تلقى جلال الدين (اسم مستعار) في مطلع أيار/ مايو 2022 إشعاراً من المركز القنصلي الأمريكي في كنتاكي بتحديد موعد مقابلته في القنصلية الأمريكية في جيبوتي يوم الـ14 من ذات الشهر، كونه أحد الفائزين في برنامج القرعة لتأشيرة التنوع الأمريكي (DV Lottery)، للعام 2022، المعروف أيضاً ببرنامج الهجرة العشوائية.
ولأن الحرب المندلعة في البلاد منذ نحو ثماني سنوات تسببت بإغلاق السفارات والقنصليات الأجنبية في البلاد، توجب على جلال الدين اصطحاب زوجته وطفليهما والسفر براً من محافظة إب إلى العاصمة المؤقتة عدن. ومن هناك استقلوا طائرة توجهت بهم إلى جيبوتي، لأن السفارة الأمريكية فيها هي أقرب سفارة متاحة لليمنيين من أجل استكمال إجراءات السفر إلى الولايات المتحدة، لأغراض الزيارة ولم الشمل أو تخليص معاملات تأشيرة هجرة التنوع.
كما غيره من يمنيين كُثر، حَلم جلال الدين بالحصول على تأشيرة السفر الأمريكية والبطاقة الخضراء، لأنها، حسبما وصفها، مفتاح انتقاله من مكان أنهكته الحرب وشوهت ملامحه إلى آخر يبدأ فيه حياةً مستقرة جديدة مع أسرته، ولم يدر في خلده أن حلمه الأمريكي هذا سيتبخر، بل وسيصبح عبئاً ثقيلاً على كاهله.
يقول لرصيف22 إن كل شيء سار بنحو طبيعي في بادئ الأمر. أجرى المسؤول القنصلي المقابلة معه في السفارة الأمريكية في جيبوتي، وأبلغه في نهايتها بأنه سيكون مؤهلاً للحصول على الفيزا بعد إخضاع ملفه لإجراء روتيني يسمى "المعالجة الإدارية" ولن يستغرق سوى فترة زمنية قصيرة وسيتلقى إشعاراً فور إكمال كل شيء.
يضيف بنبرة حزن: "تلك الفترة الزمنية طالت، ومر شهر وراء آخر دون أن أتلقى الإشعار، ليخبرونا بعد انتهاء شهر أيلول/ سبتمبر أن السنة المالية انتهت، أي أنني لن أحصل على الفيزا، وأصبحت عالقاً هنا في جيبوتي بعد أن أنفقت كل ما أملك من مال، ومثلي الكثير من اليمنيين الذين حُرموا أيضاً من الحصول على الفيزا لأسباب غير معروفة، سوى أنه تم وضع ملفاتنا تحت المعالجة الإدارية، دون البت فيها، بالرفض أو القبول".
ويعني وضع طلب التأشيرة تحت المعالجة الإدارية وفق المادة (221G) من قانون الهجرة والجنسية الأمريكي، أن المسؤول القنصلي لم تكن لديه جميع المعلومات المطلوبة لتحديد ما إذا كان الشخص مؤهلاً للحصول على التأشيرة أم لا، أي أن قضيته ستظل معلقة إلى حين تبيُّن إذا كان مؤهلاً للحصول عليها أو غير مؤهل بنحو نهائي.
ويسوق قانون الهجرة والجنسية سببين رئيسيين لذلك، أولهما، أن الطلب غير مكتمل وهنالك حاجة إلى تقديم وثائق أخرى، والثاني، أن الطلب يحتاج مزيداً من المعالجة الإدارية قبل اتخاذ قرار بشأن الأهلية للحصول على التأشيرة وفي هذه الحالة يُعطى مقدم الطلب خطاباً يوضح ذلك، وتعليمات حول الخطوة التالية بعد اكتمال المعالجة الإدارية.
وأخبرنا مصدر مطلع، نتحفظ عن ذكر صفته، أن عدم انتهاء المعالجة الإدارية مع انتهاء السنة المالية، يعني أن الطلب سيُرفض، وهي معلومة لم نستطع التأكد منها.
طلبات قيد المعالجة الإدارية
م. هـ. (29 سنة)، غادر اليمن مطلع أيلول/ سبتمبر 2022 وأجرى المقابلة في السفارة الأمريكية في جيبوتي يوم 11 من ذات الشهر، وطُلب منه تقديم إثبات على مؤهله العلمي وتسليم جواز سفره، وقام في اليوم التالي بتسليم السفارة شهادات لمختلف المراحل الدراسية التي اجتازها مع جواز سفره، ولم يتلق أي ردٍ من يومها.
يقول بحيرةٍ لرصيف22: "أسكن حالياً على سطح مبنى يعود إلى يمني مقيم في جيبوتي، بعد أن أنفقت كل ما كان بحوزتي من مال هنا، ولم يعد بوسعي العودة إلى اليمن، ليس فقط لأنني مفلس بل لأن جواز سفري ما زال في السفارة الأمريكية".
وكان م. قد حاول وفقاً لروايته استرجاع جواز سفره في شهر تشرين الأول/ أكتوبر 2022، فطلب منه الموظف الأمريكي أن ينتظر، وحين سأله عن الفترة التي يفترض أن ينتظر خلالها، لم يحصل على جواب شافٍ.
وبناءً على ما نشر على منصة DV Lottery charts، التي تستقي بياناتها من مركز التطبيقات الإلكترونية القنصلية التابع لوزارة الخارجية الأمريكية، فإن 620 يمنياً، هم إجمالي الفائزين مع أفراد أسرهم المستحقين، فازوا ببرنامج تأشيرة هجرة التنوع للعام 2022.
353 من هؤلاء حصلوا على تأشيرات السفر، و71 رُفضوا بنحو نهائي، و15 ملفاتهم جاهزة للمقابلة، فيما خضعت ملفات 181 للمعالجة الإدارية بعد إجراء المقابلة في جيبوتي، من بينهم جلال الدين وم. هـ.
حرمان متعمد أم مجرد روتين؟
تختلف فترة المعالجة الإدارية لطلبات التأشيرة الأمريكية، وفق الظروف الفردية لكل حالة، وقد تصل إلى 180 يوماً، وتزيد في بعض الحالات، ولكن لضيق الفترة الزمنية أمام الفائزين بتأشيرة التنوع، قامت السفارات الأمريكية في مختلف دول العالم بالفصل في غالبية الطلبات قبيل انتهاء شهر سبتمبر/ أيلول 2022، تجنباً لحرمان المتقدمين من الحصول على الفيزا.
تؤكد تعليمات وزارة الخارجية الأمريكية ذلك إذ تنص على أنه "يجب إصدار تأشيرات لجميع المتقدمين الذين تم اختيارهم بما في ذلك أفراد عائلاتهم، بحلول 30 سبتمبر/ أيلول 2022. ولا يمكن للوزارة وتحت أي ظرف إصدار تأشيرات التنوع ولا يمكن لمكتب خدمات الهجرة والجنسية الأمريكي الموافقة على التعديلات بعد هذا التاريخ".
طارق الجوفي (45 سنة)، يصف لرصيف22 مقابلات اليمنيين مع المسؤول القنصلي الأمريكي بأنها "مجرد إجراء مزاجي وطريقة القبول أو الرفض لا تستند إلى المعلومات أو المعايير الخاصة ببرنامج الهجرة، وقد تعرَّضنا للظلم والتمييز".
حَلم جلال الدين بالحصول على تأشيرة السفر الأمريكية، لأنها، حسبما وصفها، مفتاح انتقاله من مكان أنهكته الحرب وشوهت ملامحه إلى آخر يبدأ فيه حياةً مستقرة جديدة مع أسرته، ولم يدر في خلده أن حلمه الأمريكي هذا سيتبخر
وبتوضيح أكثر، يقول الجوفي إن المقابلات التي أجراها المسؤول القنصلي مع اليمنيين في جيبوتي بدأت في شهر كانون الثاني/ يناير 2022، مع أنه كان يمكن البدء بمقابلة الفائزين في برنامج هجرة التنوع لعام 2022 في شهر تشرين الأول/ أكتوبر من العام 2021، وهذا برأيه "موقف يكشف مدى التلاعب والإهمال الذي تعاملت به السفارة مع اليمنيين، وعدم مراعاتها للظروف التي يعانون منها".
وبخلاف ما يتهم به الجوفي السفارة الأمريكية في جيبوتي، يقول بشير الفهد، وهو يمني مختص في شؤون الهجرة، ويملك "مكتب الفهد لخدمات الهجرة والترجمة" في جيبوتي، لرصيف22 إن ما يُعرف بـ"المعالجة الإدارية" هو "إجراء روتيني متبع في السفارة الأمريكية، وتحديد أسبابه يدخل من ضمن اختصاصها".
واستناداً إلى خبرته واطّلاعه على العديد من القضايا المشابهة، يرى أن من أسباب وضع الطلب قيد المعالجة الإدارية "وجود وثيقة مزورة أو ورود خطأ في المعلومات التي قُدمت أو نقص في معلومة معينة أو وجود اشتباه أو تشابه في الأسماء أو عدم الاقتناع بمعلومة محددة أو أحياناً وفق ما تراه السفارة، لأن ببساطة هذا هو عملها".
ومن الملاحظات التي يبديها الفهد على أداء السفارة الأمريكية في جيبوتي أن هنالك طلبات كثيرة قُدّمت إليها وكان بإمكانها البت فيها بنحو أسرع، أي قبل انتهاء السنة المالية.
ويشير إلى أن فترة المعالجة الإدارية هي في الغالب "شهران، وقد تمتد لأطول من ذلك في حالات قليلة جداً". ويلفت إلى أن وضع طلبات عدد كبير من اليمنيين الفائزين ببرنامج تأشيرة التنوع، قيد المعالجة الإدارية، يحدث لأول مرة هذا العام.
للتحقق من ذلك، قمنا بالبحث في البيانات التي توفرها منصة DV Lottery charts، فتبين بالفعل أن عدد الطلبات التي وضعت تحت المعالجة الإدارية العام الماضي، 2021، كان طلبين فقط، مقارنة بـ83 طلباً هذا العام، وهو عدد الأشخاص المستحقين للفيزا، أي الفائزين، وبإضافة المستفيدين الآخرين إليهم، وهم أطفال الفائزين وزوجاتهم، البالغ عددهم 98 فرداً، يكون المجموع 181 فرداً.
تواصلنا مع السفارة الأمريكية في جيبوتي في 18 تشرين الثاني/ نوفمبر 2022، ولكن لم نتلق رداً مباشراً منها، عدا رد تلقائي وصل ذات اليوم، تضمن إجابات عامة عن مجموعة من الاستفسارات الشائعة، أحدها تعلق بالطلبات التي ما زالت قيد المعالجة الإدارية، ونص الإجابة هو: "لا توجد معلومات إضافية مطلوبة من أي شخص مشارك في البرنامج في الوقت الحالي. كل يوم نتحقق من حالة قضايا التأشيرات. بمجرد أن نتمكن من متابعة قضيتك، سنخبرك في أقرب وقت ممكن".
تضمن رد السفارة أيضاً أن وقت الاستجابة للرسائل خلال الفترة الحالية يتطلب 14 يوماً، أي أسبوعين، وعلى الرغم من انتظارنا لأكثر من 18 يوماً، لم يصلنا ردٌ منها.
خيبة البقاء ومعاناة العودة
مع انتهاء شهر أيلول/ سبتمبر 2022، أدرك العشرات من اليمنيين المحالة طلباتهم على المعالجة الإدارية أن أحلامهم ذهبت أدراج الريح، وحرمانهم من الحصول على تأشيرة التنوع الأمريكية أصبح واقعاً عليهم التعامل معه.
"أنفقت أكثر من عشرة آلاف دولار هنا في جيبوتي، جمعت معظمها كديون من أقرباء وأصدقاء، ولا أعرف ماذا سأقول لهم إذا عدت إلى اليمن، فلا أحد منهم سيصبر على قضائي للدين ويقدّر وضعي"
كثيرون منهم قرروا العودة إلى اليمن، غير أنهم فوجئوا لدى وصولهم إلى المطار بقرار اتخذته السلطات الجيبوتية بتغريم كل واحدٍ منهم مبلغ 220 دولاراً عن كل شهر تأخر فيه عن تجديد إقامته، مما شكل صدمة كبيرة بالنسبة إليهم، ولا سيما أن غالبيتهم الساحقة بلا مال كافٍ، وبالكاد كانوا قد وفروا ما مكّنهم من شراء تذاكر طيران العودة.
وإزاء عجزهم عن سداد مبالغ الغرامات، تعرّض العديد منهم للتوقيف من قبل رجال الأمن في المطار، وهو ما دفعهم إلى مناشدة الحكومة اليمنية وسفارة بلادهم في جيبوتي للتدخل وإنقاذهم من المأزق الذي وقعوا فيه.
ومع تدخل ناشطين ومدونين على وسائل التواصل الاجتماعي وبعض وسائل الإعلام لمساندة اليمنيين المحتجزين ونشر مقاطع فيديو تظهرهم وهم في مطار جيبوتي لإبراز معاناتهم، أصدرت السفارة اليمنية هناك بياناً في الخامس من تشرين الأول/ أكتوبر 2022 نفت فيه وجود أي يمني عالق في جيبوتي.
واتهمت السفارة في بيانها وسائل الإعلام التي تناولت القضية بـ"الكذب والادعاء والدبلجة"، وبأنها تستثمر في هموم المجتمع وتتعمد الإساءة إلى السفارة اليمنية والجالية في جيبوتي والعلاقات بنحو عام بين البلدين.
لكن خلال تقصينا لجمع معلومات هذا التقرير، حصلنا على مقطع فيديو يخالف تماماً ما جاء في بيان السفارة اليمنية في جيبوتي، يظهر فيه هاشم هرره، القنصل اليمني في جيبوتي، وهو يتحدث لمجموعة من الشباب اليمنيين العالقين والمفروضة عليهم غرامات، ويخبرهم بوجود مفاوضات مع السلطات الجيبوتية لمراجعة قرارها، كون الآلاف من اليمنيين متضررين من هذا القرار وليس فقط الفائزين في برنامج هجرة التنوع.
أحلامٌ مهدورة
يرفض جلال الدين، وهو موظف حكومي، تصديق أن لا أمل تبقى لديه للحصول على التأشيرة الأمريكية. كمَن يحدث نفسه يقول: "أنفقت أكثر من عشرة آلاف دولار هنا في جيبوتي، جمعت معظمها كديون من أقرباء وأصدقاء، ولا أعرف ماذا سأقول لهم إذا عدت إلى اليمن، فلا أحد منهم سيصبر على قضائي للدين ويقدّر وضعي، كما أننا معشر الموظفين الحكوميين لا نعرف متى نستلم رواتبنا التي لا تكفي لشيء أصلاً".
وحتى العودة مع عائلته لم تعد في المتناول، لأن تكاليفها باهظة بالنسبة إليه، فضلاً عن الغرامات التي ستفرضها عليه السلطات الجيبوتية بسبب تأخره أشهراً عدّة عن تجديد الإقامات الخاصة به وزوجته وطفليهما، يروي بكثير من الإحباط.
أما م. هـ.، فما زال لديه بصيص أمل بالسفر إلى أمريكا، لكون السفارة الأمريكية في جيبوتي لم تُعِد إليه جوازه، وهذا ما يهدئ به مخاوفه باستمرار، ويقول: "ليس لديّ مأوى هنا ولكن ذلك أهون عليّ من العودة إلى اليمن وملاقاة الناس الذين سيطالبونني بالديون التي لهم بذمتي".
ثمانية آلاف دولار هو مجموع ما أنفقه م. هـ. على سفره وإقامته في جيبوتي. فضلاً عما اقترضه من معارفه، اضطر إلى بيع مصوغات ذهبية خاصة بشقيقاته. ولهذا يصر على البقاء والانتظار.
وفي ما خص طارق الجوفي، وهو مثل جلال الدين موظفٌ حكومي، فإنه على الرغم من عودته إلى اليمن بعد إحالة طلبه على المعالجة الإدارية، إلا أن ثمة أمل يساوره بسبب بيان كانت قد أصدرته السفارة اليمنية في الولايات المتحدة في الثالث من تشرين الأول/ أكتوبر2022، طالبت فيه اليمنيين الفائزين بالقرعة العشوائية وتأخرت تأشيراتهم في السفارات الأمريكية، بالتواصل معها وإرسال معلوماتهم إليها عبر البريد الإلكتروني.
يقول الجوفي: "قد يتحقق الحلم، مَن يدري؟ لكن الانتظار صعب سواءً هناك في جيبوتي أو هنا في اليمن، لكن على أية حال، هو غير مكلفٍ في اليمن".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmad Tanany -
منذ يومينتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 4 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ 6 أيامأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه