شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
أغلق مكتبه بالشمع الأحمر وحُكم على رئيسه بالإعدام...

أغلق مكتبه بالشمع الأحمر وحُكم على رئيسه بالإعدام... "حزب الشعب" السوري

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة نحن والتاريخ

الأحد 11 ديسمبر 202203:21 م

واجهت فرنسا عدّة ثورات منذ بدء احتلالها لسوريا، في الشمال والساحل والجنوب، قبل اندلاع الثورة السورية الكبرى سنة 1925. ولكنها خلال نفس الفترة، سمحت للأحزاب السياسية أن تظهر في البلاد، ليس من باب الديمقراطية والحرية، ولكن بهدف مبطن ومزدوج، يؤدي أولاً إلى تفريق شمل الحركة الوطنية، وثانياً إلى الفصل بين المعتدلين والمتطرفين في سوريا، بين من تستطيع فرنسا محاورتهم، ومن يجب وضعهم على قائمتها السوداء. وفي هذه الأجواء، ظهر "حزب الشعب"، أول حزب مرخص في سوريا أيام الانتداب، الذي أطلقه الدكتور عبد الرحمن الشهبندر سنة 1925.

لم يكن الشهبندر دخيلاً على العمل الحزبي، فقد عمل في صفوف الجمعيات والأحزاب المعارضة للدولة العثمانية أيام الحرب العالمية الأولى. كان مقرباً من الولايات المتحدة الأمريكية، لكونه أحد خريجي جامعة بيروت الأميركية (المعروفة يومها باسم الكلية السورية البروتستانتية). وكان صديقاً للرئيس الأمريكي ودرو ويسلون، الذي تعرف عليه خلال جلسات مؤتمر الصلح في فرنسا سنة 1919، وكان قد حضرها الشهبندر مترجماً ومستشاراً للأمير فيصل بن الحسين.

عبد الرحمن الشهبندر

عندما أرسل الرئيس ويلسون لجنة كينغ كراين إلى سوريا، لاستفتاء مشاعر السكّان حول إمكانية فرض انتداب فرنسي على بلادهم، كان الشهبندر مسؤولاً عن مرافقة أعضائها، شارل كراين وهنري كينغ. وفي نيسان/أبريل 1922، عاد كراين إلى سوريا وحلّ ضيفاً على الشهبندر، وكان الهدف من زيارته الثانية متابعةَ أحوال السوريين بعد سنتين من حكم الانتداب، الذي سمع منهم بوضوح سنة 1919 أنهم يرفضونه بشدة.

سمحت فرنسا منذ بدء احتلالها لسوريا للأحزاب السياسية أن تظهر في البلاد، بهدف مبطن ومزدوج، يؤدي أولاً إلى تفريق شمل الحركة الوطنية وثانياً إلى الفصل بين المعتدلين والمتطرفين في سوريا، بين من تستطيع فرنسا محاورتهم، ومن يجب وضعهم على قائمتها السوداء

قبل مغادرته دمشق، سلّم شارل كراين صديقَه الشهبندر مبلغَ ألفي دولار أمريكي، منحة لطالبتين سوريتين كانتا ترغبان بإكمال دراستهما الجامعية في أمريكا. وألقت السلطات الفرنسية القبض عليه بتهمة تقاضي الأموال من دولة أجنبية، وحُكم عليه بالسجن عشرين سنة، قضى منها 18 شهر في سجن القلعة قبل إطلاح سراحه ونفيه خارج البلاد. من ثمّ توجه إلى لندن حيث دعي لمخاطبة مجلس العموم، ثم إلى واشنطن لمقابلة الرئيس وارن هاردنغ في البيت الأبيض. ويبدو أن هذه الجولة هي التي ألهمت الشهبندر على تأسيس حزب سياسي في سوريا، يكون تمويله من تبرعات الجالية السورية في المغترب.

ما قبل ولادة الحزب

عاد الشهبندر إلى دمشق بعد صدور عفو عنه في مطلع صيف سنة 1925، وبدأ بالتحضير لمشروعه السياسي الجديد. كان الشهبندر خطيباً مفوهاً، قادراً على جمع البسطاء والمثقفين من حوله، وقد تجلت فصاحته في 8 نيسان/أبريل 1925، عندما خطب بأهالي دمشق وطلب منهم الخروج إلى الشارع والاحتجاج على زيارة اللورد جيمس بلفور، صاحب وعد بلفور الشهير، إلى العاصمة السورية.

وعد الشهبندر أنصاره أن لا يبات بلفور ليلة واحدة في سوريا، وقد لبّى طلاب المدارس نداء الشهبندر، وخرجوا بمظاهرة حاشدة وصل عدد أفرادها إلى عشرة آلاف متظاهر قاموا بشلّ الحركة بدمشق. ولم يتفرقوا حتى مغادرة بلفور، تحت حراسة مشددة من الجيش الفرنسي، بعد ساعات معدودة من وصوله.

إطلاق الحزب

في 5 حزيران/يونيو 1925، جمع الشهبندر أنصاره في بناء أوبرا العباسية، الذي كان قد افتُتح قبل أسابيع قليلة بالقرب من محطة الحجاز. وصل عدد المشاركين في حفلة الإشهار إلى ألف شخص، وكان من الممكن أن يفوق عددهم هذا الرقم بكثير لولا منع طلاب المدارس وموظفي الدولة من المشاركة بأي عمل حزبي. وعد حزب الشعب بلمّ شمل الأمة السورية وتخليص البلاد من التفرقة، وقد ضمّ بين صفوفه معظم الشخصيات التي عملت في الكتلة الوطنية لاحقاً، مثل فارس الخوري وجميل مردم بك وفخري البارودي.

لم يتطرق أحد من مؤسسي حزب الشعب إلى موضوع العلمانية، بل وضعوا جملة واحدة في ميثاقهم تدعو إلى "الفكر المدني القاضي بحرية الاعتقاد وتجرد الدولة من الترجيح بين المذاهب الدينية"

في برنامجه المُعلن الذي تم توزيعه على الصحف السورية قبل حفل الإشهار، قال حزب الشعب إنه يسعى إلى تحقيق السيادة الوطنية ووحدة الأراضي السورية، مع ضمان الحرية الشخصية بكل أنواعها. كما دعا إلى "تدريب البلاد نحو سياسة اجتماعية ديمقراطية مدنية،" ووعد بتوحيد نظام التعليم في سوريا، ليكون التعليم الابتدائي فيها مجانياً ومُلزماً.

علمانية حزب الشعب

لم يتطرق أحد من مؤسسي حزب الشعب إلى موضوع العلمانية، علماً أن الشهبندر كان مؤمناً بها إلى أبعد حد، بل وضعوا جملة واحدة في ميثاقهم تدعو إلى "الفكر المدني القاضي بحرية الاعتقاد وتجرد الدولة من الترجيح بين المذاهب الدينية". أي أنهم طالبوا بالمساواة، وفصل الدين عن السياسة وعن التعليم، دون اللجوء إلى كلمة "العلمانية".

لم يجاهر الحزب كثيراً بعلمانيته، لكي يحافظ على شعرة معاوية مع المشايخ والتجار المحافظين، وعندما دعاهم لحمل السلاح ضد الفرنسيين، كان نداؤه باسم "الله والوطن".

الآباء المؤسسون

وكان للآباء المؤسسين لحزب الشعب رأي واضح بالاشتراكية، يقولون إن القليل منها ينفع لتحسين أوضاع العمال والفلاحين، عِلماً أنه وباستثناء الشهبندر وفارس الخوري، كان معظم قادة حزب الشعب أرستقراطيّي المنشأ والتفكير، يملكون أراضيَ زراعيةً شاسعة ورثوها عن آبائهم وأجدادهم. وقد انتخب الآباء المؤسسون للحزب لجنة مركزية لإدارة الشؤون الحزبية، مقرها في ساحة الحجاز، مؤلفة من 12 شخصاً، وهم:

عبد الرحمن الشهبندر رئيساً

فارس الخوري نائباً للرئيس

ثلاثة ممثلين عن طبقة المحامين: فوزي الغزي وإحسان الشريف من دمشق، وسعيد حيدر من بعلبك

ثلاثة ممثلين عن الطبقة التجارية: نائب رئيس غرفة تجارة دمشق لطفي الحفار، أبو الخير الموقع، عبد المجيد الطباخ

أربعة ممثلين عن الطبقة السياسية: زعيم الميدان حسن الحكيم، السياسي الدمشقي جميل مردم بك، الوجيه الدمشقي المسيحي توفيق شاميّة، الصحافي أديب الصفدي.

لم يُكتب لحزب الشعب النجاح أو العمر الطويل، فقد تمّ حلّه بعد أسابيع قليلة من التأسيس بسبب دعم الشهبندر للثورة السورية الكبرى التي انطلقت من جبل العرب في صيف سنة 1925

خمسة من أصل 12 عضواً كانوا خريجي جامعات غربية، وثلاثة منهم كتب لهم أن يصبحوا رؤساء حكومات مستقبلية (الخوري ومردم بك والحفار والحكيم). وقد جاء في ميثاقهم "عدم السماح لطبقة أن تمتاز على غيرها في الحقوق العامة".

وقد توسعت القاعدة الشعبية لحزب الشعب، لتضم فئاتٍ اجتماعية مختلفة، من تجّار وصناعيين وعلماء، مروراً بالمحامين والمدرسين من أبناء الطبقة الوسطى، وصولاً إلى الحرفيين وصغار الكسبة. يوم حفل الإشهار، تفاخر المؤسسون بأن عدد الأعضاء وصل إلى ألف شخص، كان من بينهم 350 شخصية وصفت بالقيادية.

صورة أخرى لعبد الرحمن الشهبَندر

انتخب المحامي فارس الخوري نائباً لرئيس الحزب، وهو خريج جامعة بيروت الأمريكية مثل الشهبندر، كان نائباً في البرلمان العثماني (مجلس المبعوثان) ووزيراً للمالية في عهد الملك فيصل الأول.

وقف الخوري على المنبر ودعا إلى "حكومة دستورية في سوريا" لا تميز بين الأعراق والأديان، هدفها الحرية والاستقلال ونظام اقتصادي لا تسيطر عليه أيادٍ أجنبيّة. وبعده وقف الشهبندر ليخطب وقال إن هدف الحزب الجديد لا يتوقف عند الحدود السورية بل إنه يطمح لتحرير الوطن العربي كله من الاستعمار الأجنبي.

نهاية مبكرة وسريعة

لم يُكتب لحزب الشعب النجاح أو العمر الطويل، فقد تم حلّه بعد أسابيع قليلة من التأسيس بسبب دعم الشهبندر للثورة السورية الكبرى التي انطلقت من جبل العرب في صيف سنة 1925. ردت فرنسا بإغلاق مكتب الحزب بالشمع الأحمر مع مصادرة كلّ أوراقه الرسميّة، التي تم إتلافها (ما يفسر عدم وجود أي وثيقة للحزب اليوم). الشهبندر نفسه حُكم عليه بالإعدام، فهرب إلى السويداء، ومن ثم إلى الأردن، وأخيراً عاش في مصر حتى صدور عفو عنه سنة 1937.

بعد القضاء على الثورة، اجتمع عدد من الأعيان في مدينة بيروت، وأعلنوا عن تأسيس تجمع جديد، جاء على أنقاض حزب الشعب، عرف باسم "الكتلة الوطنية"، وهو التنظيم الأنضج في تاريخ سوريا الحديث، والذي ظهر في تشرين الأول/أكتوبر 1927، وعاش أكثر من حزب الشهبندر بكثير، لغاية تحقيق الجلاء التام في نيسان/أبريل 1946.

وفي مطلع عهد الاستقلال، قام عدد من سياسيي حلب بتأسيس حزب باسم "حزب الشعب"، لا علاقة له بحزب الشهبندر، إنما استلهم أعضاؤه اسمَ حزبهم من حزب الشهبندر القديم، وظلّ يعمل في السياسة حتى سنة 1963، عندما تم حلّه من قبل مجلس قيادة الثورة. 


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

‎من يكتب تاريخنا؟

من يسيطر على ماضيه، هو الذي يقود الحاضر ويشكّل المستقبل. لبرهةٍ زمنيّة تمتد كتثاؤبٍ طويل، لم نكن نكتب تاريخنا بأيدينا، بل تمّت كتابته على يد من تغلّب علينا. تاريخٌ مُشوّه، حيك على قياس الحكّام والسّلطة.

وهنا يأتي دور رصيف22، لعكس الضرر الجسيم الذي أُلحق بثقافاتنا وذاكرتنا الجماعية، واسترجاع حقّنا المشروع في كتابة مستقبلنا ومستقبل منطقتنا العربية جمعاء.

Website by WhiteBeard