في مدينة أنطاكيا يقع فندق أنيق ومعروف جداً من قبل السيّاح، "فندق الليوان" من طراز "البوتيك أوتيل". الكثير منهم يقصدونه بشكل سنوي، نظراً لجماله وقربه من الأسواق التجارية، ولكن القليل جداً منهم يعرف أنه كان ذات يوم منزلاً لرئيس الدولة السورية الراحل صبحي بركات.
في عهده لم تكن الجمهورية السورية قد أُعلنت بعد، وكان الحكم في سوريا نظاماً فيدرالياً يجمع بين ثلاث دويلات، وبذلك يكون بركات هو أول رئيس دولة في سوريا، أمّا الاسم الأكثر انتشاراً، وهو محمد علي العابد، فكان أول رئيس للجمهورية السورية.
ولد صبحي بركات في مدينة أنطاكيا سنة 1882، وهو سليل عائلة حموية الأصل هاجرت إلى أنطاكيا في مطلع القرن السابع عشر، يعود نسبها إلى الصحابي خالد بن الوليد. كان بركات شديد الاعتزاز بهذا النسب، وكانت كل مراسلاته وقراراته الرئاسية توقع باسم "صبحي بركات الخالدي." أما والده رفعت آغا فكان عضواً في مجلس المبعوثان العثماني، وأخذ عنه بركات شغفه بالسياسة.
درس بركات في المكتب السلطاني في إسطنبول وبدء حياته المهنية بالزراعة، مُشرفاً على أراضي أسرته الشاسعة، قبل دخوله المعترك السياسي نائباً في المؤتمر السوري العام، أول برلمان منتخب في تاريخ سوريا الحديث، الذي شكّل في عهد الأمير فيصل سنة 1919، بعد سنة تقريباً من زوال الحكم التركي.
"صبحي بركات" أول رئيس دولة في سوريا. هدّده الدمشقيون بالقتل إذا خطت قدماه أرض مدينتهم فأعلن أنه سيزورها في اليوم كذا، وقال إنه سيتجول قرب جسر فكتوريا من دون حراسة في الساعة الفلانية، متحدياً أعداءه أن يقتربوا منه
التحق صبحي بركات بثورة الشمال السوري، بقيادة إبراهيم هنانو، وقاد مجموعة مقاتلة في أنطاكيا، موّلت من قبل كمال أتاتورك للتصدي للمطامع الفرنسية في الشرق الأوسط. وبعد القضاء على الثورة، عقد صلحاً من الفرنسيين، وبات صديقاً للمندوب السامي الجنرال هنري غورو، الذي احتل دمشق بعد معركة ميسلون وفرض نظام الانتداب الفرنسي على سوريا.
وكان غورو قد قسّم سوريا إلى دويلات (دولة دمشق ودولة حلب وجولة العلويين دولة جبل الدروز)، وفي 28 حزيران/يونيو 1923، قرر دمج ثلاثة منها في نظام فيدرالي سمّي اتحاد الدول السورية، أو "دولة الاتحاد." ضمّت الدولة الوليدة دويلات دمشق وحلب والعلويين، وكانت عاصمتها حلب وليست دمشق، ما أثار غضب الدمشقيين، الذين اعترضوا بشدّة وعملوا ضدها من اليوم الأول.
عيّن غورو مجلساً تأسيسياً للدولة الجديدة، مؤلف من خمسة نواب لكل دولة، مجموعهم 15 نائباً، اجتمعوا في سراي حلب وانتخبوا صبحي بركات أول رئيس لهم.
الرئيس القبضاي
وقد ضاعف انتخابه رئيساً من غضب الدمشقيين، فبعد خسارة عاصمة الدولة الجديدة، خسروا أيضاً رئاستها. حاول بركات إرضائهم بتعيين أحد وجهاء دمشق، سامي باشا مردم بك، نائباً لرئيس الدولة لكن ذلك لم ينفع. وعندما أعلن الرئيس عن رغبته بزيارة دمشق، هددوه بالقتل إذا خطت قدماه أرض مدينتهم. غضب بركات من هذا التحدي، وأعلن أنه سيزور دمشق في اليوم الفلاني، وقال إنه سيتجول رملاً قرب جسر فكتوريا من دون حراسة في الساعة الفلانية، متحدياً أعدائه أن يقتربوا منه. لم يفعلوا يومها، ولكنه تعرض لمحاولة اغتيال خلال تواجده في بيروت، عندما هاجمه أحد شباب عائلة البني شاهراً سلاحه في بهو أحد الفنادق.
قارعه صبحي بركات بنفسه ورماه على الأرض، وفي المشاجرة التي حصلت بينهما قُتل الشاب الثائر على يد رئيس الدولة. كان أكرم الحوراني أحد المشاركين في محاولة الاغتيال، وقد تحدث عن هذه الحادثة في مذكراته المنشورة في مصر سنة 2000. وقد تجلّى غضب الدمشقيين من رئيسهم الجديد يوم إلقاء خطابه الأول من حلب. كان صبحي بركات طليق اللسان باللغة التركية ولكنه ضعيف جداً بالعربي، وقد أخطاً كثيراً في القواعد والصرف، وقامت الصحف الدمشقية بنشر الخطاب دون أي تصحيح، لإحراجه أمام مجمع اللغة العربية أولاً، وأمام بقية فئات المجتمع السوري من مثقفين وكتاب وصحافيين وسياسيين.
حكومة مصغرة
شكّل الرئيس بركات حكومة مصغرة مؤلفة من أربع وزراء، اثنان من حلب واثنان من دمشق، ولم يعطِ دولة العلويين أي تمثيل في السلطة التنفيذية، ما فجر خلافاً شديداً مع سكان دولة الساحل. عيّن المليونير الدمشقي محمد علي العابد مديراً للمالية، والوجيه عطا الأيوبي مديراً للعدلية (ممثلين عن دمشق)، وذهبت مديرية الداخلية إلى نصري بخّاش، وبات حسن عزت باشا مديراً للأشغال العامة، وكلاهما كان من أعيان حلب. وفي هذه الأثناء، تزوّج الرئيس بركات من ليلى العابد، بنت مدير المالية محمد علي العابد، خريجة مدارس الراهبات في بيروت وحفيدة أحمد عزت باشا العابد، ثاني أمناء السلطان عبد الحميد الثاني.
كانت من أثرى صبايا دمشق، وعقد قرانهم في قصر عائلة العابد في سوق ساروجا. ولكن هذا الزواج لم يستمر طويلاً ولم تنجب له أطفالاً، فطلقها الرئيس بركات وتزوج من سيدة تركية ثرية، ما أدى إلى شرخ جسيم في علاقته مع آل العابد. فقد أقسم والد العروس ألا يصافحه ولا يكلمه مدى الحياة، دون أن يدرك أنه سيجد نفسه مجبراً على التعامل معه مجدداً بعد سنوات عند انتخابه رئيساً للجمهورية سنة 1932، يوم انتخاب صبحي بركات رئيساً لمجلس النواب في عهده.
لم تعامل فرنسا وزراء الرئيس بركات باحترام، ولكنها تعاملت معه هو شخصياً بشكل سوي وندّي، نظراً لثروته الطائلة. ولكنها فرضت علم للدولة الوليدة دون الرجوع إلى مدرائها الأربعة، ورفضت طلبهم بإصدار عفو عام عن السياسيين المبعدين ولم تستجيب لهم عندما تقدموا بطلب لحضور مؤتمر لوزان والانضمام إلى عصبة الأمم في جنيف.
وكان ممثلو دمشق يطالبون، في كل اجتماع، نقل العاصمة إلى دمشق، أما الحلبيين فقد أزعجهم قرار بركات صرف 50% من عائدات دولتهم الغنية على تمويل الجامعة السورية بدمشق، و المشاريع الزراعية في قرى العلويين. رأت فرنسا أن المشروع الفيدرالي لم ينجح، وبعد عودة غورو إلى باريس واستبداله بالجنرال ماكسيم ويغان في سوريا ولبان، صدر قرار يوم 5 كانون الأول/ديسمبر 1924 بحلّ دولة الاتحاد واستبدالها بالدولة السورية الموحدة. دُمجت دولتي دمشق وحلب ضمن الدولة السورية الجديدة، ووضعت دولة العلويين تحت نظام منفصل ومستقل عنهما ظلّ قائماً حتى سنة 1936.
رئيساً للدولة السورية
تحوّل صبحي بركات ابتداء من 1 كانون الثاني/يناير 1925 من رئيس دولة الاتحاد إلى رئيس الدولة السورية، وبعدها بأشهر، اندلعت الثورة السورية الكبرى في جبل العرب. حاول الرئيس لعب دور الوساطة بين الفرنسيين والثوار ولكنه لم ينجح، ولم يتمكن من وقف العدوان العسكري لا على غوطة دمشق أو على المدينة نفسها يوم 18 تشرين الأول/اكتوبر 1925، الذي دمّر سوق البزورية وأحرق قصر العظم الأثري، مع أجزاء كبيرة من سوق الحميدية ومنطقة الجزماتية في الميدان.
آخر قراراته كان إجهاض مشروع معاهدة صداقة سورية – فرنسية تقدم بها المندوب السامي، معتبراً أنها لا تلبي مطالب السوريين. فردّت فرنسا بتعطيل المجلس النيابي إلى أجل غير مسمى، وعزل بركات عن منصبه
في 21 كانون الأول/ديسمبر 1926، استقال صبحي بركات من منصبه، متهماً فرنسا بخلق جو مشحون غير قابل لأي تفاهمات أو تسويات سياسية. في كتاب الاستقالة، طالب بوضع دستور للبلاد وانتخاب حكومة تكون مرجعيتها للشعب وليس إلى المندوب السامي الفرنسي. تفاجأ الفرنسيين بقراره حيث أنه كان أول مسؤول سوري يستقيل من منصبه منذ بدأ الانتداب. لم يتخيلوا أنه سيتركهم وحدهم، وتحديداً في وسط الثورة المشتعلة في كل أرجاء البلاد.
وفي جردة سريعة لفترة حكمه، نجد أنه وضع قانون التقاعد السوري، وألغى الحصانة القضائية التي كانت ممنوحة للأجانب منذ زمن العثمانيين. وخلال سنوات حكمه، بدأ العمل على مشروع جر مياه عين الفيجة إلى مدينة دمشق، وأنشأت الجامعة السورية بدمشق سنة 1923، كما شهدت دمشق ولادة أول حزب سياسي في فترة الانتداب، وهو حزب الشعب، الذي دشّن في 5 حزيران/يونيو 1925.
العودة إلى رئاسة مجلس النواب سنة 1932
غاب بعدها صبحي بركات عن المشهد العام طيلة سبع سنوات، ليعود إلى العمل السياسي قبيل انتخابات عام 1932 عبر جريدة ناطقة باسمه، تُدعى صحيفة الزمان. ترشح في تلك الانتخابات وفاز بثماني وعشرين مقعداً في البرلمان السوري، ما جعله زعيم أكبر كتلة نيابية، يفوق عددها عدد مقاعد الكتلة الوطنية (وكان عددهم 17 نائباً).
وبناء على هذه الأغلبية انتخب بركات رئيساً للمجلس النيابي يوم 11 حزيران/يونيو 1932، وترشح بعدها إلى منصب رئيس الجمهورية، ولكنه لم ينجح فذهبت الرئاسة الأولى لوزيره الأسبق محمد علي العابد، والد مطلقته ليلى، وظلّ بركات رئيساً لمجلس النواب حتى سنة 1933.
آخر قراراته كان إجهاض مشروع معاهدة صداقة سورية–فرنسية تقدم بها المندوب السامي، معتبراً أنها لا تلبي مطالب السوريين. عمل يومها إلى إسقاط المعاهدة، بالتعاون مع نواب الكتلة الوطنية، فردّت فرنسا بتعطيل المجلس النيابي إلى أجل غير مسمى، وعزل بركات عن منصبه.
هنا قرر صبحي بركات التقاعد بشكل نهائي؛ غاب كلياً عن المشهد وعاد إلى مسقط رأسه في أنطاكيا، حيث توفي سنة 1949، أي بعد عشر سنوات على سلخ منطقة لواء إسكندرون عن سوريا وضمها إلى أراضي الجمهورية التركية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ ساعة??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 21 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون