الرسائل، اليوميات والأدب بوجه عام"، وهو ما اعتمده كافكا لتلبية حاجاته التي لم يشبعها في الواقع التواصلي المباشر. وكان كافكا أحياناً يشعر بالذعر من أن يُخْسره الحب علاقته مع نفسه وخاصة وحدته، ويرى فيه تنازلاً كبيراً عن حياته المنظمة وفق عمله ككاتب، وتنهض تلك الالتزامات التقليدية، من نحو العثور على بيت وتأمين أثاث، معرقلات وانحرافات كبرى بحياته التي ارتآها.
يقول الناقد لويس جروس: "لقد أيقظت فيليسي في كافكا رغبة حقيقية في الزواج وتكوين أسرة. لكنها، في الآن ذاته، أثارت ما يسميه الكاتب لاحقاً بـ(أكبر ذعر) في وجوده، كان كل شيء يبدو له مزعجاً: خلال بحثه عن شقة لهما، لم ير في الحجيرات سوى تقليد للقبور، وكان يحس بضيق في الصدر وهو يختار أثاث البيت ويذكر الخزانة على وجه خاص"، وسيقول لميلينا يوما إنه "لا يستطيع أن يذهب معها أبعد من الرسائل".
يكتب كافكا في يومياته يوم13آب/أغسطس:
"ربما يكون كل شيء قد انتهى، وتكون رسالتي التي كتبتها يوم أمس هي الأخيرة، سيكون ذلك من الأفضل، وما سأعانيه ستعانيه، وهذا لا يقارن بالمعاناة المشتركة التي ستنتج، سأنسحب تدريجياً وهي ستتزوج، ذلك هو المخرج الوحيد للأحياء. نحن لا نستطيع أن نشق معاً طريقاً واحداً إلى الصخرة؛ فيكفي أننا بكينا وعذبنا أنفسنا مدة سنة...".
ويعود في يومية أخرى بتاريخ 31 كانون الأول/ديسمبر ليحسم الأمر بوضوح:
"إن هذا ما يعني أنني أعيش لأجل والدتي، وهو أمر غير صحيح، ولكانت أهميتي تتفوق بكثير على واقعي؛ فسأبقى رسولاً للحياة حتى لو لم تربطني بها صلة أخرى غير هذه المهمة [...] لذلك فإن لدي غريزة دفاعية لا تسطيع التسامح مع أدنى درجات القبول التي لا تمانع بتحطيم سرير الزواج قبل أن يتم نصبه".
لم يحطم الشاعر التونسي أبو القاسم الشابي سرير الزواج مثل كافكا، لكنه لم يكن أكثر حظاً مع الحب، وإن كانت يومياته القصيرة التي تركها تروي عذاباته الكثيرة، النفسية والأدبية والجسدية، فإنها لم تخل من إشارة إلى ذلك الفشل العاطفي الذي تبدى في أعظم تجلياته في قصائده الرومنسية
الشابي العاشق الرومنسي
لم يحطم الشاعر التونسي أبو القاسم الشابي سرير الزواج مثل كافكا، لكنه لم يكن أكثر حظاً مع الحب، وإن كانت يومياته القصيرة التي تركها تروي عذاباته الكثيرة، النفسية والأدبية والجسدية، فإنها لم تخل من إشارة إلى ذلك الفشل العاطفي الذي تبدى في أعظم تجلياته في قصائده الرومنسية. ولم يكن زواج أبي القاسم الشابي إلا زواجاً تقليدياً، بينما ظل جوعه العاطفي يخفق لنساء أخريات، حال مرضه والواقع التونسي دون أن ينجح، وأحياناً دون أن يولد، ومات في الأرحام. لم يشر الشابي في يومياته ولو مرة واحدة إلى زوجته وابنة عمه التي تزوجها سنة 1929 تلبية لرغبة والده الراحل.
إن استبعاد الشابي لحياته الحميمة في يومياته والاكتفاء بالحديث عن أبيه وعن مرضه أو عن الطبيعة مع تسجيل الأحداث الأدبية، دليل آخر على ذلك الإخفاق العاطفي الذي يعيشه، والذي يشير إليه بالشعور بالكآبة والحزن والوحدة. يكتب يوم الأربعاء 1 كانون الثاني/يناير 1930: "في سكون الليل، ها أنا أجلس وحدي، في هاته الغرفة الصامتة إلى مكتبي الحزين، أفكّر بأيامي الماضية، وذهبت بها صروف الوجود إلى أودية النسيان البعيدة النائية.
أنا جالس وحدي في سكون الليل، أستعرض رسوم الحياة، وأفتكر بأيامي الجميلة الضائعة، وأستثير أرواح الموتى من رموس الدهور. ها أنا أنظر إلى غيابات الماضي، وأحدق بظلمات الأبد الغامض الرهيب. ها أنا أنظر، فأرى صوراً كثيرة تعاقبت على نفسي كغيوم الربيع، وتحركت حوالي كأنسام الصباح، وتعانقت حول قلبي كأوراد الجبل... ثم أنظر فاذا رسوم غامضة مضطربة مقلبة كأمواج البحار، وأطياف ملونة كقوس قزح، جميلة كقلب الربيع تمر أمامي ثمّ تختفي، وتتراقص حولي وتبتعد، ثم تتوارى في أعماق الظلام الدامسة، وأرى أحلاماً صغيرة ناشئة تغرّد كطيور الغابات، وتنمو نمو الأعشاب، وتتفتح تفتّح الورود، ثم تجف وتذبل وتتناثر فتذروها الرياح، ثم تضمحل وتتلاشى في سكون المنون.".
ويواصل في ذات اليومية استرجاع حياته حتى يصل إلى قوله: "ثم هاهي تلك الريحانة الجميلة التي أنبتتها في سبيلي أنامل الحياة، هاهي تنظر إلي بعينيها الجميلتين الحالمتين كالملائكة، ثم تشير براحتها الجميلة الساحرة وبأناملها الدقيقة الوردية، ثم هاهي تطبع على ثغري قبلة حلوة ساحرة بشفتيها المعسولتين برحيق الحياة".
لقد كان الشابي يشير دائما في قصائده، كما في هذه اليومية، إلى حبيبة ضائعة غيبها الموت لذلك ظل الموت جاثماً على كل نصوصه بعد ذلك.
لم تكن حياة فريدا العاطفية أقل بؤساً من حياتها الصحية ومعاناتها مع جسدها المريض، فقد كانت تعاني طوال الوقت من خيانة زوجها وحبيبها دييغو ريفيرا، الذي وصل به الأمر أن يرتبط بعلاقة مع أختها
جيمس بوزويل، مطارد 'بائعات الهوى'
لاحق هذا الفشل أيضاً الكاتب الأسكتلندي جيمس بوزويل صاحب "يوميات لندن" الذي عشق الشابة الهولندية ايزابيل دي شاريير، وفشل في حبه كما فشل مع الأرملة جيلفينك التي رفضته زوجاً، وكان قد هام على وجهه في لندن، يلتقط 'بائعات الهوى' من أرصفة الشوارع، وكان يصاب كل مرة بعدوى جنسية. أما الممثلة زليدة التي أحبته، فقد تخلص منها برسالة رديئة كتبها من برلين في 9 يوليو، يخبرها فيها أنه أكبر من أن يتزوجها، وأن المرأة التي سيتزوجها يجب أن تحمل مواصفات أخرى، ثم يردف الرسالة بأخرى في 1 أكتوبر فأخرى في 25 ديسمبر قائلاً:
"أيتها الآنسة، إنني رجل متكبر، وسأظل كذلك أبداً. وينبغي أن تفخري بتعلقي بك. ولست أعلم إن كان ينبغي أن أكون فخوراً بالمثل بتعلقك بي. إن الرجال الذين يملكون قلوباً وعقولاً مثلي نادرون. أما المرأة الكثيرة المواهب فليست بهذه الندرة... وقد تستطيعين أن توافيني بتفسير لمسلكك معي".
وكان يصر على إذلالها وانتزاع الاعتراف بأنها تحبه، وعندما يتراجع ويطلب يدها ترفضه قائلة: "قرأت عبارات إعزازك المتأخرة بسرور، وبابتسامة. حسناً، إذن فقد أحببتني مرة".
لقد كان بوزيل، الذي كشفت الأستاذة في الطب النفسي بجامعة جونز هوبكنر كاي جايمسون في كتابها "ممسوس بالنار"، أنه يعاني من اضطراب ثنائي القطب والهوس نتيجة نوع من الجنون الوراثي الذي فتك بأخيه، ويعيش تيهاً روحياً، خاصة مع محاولاته المتكررة لتطهير نفسه والإقلاع عن حياة المجون والركض وراء الغواني والعاهرات، غير أن تجاربه الدينية والروحية سرعان ما تنهار أمام رغبته العارمة في العودة لعالم الجنس لأنه لم ينجح في ربط علاقة عاطفية قوية تحصنه من التيه الذي تجسد في رحلاته العديدة التي كان ظاهرها بحث عن المعرفة وباطنها بحث عن النساء.
فريدا كاهلوا تراجيديات عاشقة
تركت فريدا يومياتها في دفتر بعنوان"FK" جمعت اليوميات عدداً من رسوماتها ومخططاتها ونصوص، ولئن دارت معظمها كما عدد من أعمالها الفنية حول الأم المؤجلة أو الأم المعذبة بفشلها في الاحتفاظ بجنينها، فإن هذه اليوميات كانت، أيضاً، صندوق أسارها وحبها لزوجها الرسام المكسيكي دييغو ريفيرا.
فريدا: لن يعرف أحد كم أهوى دييغو، لا أريد لشيء أن ينزع منه طاقة هو بحاجة لها ليعيش. لا أريد أن يشعر بالحزن. لو كانت لدي صحة لأعطيتها كلها له. لو كان لدي شباب لمنحته له كله. أنا لست فقط أمه. أنا الجنين. البذرة. الخلية الأولى التي بقوة أنجبته. أنا هو منذ البدء.... ومنذ أقدم الخلايا والتي مع (الوقت) أصبحت هو"
لم تكن حياة فريدا العاطفية أقل بؤساً من حياتها الصحية ومعاناتها مع جسدها المريض والمصاب، فقد كانت تعاني طوال الوقت من خيانة زوجها وحبيبها دييغو ريفيرا، حتى وصل به الأمر أن يربط علاقة مع أختها والممثلة ماريا فيليسكس. اليوميات تشير إلى هذا التعلق العاطفي الكبير لفريدا بالرسام، رغم أن فريدا أيضاً كانت لها مغامراتها الجنسية، ويشهد لها البيت الأزرق قصتها مع تروتسكي نفسه.
في أسلوب شعري، كانت فريدا تناجي حبيبها وزوجها دييغو رغم المحن العاطفية التي عاشاها. كان ملهمها وفنانها وعشيقها الأبدي، فتكتب له في يومية:
"لن يعرف أحد كم أهوى دييغو، لا أريد لشيء أن يجرحه، ولا أن يزعجه أحد. ولا أن ينزع منه طاقة هو بحاجة لها ليعيش، يعيش كما يهوى. يرسم كما يرى. يحب. يأكل. ينام. ليشعر بأنه وحده. ليشعر بأنه مصاحب. ولكني لا أريد أن يشعر بالحزن. لو كانت لدي صحة لأعطيتها كلها له. لو كان لدي شباب لمنحته له كله. أنا لست فقط أمه. أنا الجنين. البذرة. الخلية الأولى التي بقوة أنجبته. أنا هو منذ البدء.... ومنذ أقدم الخلايا والتي مع (الوقت) أصبحت هو. ماذا يقول العلماء بهذا الشأن؟".
إن هذا الشعور الصوفي وهذا الحلول الذي تعيشه فريدا تجسده في إحدى اليوميات عبر حالة من الهستيريا الحروفية حين تنطلق في ترديد اسمه كما لو كانت تنادي إلهاً:
"دييغو
دييغو
دييغو
دييغو
دييغو
[..]
دييغو
تنوع في الوحدة
البدء
الباني
طفلي
حبيبي
رسام
عشيقي
"زوجي"
صديقي
أبي
ابني
أنا
الكون".
وظلت فريدا على امتداد اليوميات لا تكتب إلا عن دييغو وله، فهو مرة جنينها وهي مرة جنينه. وتخص أحياناً بكتابة اسمه بخط عملاق لتؤكد ألا حقيقة سواه في حياتها وفنها. إنه ماثل في لاوعيها ككون فسيح لا يمكن أن تخرج منه، موحية بدفاعها عنه كل مرة أنه بعيد، ومن هنا يأتي الإخفاق العاطفي الذي ترويه يوميات فريدا. لقد ألّهته حتى تقبل خياناته وحتى لا تلومه وحتى لا تبحث عنه، إنها أعادت خلقه من جديد على نحو فني يتعالق فيه الروحاني بالشبقي دون اشتراط وجوده. فالحبيب الذي يمكن أن نتحمل عذابه ونختلق له الأعذار والأسباب والوحيد الذي نشارك في حبه الآخرين دون خجل ودون إحساس بالنقصان ولا رميه بالتقصير هو الإله. تكتب في آذار/مارس 1953:
"حبيبي دييغو
لست وحيدة بعد الآن
أجنحة؟
أنت ترافقني
أنت تجعلني أنام
وأنت تمنحني الحياة".
يبدو من خلال تأمل مدونة اليوميات، أن هناك بحثاً عن طهارة ما عند معظم الكتّاب. هناك في داخل كل منهم؛ نساء ورجالاً، مسيح ما بما في ذلك الشخصيات الأكثر تحرراً كأنييس نن، كان في داخلها ذلك الطهوري والمسيح الذي يريد أن يضحي بنفسه من أجل الآخرين، وما بحثها المحموم عن الحب إلا أحد أشكال ذلك الإخفاق العاطفي.
لقد مثلت يومياتها أحد تجليات ذلك الشوق وظلت أنييس تهرب من تجربة الى أخرى ومن زوج إلى آخر حتى وصلت يوماً إلى الجمع بين زوجين. هناك حالة من الجوع العاطفي عندها ربما فُسّرت، أحياناً، برحيل والدها المبكر عنها بعد انفصاله عن أمها، وأرجعت إلى ذلك التشظي الكبير للهوية، حتى أنها لم تقبل أن تقحم تحررها ضمن النشاط السياسي النسوي، واعتبرت أن الحب هو وسيلتها لامتلاك العالم وتغييره. وكما يبدو من التجارب جميعها لم يكن الزواج دليلاً على النجاح العاطفي، بل استمر الإخفاق العاطفي حتى لمن استطاع أن يدخل مؤسسة الزواج، كأندريه جيد وفرجينيا وولف وفريدا والشابي وغسان كنفاني.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...