سأذكر دائماً أنني شاهدت المباراة التي فازت فيها السعودية على الأرجنتين من الملعب وبين الجماهير، أنا في منتصف الحدث، لا أعلم إن كنت متفاجئة من حجم الملعب أم من الحضور الغفير، أم من اللون الأخضر الذي يغطي أغلب الكراسي، ولعلي متشوقة لإطلالة أحد أساطير كرة القدم "ميسي"، أو ربما هو سيل الهتافات والأصوات البشرية التي تعلو في وقت واحد، وتخفت في وقت واحد.
سجّلت الشاشة اليوم رقماً يزيد عن 88 ألف متفرج، هل ثمة احتمال لأي تجمع أو تواجد جماهيري بالكثافة نفسها إلا عندما تتواجد الكرة، حين يجتمع ثلث سكان الأرض وأكثر أمام الشاشات لمشاهدة مباريات كأس العالم، أو ليتابعوا كما عبّر أحد المعلقين "رحلة السيدة المجنونة".
في غياب صوت المعلق الرياضي في الملعب، يصبح التعليق للمشاعر البشرية، أصوات تتعالى وتخفت في وتيرة متعاقبة، وطبول تتحمس ثم تصمت، وزوامير تخترق الآذان، بينما الأدرينالين يتدفق مع حركة الكرة وهتافات الجماهير.
هل حقاً يدفع الناس آلاف الدولارات لحضور الكرة وهي تتحرج بين الأقدام؟ أم أنهم يستمتعون بالانتماء لمجموعة بشرية وممارسة ذات الطقوس
هل حقاً يدفع الناس آلاف الدولارات لحضور الكرة وهي تتحرج بين الأقدام؟ أم أنهم يستمتعون بالانتماء لمجموعة بشرية ويمارسون طقوسها وشعائر حماسها؟
أرى بعد المباراة مشجعاً يمشي وحيداً في عقده السادس، ينفث دخان السجائر، يبدو عليه الهزال وهو يمشي مترنحاً بسعادة بينما يرتدي طقم المنتخب الأرجنتيني في يوم خسارته، يهلل لي ضاحكاً ويائساً، ثم يخرج علم السعودية الذي كان قد خبأه في جيبه ويقول: "I am Arab" وهو يضحك، أشعر بأنه أيضاً وحيد ويبحث عن مجموعة ينتمي إليها.
بعيداً عن السياسة... من أشجع؟
هل لي أن أبتعد عن السياسة والمشاعر وأستمتع بأداء المنتخب الأفضل، أم عليّ أن أنتمي للطرف الرابح والأقوى؟ كفاني ميلاً إلى الأطراف المستضعفة والمضطهدة، ناهيك عن إنتمائي إلى الحلقة النسائية الأضعف في عين المجتمع والأقوى في قلب البشرية.
أنظر حولي وأنا مرتبكة من حاجتي المفاجئة للانتماء لأي لون، الأبيض، الأخضر أم الأزرق؟ كل منهم يعنيني لسبب، فالفريق الأبيض يشير إلى الملجأ المؤقت والوحيد الذي يضم أولادي حالياً ويطعمهم الرغيف حتى يبلغوا سن الرشد في أفضل الأحوال ثم يواجهون مستقبلاً مجهولاً دون أي اعتبار لسنوات الإقامة الفائتة. والأخضر هو بقايا عروبة تسري فيَّ بسبب التلقين أو الانتماء _لا أستطيع أن أحدد_، أما الأزرق والأبيض معاً للأرجنتين، وكل من يفقه شيئاً في كرة القدم يعلم أن الدول اللاتينية هي الأشد خبرة، والأجمل تكتيكاً.
أرى بعد المباراة مشجعاً في عقده السادس يمشي وحيداً مترنحاً بسعادة، بينما يرتدي طقم الفريق الأرجنتيني يوم خسارته أمام السعودية، يهلل لي ثم يخرج علم السعودية الذي كان قد خبأه في جيبه ويقول: "I am Arab" وهو يضحك
ما يلفتني أننا الشعوب الوحيدة التي تحتفل بخساراتها، فمنتخباتنا الكروية تخفق لكن بشرف كما يقول المعلق، بينما الفوز لبعضنا الآخر هو القدرة على مشاهدة مباراة كاملة في المنزل أو الحي دون انقطاع الكهرباء.
أتناول جهازي المحمول كل فترة لألتقط الصور والفيديوهات التي لا تنجح في رصد الأدرينالين الذي يداهمني في الملعب، فتظل الصورة ناقصة، وفي لحظة الهجوم بينما أصور، يسقط اللاعب أرضاً دون حراك، بعد تلقيه لضربة صاروخية وجهها له الحارس دون قصد، يسقط مغشياً عليه وكاميرتي توثق الحدث، يتوقف نبض قلبي للحظات مع كل نبض الملعب، ويسيطر الوجوم والخشية خوفاً من تعذر نهوضه من جديد، يصل المسعفون بسرعة، وها هو يتحرك حركة بسيطة بعد دقيقة غياب طويلة ليعلم الحشود بأنه لا زال يتنفس، يصفق الجمهور ويصفر بينما يبتعد المصاب على حمالة المسعفين.
وبعيداً عن الرياضة أيضاً
أعود وأتذكر، خشيتي من احتراف ابني لكرة القدم، فمنذ بدايات شغفه الكروي، تمنيت سراً ألا يُظهر تميزاً في اللعب، ولكنه استبق الأحداث، فجاءتني مكالمة المدرب وهو يقول: "عفواً لا تخافي ولكن ابنك وقع في الملعب ولا نعلم بعد ما أصابه"، يأخذ ابني السماعة من المدرب ليقول وهو يبكي: "ماما لا تخافي أنا بخير، يدي طقت وخرجت من مكانها لكني بخير". يقلق ابني من خوفي أكثر من خوفه من كسر يده.
منذ تلك الحادثة توقف عن الذهاب إلى الملعب، ولم أتدخل في قراره، لكنني شعرت بالارتياح في قرارة نفسي وبعذاب الضمير أيضاً، ذاك العذاب الذي لا يفارق الأمهات ويظهر عند كل ثغرة وفي كل حدث.
علَمي الخاص يرفرف فوق رأسي
كنت قد حضرت افتتاح كأس العرب قبل عام وكانت تجربتي الأولى في الدخول إلى الملاعب، حينها، وفي اللحظة التي رأيت فيها العلم السوري محمولاً على طول وعرض الملعب ترقرقت الدموع في عينيّ، وعدت إلى مرحلة المدرسة، وقفت باحترام وجمود لسماع النشيد وأنا أفتقد لحظات التدجين والتلقين، لم يغفر لي البعض خطيئة التأثر بلحظة رفع العلم، صدر الحكم بتصنيفي فوراً، فلا بد أن أعتنق علماً آخر لم يقدم لي شيئاً، لكن إن كنت أقف مع المظلومين وأنادي بحريتي ألا يحق لي على الأقل اختيار العلم المنشود؟
أفكر جدياً بتصميم علم خاص، بي بعيداً عن كل التصنيفات، لا يحمل سوى الهدوء والسلام، دون رمزيات الحروب والسياسات والمجازر، علم لا يحدد هويتي الجنسية ولا انتمائي القومي ولا ديني ولا عرقي، سألتزم بعلم جميل، ألوانه مرتبة ومنسقة، وفيه خريطتي الخاصة للأماكن التي أحبها، وللأشخاص الذين أنتمي إليهم.
كنت قد حضرت افتتاح كأس العرب في الملاعب قبل عام، في اللحظة التي رأيت فيها العلم السوري محمولاً ترقرقت الدموع في عينيّ، وعدت إلى مرحلة المدرسة، ووقفت باحترام لسماع النشيد وأنا أفتقد لحظات التدجين والتلقين
أعود لأحداث كأس العالم التي منحتني الحظوظ فرصة أن أعيشها، وأنظر إلى صوة الملعب على الشاشة، ملعب الرحم الأنثوي كما أسموه، والذي صممته الراحلة زها حديد معلنة أن اللعبة الذكورية تجري في رحم المرأة، وكأن وراء كل رجل عظيم امرأة، أفكر في الحكمة الأخيرة، ألا يمكن أن تكون المرأة عادية وأن تجاور شريكها ويمسك أحدهما بيد الآخر وينطلقا في رحلة مشتركة متعادلة. وهل ألمّ من اختاروا تصميم الملعب بالرسالة المبطنة؟ أم أن الملعب كما في الرواية الرسمية قد تم استيحاؤه من أشرعة قوارب الداو التقليدية التي يستخدمها غواصو اللؤلؤ في المنطقة، ذهبت زها حديد وأخذت معها السر، ولا يمكن لأحد أن يدّعي على لسانها ما لم تقُله.
عودة الكابتن ماجد
مع تتابع الأحداث الكروية الدرامية، يغفل الفريق الياباني منطق الزمن ويفوز على ألمانيا، أغرق في التحليل أكثر، هل عاد الكابتن ماجد بعد كل تلك السنوات مكوناً فريق الأحلام ليشارك في البطولة؟ أم أن نبوءة فريق مسلسل الـ"أنيمي" الشهير "بلو لوك" قد تحققت، فبحسب المسلسل يتم تعيين المدرب غريب الأطوار "إيفو جينباشي" لتحقيق حلم اليابان بالفوز بكأس العالم، فينشئ "جيبنباشي" سجناً يسميه القفل الأزرق، ويعزل فيه 300 من المهاجمين الموهوبين من المدارس، ليتنافسوا في ظروف قاسية، حتى يصطفي منهم مهاجماً ويضمه للمنتخب الوطني ليحقق الفوز، المثير في القصة هو ربط الـ"أنيمي" بالواقع، فقمصان الفريق الياباني المشارك من تصميم الفنان الذي نفذ مسلسل "بلو لوك".
أنظر إلى صوة الملعب على الشاشة، ملعب الرحم الأنثوي كما أسموه، والذي صممته زها حديد معلنة أن اللعبة الذكورية تجري في رحم المرأة
تدور الكثير من الأسئلة في رأسي، يحرّضها غياب صوت المعلق عن الملعب، ترى من هو الفريق الذي يتبناه مشجعو إيطاليا الغائبة؟ هل ستكون الكأس عربية لمرة واحدة؟ وإن كانت اللعبة بين الوطن الأصلي والبلد الذي منحك جنسيته من ستشجع؟ هل يلتزم الغرب بالمعايير الأخلاقية والإنسانية التي ينادي بها؟ وهل هناك بقعة واحدة شريفة في النظام العالمي عدا البحر؟
والأهم من كل ذلك هل يجب ربط الرياضة بالسياسة؟ ليت المعلق يقتحم أفكاري فأهتم برحلة الكرة أكثر من رحلة الأفكار المحتدمة في تلافيف رأسي.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين