أقرّ قانون 178/2020، تشريع زراعة نبتة الحشيشة، أو القنّب الهندي، للاستخدام الطبي والصناعي، عام 2020، لكن ذلك لم يغير واقع مزارعي الحشيشة، في انتظار تعيين هيئة ناظمة لتضع النظامين الداخلي والمالي ليوافق عليهما مجلس الوزراء ويبدأ التنفيذ، في الوقت الذي دخل فيه لبنان منذ نهاية عهد ميشال عون، في فراغ رئاسي وتشريعي، معطوف على أزمة اقتصادية غير مسبوقة يمرّ بها لبنان منذ أكثر من عامين.
وتُمارس هذه الزراعة في لبنان في مناطق الأطراف التي يلائم مناخها زراعة الحشيشة، وتحديداً في جرود بعلبك والهرمل في البقاع، لكن لهذا المحصول ثمناً باهظاً، فأهالي هذه المناطق، الذين غالباً لا يملكون خيارات متنوعةً، يلجؤون إلى زراعة الممنوعات، حشيشة الكيف تحديداً، لأنها الزراعة الأربح والوحيدة المتوفرة في تلك البيئة الجردية، في ظل غياب الدولة عن مساعدة سكانها في إيجاد زراعات بديلة تؤمّن لهم معيشتهم.
يقول المهندس الزراعي حنا مخايل: "تشريع الحشيشة لا يناسب أياً من سياسيي لبنان. كل منطقة تُزرع فيها الحشيشة تابعة لأحد السياسيين الذين يبنون علاقات من الزبائنية السياسية مع تجار الحشيشة. أما المزارعون فلا أحد يحميهم لذا يُعدّون الضحية الوحيدة، كما أن معظم الربح يذهب إلى جيوب التجار. أما بالنسبة إلى تشريعها لأسباب طبية، فالحشيشة في لبنان عادةً ما تُستخدم للكيف وتُهرَّب إلى الخارج، والأسباب الطبية تأتي ثانياً".
غياب البدائل
أقرّ قانون 178/2020، تشريع زراعة نبتة الحشيشة، أو القنّب الهندي، للاستخدام الطبي والصناعي، عام 2020
تهدد العوامل الطبيعية المتوفرة زراعة محاصيل غير الحشيشة، فالمناطق التي تزرع فيها تلك النبتة هي مناطق جافة لا تتوفر فيها مياه الري ويسيطر عليها مناخ رطب وتعاني من البرد القارس خلال فصل الشتاء.
حاولت الدولة، بمساعدة منظمات وجمعيات ومن خلال وزارة الزراعة، أن تؤمّن لمزارعي الحشيشة محاصيل بديلةً، لكن هذه المحاولات غالباً ما باءت بالفشل، إما بسبب العوامل الطبيعية أو بسبب العوائق المالية أو بسبب صعوبات في تصريف الإنتاج في السوق المحلي.
يكمل مخايل: "تبديل المحصول هو بمثابة تبديل المهن، ومن المجحف أن نطلب من المزارع التضحية بموسم أو اثنين من أجل إيجاد زراعة بديلة. كما أن البديل ليس مهماً إذا لم يُساعَد المزارع على تحسين المنتَج وفتح أسواق جديدة والتصدير. لكن المثير للاهتمام أن وزارة الزراعة لم تتخذ أي مبادرات، بلا مساعدات خارجية، للحد من زراعة الحشيشة، بينما يتحمل المزارع عبء لقب "زارع حشيشة".
ويُجبَر مزارع الحشيشة على الزراعة سرّاً والبقاء بعيداً عن أعين الأجهزة الأمنية، ويتحمل أداء المهمة الأصعب كونه الفئة الأضعف وغير المحمية التي تتحمل الخسائر من تجارة عشبة تدرّ الملايين على جيوب التجار. ويتراوح سعر غرام الحشيشة في بعلبك اليوم من 5 إلى 8 آلاف لبنانية، بينما يتراوح سعره في السوق السوداء في الجنوب وبيروت بين 15 و20 ألف ليرة لبنانية. وهو سعر يُعدّ نوعاً ما مقبولاً وسط الأزمة الاقتصادية التي تعصف بالبلاد حيث تستخدم الحشيشة بديلاً من الدواء والمسكّنات في حالات قليلة، بينما يكثر استخدامها للكيف، خاصةً أن جودة النبتة العالية تسمح باستخدام غرام واحد من الحشيشة في السيجارة.
تجارب مبشّرة
هذه العوامل، حثّت مزارعي القنّب على اللجوء إلى زراعات بديلة، وهناك بعض التجارب التي نجحت في تبنّي هذه الزراعات منها تعاونية هليبوليس التي أنشأها 11 مزارعاً من مزارعي قرى عدة في دير الأحمر في أيلول/ سبتمبر 1990.
من لا يزرع الحشيشة لا يزرع أرضه، لأن المحاصيل الأخرى لا تضمن الربح. لم نكن نملك خياراً سوى الحشيشة والتبغ الذي يتطلب عملاً شاقاً وبالكاد يؤمّن طعاماً
يقول إيلي حبيقة رئيس التعاونية: "أسسنا التعاونية بعدما قدمت هيئة لواز الفرنسية شتول عنب مجانية عدة لنجرّبها، فزرع أشخاص كثر أراضيهم، وبعد ثلاث سنوات، حصدنا المحصول وبعناه للخمارات ما شجّع مزارعين آخرين على زرع الكرمى التي يمكن أن تباع بعض أصنافها الذي ينتجه مزارعو دير الأحمر للأكل، لكنه غالباً يُستخدم لتصنيع النبيذ، لأن هذا النوع من العنب لا يتطلب وفرة المياه".
لكن الأزمة الاقتصادية التي أثرت على كل القطاعات الاقتصادية، أثرت أيضاً على المزارعين، خاصةً في ظل غياب روزنامة زراعية تمنع استيراد الخضار والفاكهة الأجنبية في مواسم الحصاد والإنتاج المحلي، وتبقي الحدود مفتوحةً أمام التجارة البرية التي تملك قدرةً تنافسيةً تتفوق على الزراعات المحلية، لأنها تستورد بضائع من دول مجاورة عدة تزرع المحاصيل في أراض واسعة وفي مناخ جيد نسبياً وبدعم من الدولة، وهو عائق آخر يمنع منافسة المحاصيل المحلية للأخرى المستوردة لفرق السعر الشاسع بينها. لكن الأزمة الاقتصادية جعلت أسعار النبيذ المستورد مرتفعةً جداً ما أدى إلى لجوء اللبنانيين إلى النبيذ المحلي، وتالياً حفّز مزارعو الكرمى على زيادة إنتاجهم.
"قبل المساعدات الفرنسية، لم تساعدنا الدولة سوى بأدوات بسيطة كالكبريت، ثم أخذنا قروضاً ميسرةً للاستثمار في الأراضي من سنة 2012 حتى 2019، ما أمّن رأسمالاً للذين يريدون اللجوء إلى زراعات بديلة. كما أن الاغتراب ساعد العائلات عبر التحويلات الشهرية. قبلها، كان من لا يزرع الحشيشة لا يزرع أرضه، لأن المحاصيل الأخرى لا تضمن الربح. لم نكن نملك خياراً سوى الحشيشة والتبغ الذي يتطلب عملاً شاقاً وبالكاد يؤمّن طعاماً"، يتابع حبيقة عن تجربته في مساعدة المزارعين على تأمين تمويل للّجوء إلى الزراعات البديلة.
شح المياه في معظم الأراضي اللبنانية يجبر المزارعين على اللجوء إلى الزراعات البعلية كالكرمى التي تحتاج إلى الري مرةً واحدةً في السنة
ماذا عن التسويق؟
توفر التمويل ليس الحل الوحيد، ولا يغني تماماً عن زراعة الحشيشة، فهناك مناطق أخرى اتجهت نحو زراعة محاصيل غير القنّب، ورأت في الزعفران الزراعة المثلى، خاصةً أن جودة المحصول كانت عاليةً وتنافس الأفضل في المنطقة، أي المحصول الإيراني، لكن المشكلة تكمن في انخفاض قيمة المزروعات السوقية عندما يزداد الإنتاج عن الكمية التي يمكن أن يستوعبها السوق، وتكمن مشكلة أخرى في شح المياه في معظم الأراضي اللبنانية ما يجبر المزارعين على اللجوء إلى الزراعات البعلية كالكرمى التي تحتاج إلى الري مرةً واحدةً في السنة.
بعدها، تبرز مشكلات أخرى متعلقة بالتسويق وإيجاد أسواق لتصريف الإنتاج. تعاونية دير الأحمر وجدت هذا الدعم من خلال دليل تضامن، وهي مبادرة تدعم التعاونيات المحلية وتساعد على تسويقها. أطلقت المبادرة في أواخر السنة الماضية مشروع "صندوق تضامني"، الذي يضم منتجات محليةً هي نتاج عمل مبادرات نسائية ومشاريع تضامنية ساعد دليل تضامن على تأسيسها خلال السنة الماضية، أو أخرى أُسست بمعزل عن المبادرة.
تشرح أليس كفوري، مستشارة التنمية الاقتصادية لتضامن الناس عن المشروع: "يتضمن هذا الصندوق منتوجات من التعاونيات التي نعمل معها. عندما تباع هذه المنتوجات، تعود أرباحها إلى المؤسسات المصنعة. نحن نقوم بالترويج للصندوق وللمؤسسات التي تصنع المنتجات التي يحويها ولنشجع الناس على شراء منتجات محلية، وهي حملة ضمن حملات أخرى متاحة للجميع تجمع أشخاصاً من فئات عدة مثل مجتمع الميم عين وذوي الهمم والنساء واللاجئين".
الاجتماع والتشارك
تعيد هذه المشاريع تعريف علاقات الطبقة العاملة في لبنان، بمختلف مكوناتها، عبر حثّهم على الاجتماع والتشارك في بيئة تذوب فيها الفروق المختلقة والموروثة في المجتمعات المقسمة. وهي ميزة تُفتقد في العلاقات بين التجار والمزارعين التي تتمثل في علاقة عامودية بين المزارعين من الطبقات المهمشة والتجار المتمتعين بغطاء سياسي. أما تشرذم الفئة الأكبر من المجتمع اللبناني، وهي الفئة الأفقر والأكثر احتياجاً إلى الزبائنية السياسية، فيعني انحيازها إلى الفئة التي تؤمّن مصالحها الفردية المؤقتة على حساب مصلحة الجماعة.
مبدئياً، الجمعيات باتت تدعم إنتاج المزروعات البديلة وتوزيعها وتسويقها، لكن كل هذه المبادرات والمشاريع التي توجهها المنظمات والجمعيات لا يمكن أن تحل مكان الدولة، ولا يمكن أن تزيل الصورة النمطية التي تلاحق المناطق التي يُزرع فيها القنّب، ولا أن تزيل عبء الزراعة اللا قانونية، في انتظار أن يُنزل أصحاب الشأن، قانون تشريع الحشيشة من على الرّف، وهذا يبدو إلى الآن بعيد المنال.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...