شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!
حين ترتفع أسماء مثل مبابي وبوغبا وبنزيما... يتراجع الخطاب اليميني الفرنسي

حين ترتفع أسماء مثل مبابي وبوغبا وبنزيما... يتراجع الخطاب اليميني الفرنسي

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

كانت انطلاقة كأس العالم مناسبة في سوريا لتكتظ المقاهي بالمشجعين والمتابعين، كنت أحضر مباريات كأس العالم في مقهى الروضة في دمشق، وكنت منذ صغري من الفتيات اللواتي يشجعن ويتابعن بغض النظر عن انحيازات ذكور العائلة، وعن منتخب الحبيب لاحقاً.

أتذكر منذ طفولتي أنني اخترت أن أشجع منتخب ألمانيا، وأعتقد أن خياري كان سببه ولادتي مصادفة فيها، ولكنني تحولت مع سنوات العمر إلى مشجعة متمسكة بمنتخبي، ومتحمسة له إلى درجة أنني أمتلكت الرداء الرسمي للمنتخب وعلم ألمانيا، فكنت أخرجهما مع انطلاقة المباريات من خزانتي، وأرتديهما لدى الذهاب إلى المقهى للتشجيع.

تنقسم طاولات المقهى في كل مباراة إلى قسمين، يشجع كل منهما منتخباً، باستثناء المباريات التي يشارك فيها بلد عربي حيث يصبح صوت المشجعين واحداً.

وفيما كنت أشجع ألمانيا، كان أخي وزوجي يشجعان إيطاليا، وتنحاز صديقتي إلى البرازيل، ويشجع صديقي الأرجنتين. أتذكر أن صديقة فرنسية حضرت معنا مباريات كأس العالم في المقهى، وقالت لي فجأة: "كأس العالم في بلدكم جنوني"، لم أفهم حينها ما تعني، ولكنني بدأت بفهم ما قصدت بعد وصولي كلاجئة إلى فرنسا.

حكمة رحلة الدراجات الهوائية

لعبت ألمانيا ضد فرنسا في نهائيات كأس أوروبا في العام 2016، كنت وزوجي في رحلة على الدراجات الهوائية في طريقنا إلى الجنوب الفرنسي، ونخيم كل ليلة في مكان مخصص، بث التلفزيون الرسمي المباراة، وكنت أفكر بمشاعري المتناقضة في تلك الليلة، إذ يلعب المنتخب الذي شجعته طيلة حياتي ضد منتخب البلد الذي استضافني وأعيش فيه، إلا أنني كنت أتمنى أن تربح فرنسا كي يفرح الفرنسيون في كل مكان. 

كانت طاولات المقهى في دمشق تنقسم في كل مباراة إلى قسمين، يشجع كل منهما منتخباً، باستثناء المباريات التي يشارك فيها بلد عربي حيث يصبح صوت المشجعين واحداً

ترددت في حضور المباراة، ولكنني قررت نهاية أن أحضرها في صالة المشاهدة في المخيم الصيفي الذي صدف تواجدنا فيه. في تلك الليلة، كانت إحدى المدارس قد نظمت رحلة لطلابها إلى المخيم نفسه، وقامت المعلمة بإحضار الطلاب إلى الصالة باكراً لتنظيم جلوسهم.

وصل إلى الصالة لاحقاً زوجان من الألمان تصادف أنهما يقضيان عطلة الصيف في نفس المخيم، وأثناء الاستراحة، توجه الرجل الألماني إلى المعلمة وتحدث معها، وبعد أن وافقته على ما قال، توجه الرجل إلى مقصف المخيم واشترى بوظة لكل الأطفال الموجودين، ووزعها عليهم قائلاً: "أردت أن أخبركم أننا نشاهد لعبة، وأن الرابح لن يغير أننا أصدقاء نشاهد معاً، فإن ربحت فرنسا سأكون سعيداً من أجلكم، وإن ربحت ألمانيا، أتمنى أن تفرحوا من أجلنا". خجلت في هذه اللحظة من تضارب مشاعري تجاه المباراة وقررت أن أتابعها وأن أفرح سواء ربحت فرنسا أم ألمانيا.

في فرنسا... نشجع كالفرنسيين

مع انطلاقة كأس العالم 2018، فكرت في مقاطعة الكأس الذي تُـلعب كل مبارياته في روسيا،  والتي كانت تقصف السوريين بالتعاون مع النظام السوري، ولكني عرفت أن مقاطعتي لن تجدي نفعاً.

كانت حماستي قد تراجعت كثيراً للتشجيع، وبذا كنت مؤهلة للعب دور المراقبة الخارجية، وعندها فهمت ما قصدته صديقتي الفرنسية عندما تحدثت عن كأس العالم في بلادنا. لا أحد يسأل الآخر هنا: من تشجع؟ فبالطبع الجميع يشجع فرنسا.

على عكس التشجيع في البلاد العربية لا أحد يسأل الآخر في فرنسا من تشجع؟ فبالطبع الجميع يشجع المنتخب الفرنسي

يجتمع الناس من مختلف الطبقات في المقاهي ومساحات التشجيع العامة، يغنون النشيد الفرنسي، يرتدون ملابس المنتخب، يلتحفون العلم أو يرسمونه على وجوههم. تهب الأمة الفرنسية التي تكره الضجيج جمعاء بالصراخ عندما يهز هدف فرنسي شباك الخصم.

كان هذا الكأس هو الأول الذي لا أتابع فيه تفاصيل المباريات ولا أهتم بتوزيع المجموعات، ولا أتذكر منه أية تفاصيل سوى فرحة المشجعين في الطرقات. ومع وصول فرنسا إلى النهائي، بدأ الحماس يتسلل إلى قلبي شيئاً فشيئاً. فازت فرنسا بالكأس ولم تنم مدينتي الصغيرة، احتفل الناس في الطرقات وتعانقوا وغنوا وشربوا وأطلقوا الألعاب النارية.

بعد نهاية الكأس، قرأت رواية ساحرة بعنوان "أطفالهم من بعدهم" للروائي نيكولا ماتيو، وقد حصدت جائزة غونكور عن العام 2018، ورغم أن موضوع الرواية هو عن المراهقة في التسعينيات، وعن التحول الذي أصاب فرنسا وطبقاتها الوسطى وتحولها باتجاه مزيد من الفقر وأزمات الفئة المهاجرة، إلا أن الرواية تناولت جانباً متعلقاً بكأس العالم، إذ تنتهي فصول الرواية أثناء كأس العالم 1998، وفجأة تجتمع شخصيات الرواية التي تفرقت على مر الكتاب، وتتوحد مشاعرهم، ويتعانق البطلان اللذان تبادلا العداء طوال الرواية. 

قال السائح الألماني للأطفال الفرنسيين: "أردت أن أخبركم أننا نشاهد لعبة، وأن الرابح لن يغير أننا أصدقاء نشاهد معاً، فإن ربحت فرنسا سأكون سعيداً من أجلكم، وإن ربحت ألمانيا، أتمنى أن تفرحوا من أجلنا". 

فهمت حينها المعنى الذي لم أستطع سابقاً تركيبه، كأس العالم ليس مناسبة رياضية هنا بل مناسبة قومية ووطنية. تنجح الرياضة مرة كل فترة في جمع الفرنسيين وتقريبهم ورأب الصدع الذي يمزق مجتمعاتهم، تنجح بجعلهم يتفقوا جميعاً لمدة قصيرة على محبة منتخب بلدهم.

مع كأس العالم في قطر، تبدو الأجواء مختلفة قليلاً، إذ ساد حديث عن الأثر البيئي المدمر لهذه البطولة، وألغت معظم البلديات مساحات التشجيع العامة، وازداد الحديث عن مقاطعة المباريات، ولكن بالمقابل ساد الترقب أيضاً، واحتلت تشكيلة المنتخب الفرنسي وأسماء المصابين مساحة كبيرة من الأنباء اليومية، وانحسر الخطاب اليميني المتطرف الذي يهاجم المهاجرين بلا توقف، إذ لا يمكن الحديث عن "أزمة المهاجرين" حين يتحول أمثال  زيدان وبنزيما ومبابي وبوغبا إلى أبطال قوميين.

انحسر الخطاب اليميني المتطرف ضد المهاجرين، إذ لا يمكن الحديث عن "أزمة مهاجرين" حين يتحول أمثال مبابي وبوغبا إلى أبطال قوميين

استعد المشجعون للمباريات على أكمل وجه، أتخيلهم يفتحون خزاناتهم ويخرجون من قعرها الملابس والأعلام فرنسية، وأتذكر علم ألمانيا الذي يقبع في عمق خزانة بيتي الذي يبعد عني آلاف الكيلومترات، أفكر بالمنتخب السوري الذي لم ينجح على مر تاريخه بالتأهل إلى نهائيات كأس العالم، وأفهم فجأة أنني لم أعد محتارة بمشاعري الرياضية، أرغب أن تفرح بلدي الثانية، أرغب أن يحتفل جيراني، وأن تعم البلاد لحظة تنسيها انقساماتها، أرغب في أن يشعر المهاجرون أنهم شاركوا في إنجاز كبير لبلدهم الجديد، أرغب أن نفرح معاً، ولكنني أعلم أن الغصة سترافقني، فالسوريون لم يفرحوا منذ سنوات طوال عجاف.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

ثورتنا على الموروث القديم

الإعلام التقليديّ محكومٌ بالعادات الرثّة والأعراف الاجتماعيّة القامعة للحريّات، لكنّ اطمئنّ/ ي، فنحن في رصيف22 نقف مع كلّ إنسانٍ حتى يتمتع بحقوقه كاملةً.

Website by WhiteBeard
Popup Image