في ليلة ماطرة وشديدة البرودة من ليالي شباط/فبراير عام 2005، دخلتُ على دار السعادة للمسنين في منطقة المزة للاطمئنان على صحة خال والدتي، المرحوم بهجت الأستاذ. كان الخال عازباً، لم يتزوج في حياته، وقد فضّل الانتقال إلى دار المسنين طوعياً، من باب التسلية والتخفيف من أعباء العيش وحده في شقته الكائنة في منطقة الميدان. كان الأستاذ في عقده السابع يومها، وهو فنان محترف ومتقاعد، عمل في إذاعة دمشق عند تأسيسها سنة 1947، وحقق نجاحاً كبيراً في مرحلة الخمسينيات، مع زملائه الكبار من أمثال رفيق شكري وكروان وصباح فخري.
فتى دمشق في دمشق
وجدته جالساً في حجرته، يُقيم حفلاً غنائياً ارتجالياً أمام الممرضات والعاملين في دار السعادة. أذكر ابتسامته جيداً، وشعوره بالفخر العارم أن صوته كان لا يزال قادراً أن يطرب الناس، على الرغم من تجاوزه السادسة والسبعين من العمر. قبل المغادرة سألته: "خال! هل توصيني بشيء؟".
أجابني بحزم: "نعم. لديّ تسجيل قديم في إذاعة دمشق يعود إلى سنة 1951. أريد منك الحصول عليه إن أمكن".
سألته عن عنوان الأغنية فقال: "يا ليل الصبّ متى غده. غنيتها قبل السيدة فيروز، ولكن لا أحد يتذكر ذلك".
وعدته بأن أسعى للحصول عليه، وبعد يومين، عدت إلى دار السعادة وفي يدي التسجيل الثمين الذي حصلت عليه من أرشيف الإذاعة السورية. ولكن بهجت الأستاذ توفي قبل أن يصله التسجيل، صباح يوم 3 شباط/فبراير 2005.
كان بهجت الأستاذ منسيّاً لدرجة أن لا إذاعة دمشق نقلت خبر وفاته، ولا التلفزيون السوري أو وزارة الإعلام. التكريم الرسمي الوحيد الذي حظي به في حياته كان على يد صديقه الكبير صباح فخري، عندما كان نقيباً للفنانين وأمر بمضاعفة راتبه التقاعدي، لكونه "أحد الآباء المؤسسين لإذاعة دمشق"
كان منسيّاً لدرجة أن إذاعة دمشق لم تنقل خبر وفاته، ولا التلفزيون السوري أو وزارة الإعلام. التكريم الرسمي الوحيد الذي حظي به بهجت الأستاذ في حياته كان على يد صديقه الكبير صباح فخري، عندما كان نقيباً للفنانين، وأمر بمضاعفة راتبه التقاعدي، لكونه "أحد الآباء المؤسسين لإذاعة دمشق". وجاء بعدها تكريم ثان في دار السعادة من قبل الموسيقار الراحل صلحي الوادي، قبل وفاة الأستاذ بسنوات قليلة.
ابن مدير مكتب السلطان رشاد
ولد بهجت الأستاذ في دمشق سنة 1926، وكان والده أحمد عزت الأستاذ محامياً لامعاً، عمل في بلاط السلطان عبد الحميد الثاني قبل تعيينه مديراً لمكتب السلطان محمد رشاد الخامس سنة 1910. بعد زوال الحكم التركي، عاد أحمد عزت إلى دمشق، ومارس المحاماة من مكتبه الكائن في بناء العابد في ساحة المرجة. تزوّج من فتاة أرمنية مجهولة القيد، كانت قد نجت بأعجوبة من مجازر الأرمن في زمن الحرب العالمية الأولى، وقد تعرّف عليها خلال إحدى جولاته على الجوامع المخصصة للاجئين الأرمن في مدينة حماة. أسلمت الفتاة على يده، وأخذت أسم "حسنية،" ولكنها توفيت سنة 1931 قبل أن يُكمل ابنها بهجت عامه الخامس.
والد فتى دمشق
عاش مع إخوته في كنف أبيهم، وكان الأب مولعاً بالموسيقى الشرقية والغناء، كما كان يعزف العود في مجالسه الخاصة، وقد شارك في تأسيس معهد الموسيقى الشرقي في محلة سوق ساروجا سنة 1928، مع صديقه النائب والزعيم فخري البارودي، راعي الفنون في سوريا.
العلاقة مع فخري البارودي
كان البارودي أول من أشاد بموهبة بهجت الأستاذ، وتولى رعايته فنياً في داره الكائنة بحيّ القنوات. في هذه الدار تعرف البارودي على مجموعة من الفنانين الهواة، الذين شقوا طريقهم إلى الشهرة بفضل البارودي، ومنهم الممثل نهاد قلعي، ورائد المونولوغ سلامة الأغواني، والمطرب الحلبي الشاب صباح الدين أبو قوس، الذي أطلق عليه البارودي اسم "صباح فخري". أما الأستاذ، فقد اختار له اسم "فتى دمشق"، لأنه كان فتىً أجرد في سنوات الصبا الأولى، صغير الحجم، رقيق الكلام، ذو صوت ناعم أقرب إلى صوت الأطفال.
فتى دمشق وخلفه البارودي مع الفرقة الموسيقية
بدعم من البارودي والمحامي الشهير نجاة قصّاب حسن، انتسب الأستاذ إلى إذاعة دمشق عند تأسيسها سنة 1947. كان نجاة قصّاب حسن قد سمع الأستاذ يُغني بعض حوارات محمد عبد الوهاب أمام أصدقائه في إحدى شوارع دمشق، حيث وقف المارة للاستماع له. كان من بينهم الأستاذ قصّاب حسن الذي نصحه بامتهان الغناء وأعطاه "كرت توصية" لكي يقدمه إلى رئيس معهد الموسيقى الفني في شارع بغداد، الفنان فائز الأسطواني.
على الرغم من ميوله الفنية، إلا أن أحمد عزت الأستاذ لم يشجع ابنه على امتهان الغناء، خوفاً من انتقادات المجتمع الدمشقي المحافظ
ذهب المطرب الهاوي إلى مقر المعهد حيث استمع إليه الأسطواني بإعجاب، ثم قام بتسجيله في المعهد وتولى تدريبه بنفسه. كما قام الفنان زكي محمد بتعليمه النوتة الموسيقية والصولفيج، ولحّن له محمد النحّاس أولى أغنياته بعنوان "رجعت ليه تبكي وتنوح".
انتقل الأستاذ بعدها، بنصيحة من البارودي، إلى نادي الفارابي للموسيقي، حيث أشرف عليه الفنان الكبير سعيد فرحات، وضمه إلى فرقة الموشحات التي كانت تقدم وصلة أسبوعية عبر أثير إذاعة دمشق. عيّن رسمياً في كورس الإذاعة يوم 27 تشرين الأول/أكتوبر 1947، وخصصت له فقرة أسبوعية للظهور منفرداً أمام جمهور المستمعين.
اعتراض الأسرة
على الرغم من ميوله الفنية، إلا أن أحمد عزت الأستاذ لم يشجع ابنه على امتهان الغناء، خوفاً من انتقادات المجتمع الدمشقي المحافظ. وقد ضاعف من معارضة الأسرة لقرارها زواج شقيقته نبيهة من الوجيه حسن اليوسف، أحد أكبر أثرياء سورية وابن أمير محمل الحج الشّامي عبد الرحمن باشا اليوسف. كل ذلك لم يثنِ فتى دمشق عن المضي قدماً في مشروعه الفني، فتفرغ كلياً للغناء، ضارباً عرضَ الحائط كلَّ نصائح أبيه وأقربائه. وحده البارودي ظلّ داعماً لفتى دمشق حتى النهاية، وكان يحرص على حضور كل حفلاته والظهور خلفه في الفرقة الموسيقية، ماسكاً بإحدى الآلات التي كان يجيدها، دعماً لتلميذه النجيب.
سنوات الاحتراف
اختص فتى دمشق بغناء الأندلسيات وموشحات من ألحان الشيخ عمر البطش والشيخ صالح المحبك وسعيد فرحات والأخوين زهير وعدنان منيني. كما أنه غنى القصائد الوطنية بحضور الرئيس شكري القوتلي في أعياد الجلاء، والأناشيد الدينية في شهر رمضان والعيدين. ومن أشهر أغانيه رواجاً أغنية "في محراب الأشواق" للشاعرة الفلسطينية فدوى طوقان التي كان مطلعها :"هذا مكانك، ههنا محراب أشواقي وحبّي. كم جئته والدمع، دمع الشوق مختلج بهدبي". ومن أغانيه المعروفة: "ابتنعش الأرواح" (ألحان الشيخ صالح المحبك) و"زارني المحبوب"، و"كحّل الشهيد عيوني" (كلاهما من ألحان عدنان المنيني). ومن قصائده الدينية: "أفراح رمضان" (كلمات عدنان مراد وألحان يحيى السعودي)، و"وداع رمضان" (كلمات نجاة قصاب حسن وألحان تحسين حبري).
اتخذ بهجت الأستاذ قراراً بالابتعاد عن مهنة الغناء برمتها، بعد تعرضه للطرد والإهانة عام 1965، بأمر من الرائد سليم حاطوم، المسؤول عن الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون
في سنة 1949 غنى فتى دمشق مجموعةً من الموشحات على مدرج جامعة دمشق، مع عرض راقص من فرقة "السماح" الذي قدمته طالبات مدرسة "دوحة الأدب". وفي سنة 1957، اختاره فخري البارودي للمشاركة ضمن وفد سوري في مهرجان الشباب الإفريقي الذي أقيم في موسكو.
حضر حفلة الأستاذ الزعيمُ السوفيتي نيكيتا خروتشوف، حيث قدّم أغنية من كلمات الشاعر سليم الزركلي وألحان عبد الفتاح سكر، جاء في مطلعها: "يا موسكو جيناكي... ومن سوريا حيِّناكي، ما أحلى شعبك وفنونو... ما أحلى أرضك وسماكي". عند انتهاء الحفل، صافح خروتشوف المطربَ الشاب، الذي أعطاه دفتر ليوقع له "أوتوغراف" ظلّ في حوزته حتى الوفاة، وانتقل بعدها إلى مكتبتي، بتوصية منه.
فتى دمشق في موسكو
كانت تجربة الأستاذ الفنية ملهمة لعدد من مطربي الخمسينيات، وقد حاول كثيرون الاستفادة من اسمه وشهرته، فظهرت مطربة تدعى "فتاة دمشق"، ومطرب باسم "فتى فلسطين". كما قام المطرب السوري محمد محسن بإطلاق لقب "فتى دمشق" على نفسه، وقام بتسجيله رسمياً في إذاعة "الشرق الأدنى" البريطانية، بعد أن رفضت إذاعة دمشق القيام بذلك، لأن هذا الاسم كان مسجلاً لديها باسم "بهجت الأستاذ".
نهاية المشوار قصراً
كانت بداية بث التلفزيون السوري سنة 1960 فرصةً ذهبية للعديد من فناني الخمسينيات، حيث قاموا بتقديم نفسهم للجمهور "بالصوت والصورة،" بعد سنوات من معرفتهم فقط عبر أثير إذاعة دمشق. ولكن "فتى دمشق" كان مقلاً في ظهوره على الشاشة، حرصاً على سمعة الأسرة (علماً أن أباه توفي سنة 1959).
فتى دمشق وفريد الأطرش
وقد اتخذ قراراً صارماً بالابتعاد عن التلفزيون أولاً، ومن ثم عن مهنة الغناء برمتها، بعد تعرضه للطرد والإهانة من الأستوديو سنة 1965، بأمر من الرائد سليم حاطوم، المسؤول عن الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون. جاء الطرد لإفساح المجال أمام المغنية الشابة لودي شاميّة، صديقة سليم حاطوم، التي اشتكت له عدم وجود مكان لها لتسجيل إحدى أغنياتها. دخل العسكر على المبنى وطلبوا منه الخروج الفوري لأجلها، شاهرين السلاح في وجهه.
خرج فتى دمشق من المبنى وهو يبكي بحرقة قلب، وقرّر عدم العودة إلى التلفزيون في حياته، أو إلى الطرب. تفرغ بعدها للعمل الإداري في إذاعة دمشق، ولممارسة هواية الصيد التي كان يعشقها حتى وفاته سنة 2005.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...