كان تشرين الثاني/نوفمبر 2022 موعداً جديداً لإشعال النقاشات الكروية ونظيرتها السياسية بتوقيت عالم الكرة، اللعبة القادرة على منح العالم إجازة من كل ما يعتريه من هموم وملمات، والاستمتاع بمتابعة الرياضة الأكثر شعبية على كوكب الأرض.
في خضم فورة العالم الرياضية هذه، وحماس الملايين للاستمتاع بالمناسبة الاستثنائية، تبرز دوماً فئة من المشجعين تركل تلك الإجازة، وتأبى أن تمنح قضاياها ونضالاتها فترة راحة، وتقرر أن تخلق في بعض المباريات شوطاً ثالثاً لمعركتها، شوطاً إضافياً لاستذكار الأحقاد والخلافات بحق الآخرين، وبحق فرق الخصوم وحتى شعوبها.
تحولت الرياضة لتصبح وسيلة للتعبير عن التنافس والصراع بين الدول وشعوبها، مما دفع علماء النفس إلى دراسة ظاهرة كرة القدم كظاهرة شبه دينية.
في المحصلة تتحول المباراة في شوطها الثالث ذاك، وأحياناً منذ بدايتها إلى ساحة معارك تبث فيها سموم طائفية ومناطقية أحياناً، فنرى مشجعاً يدعم منتخباً لاعتبارات طائفية، ومتابعاً يساند الفرق العربية من بوابة الحلم نحو نصرة الإسلام، ويغتنم المناسبة للاصطدام مع مشجعي الفريق الخصم الذين يكن لهم البغض منذ سنوات.
هذا ليس بجديد حمله مونديال قطر 2022، والحديث عن نقاء الرياضة وأخلاقها وروحها ضرب من السذاجة عند البعض، منذ تحول الرياضة لتصبح إحدى علامات القوة ووسيلة للتعبير عن التنافس والصراع بين الدول، ومنذ أن وصل التعصب الجماهيري الرياضي إلى جعل البعض يوسمون بحب قميص منتخب ما أو نادٍ معين أو لاعب ما إلى حد تقديسه، ودفع في الوقت نفسه علماء النفس إلى دراسة ظاهرة كرة القدم كظاهرة شبه دينية.
شقاقات قبضت على الروح الرياضية
في ثنايا المجتمع العربي في أوروبا، كان التنوع والتعدد كفيلاً بتعزيز هذه المعارك، لا بل صارت دموية في بعض المناسبات، بعد إنجازات عربية غير مسبوقة في البطولة، مثل معارك المشجعين التي استضافتها العاصمة بروكسل بين جمهور المنتخب المغربي ومشجعي نظيره البلجيكي، ومثلها في فرنسا بين الجاليات التونسية والمغربية وبين أولاد عاصمة العطور.
تنطلق صافرة نهاية الشوط الثالث من معركة كارم. ج، 26 عاماً، وزميلته في جامعة بورنموث البريطانية زهراء. م، 22 عاماً، التي حاولت أن تتفادى لكمة أو صفعة ربما، على أثر الخلاف مع زميلها حول أحقيتها في تشجيع منتخب إيران ودعمه هو لمنتخب قطر.
تقول زهراء لرصيف22: "لم يستوعب زميلي أنني أشجع المنتخب الإيراني لأنه منتخب قوي وناشئ وبنى قوته من العدم، ولست أدعمه لأني شيعية، لكنه مصر على الزج بالشقاق السني – الشيعي في كل أمر".
أما كارم فيجاهر بدعمه منتخب قطر انطلاقاً من نزعة في داخله لدعم أي فريق عربي مسلم، فذلك يجعله سعيداً عندما يرى إنجازاً مذيلاً بتوقيع أي شخص أو كيان عربي مسلم.
بدأت المشاحنات بين الزميلين السوريين اللذين يدرسان الذكاء الصناعي في بريطانيا منذ بداية المباراة، عندما راحت زهراء تذكّر كارم أن المنتخب القطري هو عبارة عن "تشكيلة غير متجانسة" على حد تعبيرها، لأن معظم لاعبيه هم عرب يحملون الجنسية القطرية وليسوا قطريين، أما كارم فرد على زميلته بمهاجمة المنتخب الإيراني الذي أصبحت دولته طرفاً في الحرب السورية.
يحاول زميل ثالث تهدئة الأجواء بإعلاء الروح الرياضية على الخلاف الديني والسياسي ويذكّرهما كيف يقوم المتخاصمون داخل البلد الواحد برفع العلم الوطني في المناسبات الرياضية برغم الاختلافات، لكن ذلك لا يبدو واقعياً جداً.
لا يمكن أن يفوت بعض الأشخاص أي مناسبة رياضية كانت أم فنية لاستذكار نزعاتهم ضد الطائفة الأخرى أو الدين الآخر
تقاطع زهراء زميلها: "نعم، تقصد أولئك القادرين على تخديرطائفتيهم، وليس النموذج الذي يستحضر تعصبه الديني قبل أن يصافح الآخرين".
لا يمكن أن يفوت بعض الأشخاص أي مناسبة رياضية كانت أم فنية لاستذكار نزعاتهم ضد الطائفة الأخرى أو الدين الآخر، ويبدو أنهم غير قادرين على تنحية "جهادهم" الفكري نحو نصرة العروبة أو الطائفة عن أي مناسبة أو حادثة، مهما كانت تكلفة هذا الـ "نضال" في مجتمع متنوع مثل المجتمع الأوروبي. ولطالما كانت الرياضة واحدة من أهم المناسبات التي تفجر هذا الـ "نضال" وتخرجه إلى العلن، فيما يبقى خامداً في بعض المناسبات الأخرى التي لا تلهب الحماس وتخرج الفرد عن سكينته مثل الرياضة.
مباريات الثأر
لا شك أن هذه الشروخ ستزداد ضراوة عندما يكون الشخص طرفاً مباشراً في المعركة الكروية، لذلك كان الشوط الثالث ذلك حاضراً عند بعض مشجعي الفرق العربية في أوروبا سواء حققت منتخباتهم انتصارات أم هزائم خلال مباريات المونديال. وهنا يستغل بعض الأشخاص الفرصة لإلحاق الأذى لاعتبارات معينة أبعد من كرة القدم، ويجدون الفرصة في التجمعات الرياضية التي تضع هذا الآخر في ميدان الخصم أو الداعم للفريق الخصم.
مساء الأحد الأول من شهر كانون الأول/ديسمبر، فاز المنتخب المغربي على منتخب بلجيكا بهدفين مقابل لا شيء في الجولة الثانية بالمجموعة السادسة، وبعد اللقاء استخدمت الشرطة البلجيكية خراطيم المياه والغاز المسيل للدموع، بعد تعرضها لهجوم من مشجعي كرة القدم المغاربة.
وصبيحة الأحد الثاني من الشهر نفسه اعتقلت شرطة باريس أكثر من 100 مشجع مغربي في منطقة باريس الكبرى، خلال أعمال شغب اندلعت بعد أن وصل منتخب "أسود الأطلس" إلى دور نصف نهائي كأس العالم.
اعتقلت شرطة باريس أكثر من 100 مشجع مغربي في منطقة باريس الكبرى، خلال أعمال شغب اندلعت بعد أن وصل منتخب "أسود الأطلس" إلى دور نصف نهائي كأس العالم 2022.
لماذا يحطم مشجع فريق المدينة التي يسكنها بعد فوز فريقه!؟ ولماذا يعتدي على شرطي أو مواطن يحمل جنسية الفريق الخصم قبل المباراة أصلاً!؟
يقول المغربي المقيم في فرنسا مقران بنجلون (اسم مستعار)، الذي يشارك بأعمال الشغب في فرنسا: "لا يمكن أن أنسى يوم قتلتنا فرنسا جوعاً نحن المغاربة في الثلاثينيات، يومها مات ثلاثة من أفراد عائلتي جوعاً وقهراً".
ويضيف بنجلون، 40 عاماً، وهو من سكان باريس: "ما يقدمونه لنا من تأشيرات وفرص عمل ليست بالمجان ومهما فعلوا من أجلنا قليل، لأنهم المسؤولون عن تدمير الحياة في بلادنا، وإلى الآن لا تزال الإهانات للمواطن المغربي تتكرر بشكل يومي في فرنسا".
لا يمكن لمقران والكثير من المغاربة التفكير بتجرد عن مشاعر الغضب تجاه فرنسا التي استنفرت أمنياً استعداداً لمباراة أسود الأطلس مع منتخب الديوك مساء اليوم.
وحسب ما أوردته صحيفة “Le figaro” الفرنسية، كثفت السلطات الأمنية دورياتها من أجل مراقبة الأجواء في الشوارع والأحياء استعداداً للمباراة المذكورة، واتخذت إجراءات أمنية خاصة لتأمين الاحتفالات التي سترافق اللقاء الرياضي.
إجراءات مماثلة اتخذتها السلطات الأمنية في بلجيكا وهولندا وإيطاليا، نظراً لما شهدته من أعمال شغب سابقة عقب مباريات المنتخب المغربي.
الخسارة ممنوعة!
التاريخ يصف التعصب الرياضي بأنه عامل كفيل بأن يفسد للود قضية، وليس على مستوى الفورة الجماهيرية فحسب، وإنما على مستوى الدول أحياناً، فهل لأحد أن ينسى حرب كرة القدم التي اندلعت في نهاية عام 1969 بين السلفادور والهندوراس بشرارة مباراة التأهل لنهائيات كأس العالم التي أقيمت في المكسيك، وذلك في ظل خلافات بين السياسيين في كلا البلدين؟
وعلى وجه خاص، تشكل طبيعة المجتمع العربي في أوروبا تربة خصبة لهذه النزاعات، بسبب وجود أزمة هوية تلازم الغالبية العظمى من المهاجرين العرب، ولنا أن نتخيل ما ستنبت أزمة الهوية هذه عند بعض الأشخاص الذين يعيشون في مجتمعات يتقاسمون فيها الهواء والماء مع أبناء الدول المضيفة، ويتعزز شعورهم باللاانتماء ضمنها يوماً بعد يوم.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ 3 ساعات??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 23 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون