شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
ضحّت بسُمعتها من أجل الوطن… دولت فهمي، أسطورة لم تقع أبداً

ضحّت بسُمعتها من أجل الوطن… دولت فهمي، أسطورة لم تقع أبداً

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الخميس 22 ديسمبر 202204:40 م


إذا كنتم من مُحبي السينما المصرية فلا ريب أنّكم شاهدتم أو على الأقل سمعتم بنبأ صدور فيلم "كيرة والجن"، الذي صدر هذا العام، ووثّقت أحداثه بعض أنشطة الجهاز السري الذي شكّله سعد زغلول لقيادة فعاليات الثورة تحت إشراف صديقه المُقرّب عبدالرحمن فهمي.

خلال حديث صُناعه عن أبطال الجهاز، تعرّض الفيلم –وكذلك الكثير من كتب التاريخ- إلى العديد من الشخصيات التي لعبت دوراً كبيراً في النضال الوطني، مثل أحمد كيرة وأحمد ماهر ومحمود فهمي النقراشي، فيما استأثرت دولت فهمي بالمجد الأنثوي وحدها بسبب قصة استشهادها الدرامية التي جعلتها أيقونة ثورية لا تزال الصُحف والأعمال الدرامية تتغنّى بها حتى الآن.

ماذا فعلت دولت فهمي؟

باختصار شديد، في عام 1920 حاول الناشط السياسي المصري عبدالقادر شحاتة إلقاء قنبلة على وزير الأشغال محمد شفيق باشا بسبب موافقته على التعامل مع الإنكليز، والانخراط في الوزارة برغم أوامر سعد زغلول -والوفد من خلفه- بالامتناع التام عن التعاون مع المحتلين أو تشكيل وزارات في ظِل سيطرتهم على البلاد.

قُبض على شحاتة، وخضع لتحقيق قاسٍ من قِبَل السلطة العسكرية البريطانية. ولم يُهوّن عليه التنكيل الإنكليزي إلا رسالة وصلته سرّاً من رفاقه في الجهاز السري تخبره بأن امرأة -تُدعى دولت تعمل ناظرة لمدرسة فتيات- ستُدلي بشهادة لصالحه في المحكمة. وبالفعل صبيحة اليوم التالي، اعترفت دولت أمام الجهات القضائية بأن "شحاتة" عشيقها وأنه كان يبيت في منزلها!

قصة استشهادها الدرامية جعلتها أيقونة ثورية لا تزال الصُحف والأعمال الدرامية تتغنّى بها حتى الآن... دولت فهمي أسطورة لامرأة مصرية ضحّت بسُمعتها وحياتها من أجل وطنها ومن أجل الحفاظ على التنظيم السرّي ورجاله

بحسب الأحداث المنشورة، فإن هذه الشهادة دفعت أهل دولت فهمي إلى قتلها لاحقاً ثأراً لشرفهم الذي دنّسته ابنتهم بعدما اعترفت علناً أنها على علاقة غير مشروعة برجلٍ سمحت له بالإقامة في منزلها دون زواج.

هنا تنتهي القصة، وتُصبح دولت فهمي أسطورة لامرأة مصرية ضحت بسُمعتها وحياتها من أجل وطنها ومن أجل الحفاظ على التنظيم السري ورجاله.

قصتان لدولت فهمي

تحدّث مصطفى أمين عن شخصية دولت فهمي كثيراً حتى أنه كتب عنها سهرة تلفزيونية ذات يوم حملت اسم "دولت فهمي التي لا يعرفها أحد".

تقع شهادتاه الرئيسيتان في مُؤلّفيه "الكتاب الممنوع" (نُشر كاملاً عام 1991)، و"مسائل شخصية" (نُشر عام 1982)، ومن خلال المقارنة بين كلتا القصتين وقع أمين في عددٍ من الأخطاء التي يستحيل التوفيق بينها.

أستعرضها في هذا الجدول حتى تكون الصورة أمامنا أكثر وضوحاً.

"الكتاب الممنوع"

"مسائل شخصية"

الخطأ

"عبدالقادر محمد شحاتة الطالب في المدرسة الإلهامية"

 "عبدالقادر محمد شحاتة الطالب بالمدرسة الألمانية الثانوية"

 اسم المدرسة

ألقى عبدالقادر بملابسه والمسدس في خرابة، وبعدها اختبأ في مدرسة قبطية حيث حاصره البوليس، وكان معه مسدس ثانٍ فأخذته منه ناظرة المدرسة وأخفته ثم اقتحم رجال البوليس المدرسة وقبضوا عليه داخلها 

"اعتقد عبدالقادر أنه قتل الوزير، وأسرع في طريق النجاة المرسوم في الخطة، ووصل إلى خرابة فرمى فيها المسدس، وإذا بالبوليس يتتبعه فقبض عليه وأودعه السجن"

 صُنع دور بطولي آخر لناظرة قبطية، لم يغير مسار الأحداث، ولم يذكره أمين في روايته الثانية للقصة

"بالفعل، بتُّ ليلة 19 فبراير سنة 1920 في منزل حسني الشنتناوي عضو الجهاز السري"

"كان يبيت في شقة الدكتور أحمد ماهر مساعد عبدالرحمن فهمي بك رئيس الجهاز السري للثورة"

مقرّ المبيت

"جاءت السيارة الوجيهة، وقدّم لي السائق القنبلة في علبة ورق كبيرة"

 "نزل سائق (...) يحمل سبتًا مزركًا ومشى إلى عبدالقادر ووضعه على الدكة بجواره"

 طريقة تسليم القنبلة

فما سر وقوع "أمين" في هذه الأخطاء إذن؟

مصطفى أمين: باحث عن الأساطير، لا التاريخ

ظهرت تلك القصة للمرة الأولى عام 1963 خلال الحلقات المُسَلسلة التي كان يكتبها الصحافي الشهير مصطفى أمين عن ثورة 1919، والتي تحوّلت لاحقاً إلى كتابٍ ضخم صدر في عهد الرئيس السادات، بعدما ظلَّ ممنوعاً من النشر طيلة فترة حُكم الرئيس جمال عبد الناصر بسبب مخاوف أمنية من أن تلك الحلقات تهدف إلى "تحريض الشعب على الانقضاض على الثورة"، على حد وصف مصطفى أمين.

إذاً فنحن أمام الإشكالية الأولى، وهي أن قصة دولت فهمي احتاجت إلى 44 عاماً حتى تخرج إلى النور، وهو أمر شبه مستحيل، إذ كانت الصحف المصرية تتغنّى بأبطال الثورة طيلة أحداثها، ومن غير المنطقي أن تغفل حكاية مفعمة بالدراما كتلك القصة عن جميع الصحافيين والمؤرخين حتى قدّمها مصطفى أمين بلا مصادر في كتابيه.

قصة دولت فهمي احتاجت إلى 44 عاماً حتى تخرج إلى النور، وهو أمر شبه مستحيل، إذ كانت الصحف المصرية تتغنّى بأبطال الثورة طيلة أحداثها، ومن غير المنطقي أن تغفل حكاية مفعمة بالدراما كتلك القصة عن جميع الصحافيين والمؤرخين حتى قدّمها مصطفى أمين بلا مصادر في كتابيه

الإشكالية الثانية هي أن مصطفى أمين لم يكن مؤرخاً محايداً، وإنما صحافي وفدي متحمّس، وقود قلمه الإثارة والقصص الساخنة التي كان يركض وراءها –بحُسن نية- أملاً في إضفاء المزيد من الرونق على الحدث الثوري، وهو ما دفعه في بعض الأحيان إلى ليِّ أعناق الأحداث وإضافة المزيد منها من أجل تحقيق هذا الغرض.

من الأمثلة على ذلك ما جرى خلال إعداد أمين لكتابه "الممنوع"، حيث أرسل أحد أبطال الثورة المجهولين، هو سيد محمد باشا الذي كان مسؤولاً عن إعداد القنابل لأعضاء الجهاز السري، أرسل لمصطفى أمين شهادته عن تجربته مع التنظيم، وبعد نشرها فوجئ بمصطفى أمين يُجري عليها تغييرات شاملة مضيفاً تفاصيل لم يقلها باشا، منها أن أمين يوسف (والد مصطفى أمين) كان عضواً في التنظيم السري هو الآخر!

في كتابه، ادّعى مصطفى أمين أنه تلقى خطاباً من سيد باشا المدير العام بوزارة التربية والتعليم سابقاً قال له فيه: "قد يدهشك أن تعلم أن والدك المرحوم أمين يوسف هو الذي أدخلني في الجهاز السري للثورة، وأنّي أنا الذي أدخلتُ أحمد عبد الحي كيرة في ذلك الجهاز السري"، وهو ما نفاه باشا جملةً وتفصيلاً.

يقول باشا إنه عندما واجَه أمين لاحقاً وسأله عن سبب كل هذه التغييرات والإضافات أخبره أنه قام بها حتى تكون شهادته لائقة للعرض في الصُحف!

أين دولت فهمي؟

بحسب رواية أمين، فإن عبدالقادر حاول البحث عن دولت فهمي فور خروجه من السجن، ذهب إلى المدرسة فأخبره الفرّاش والناظرة أنهما لا يعرفان عنها شيئاً، وحينما اطّلع على ملفها الوظيفي وجده فارغاً.

يقول أمين: "عرف عبدالقادر -لا ندري من أين- أن دولت من أهالي قرية صغيرة في محافظة المنيا فسافر هناك وقابل العمدة وأعضاء من العائلة فأنكروها جميعاً". يقول مصطفى أمين: "كاد عبدالقادر أن يجن، طاف البيوت بيتاً بيتاً، سأل البقال اليوناني، سأل مأذون القرية، سأل الداية، كلهم لم يسمعوا بِاسم دولت فهمي".

غياب مريب فسّره أمين لاحقاً بأنه تمَّ بسبب قتل عائلتها لها غسلاً لعارها ولشرفهم من علاقتها المزعومة به. قد يكون منطقياً أن تتبرّأ منها عائلتها، لكنه موقف لن يُشاركهم فيه أهل القرية بأكملهم وزملاؤها في العمل وحتى ملفها الوظيفي، فكيف غُيِّبت دولت فهمي على جميع الأصعدة بهذا الكشل؟

التفسير الأقرب للمنطق هنا هو أنه لا تُوجد "دولت فهمي" من الأساس. لذا كان من السهل الادعاء باختفائها فوراً من الورق ومن الحياة.

هنا أيضاً، فإن البطل الثوري المتيّم بحبها -على حد وصف أمين- اكتفى برواية مقتلها وكفَّ عن محاولات تكريمها، فلم يبحث عن قبرها ولم يوضّح حقيقتها لأهل قريتها ولأهلها. ولم يكرّم موقع دفنها بشاهدٍ رخامي يبرّئ ساحتها أمام الأجيال المقبلة بل اكتفى بما حدث واستسلم لأن تكون نسياً منسياً وعاد إلى القاهرة.

شهادة عبدالقادر شحاتة: لا وجود لدولت فهمي

يقول مصطفى عبيد الكاتب الصحافي والباحث التاريخي لـرصيف22 إن عدد النساء اللائي كُنَّ يُجدن القراءة والكتابة في القُطر المصري بأكمله خلال تلك الفكرة يُعدُّ على أصابع اليد الواحدة، ومن العسير أن تكون امرأة مصرية –ومن محافظة نائية في الصعيد- قد تلقت تعليماً راقياً دفع السُلطات المصرية لتعيينها ناظرة مدرسة.

في كتاب "مسائل شخصية" أكد أمين أن دولت فهمي تكبر عبدالقادر بعامين فقط، وبما أنه كان في الـ21 من عُمره خلال تنفيذ محاولة الاغتيال، إذاً فإن دولت فهمي كانت في الـ23 من عُمرها، وهو سن لا يكفيها إلا لأن تكون طالبة في الجامعة على أكثر تقدير، وليست ناظرة مدرسة وسابقة أيضاً.

وهنا أيضاً يجب التنويه بأن أول ناظرة مصرية كانت نبوية موسى، التي كانت أول فتاة مصرية تحصل على شهادة البكالوريا عام 1928، وبعدها شاركت في تأسيس مدرسة أهلية للبنات في الإسكندرية، أما أول دفعة من الفتيات التحقت بالجامعة المصرية (جامعة فؤاد الأول/جامعة القاهرة حالياً) فكان عام 1929 وكنَّ خمس فتيات فقط لم تكن بينهن من تحمل اسم دولت فهمي.

ويضيف عبيد: "شهادة دولت نفسها كانت بلا قيمة في القضية، ولم تُنقذ حياة عبدالقادر شحاتة ولم تغيّر مسار الأحداث، فلقد قُبض عليه متلبساً، ونال حُكماً بالإعدام خُفف بعدها إلى السجن، وظلَّ فيه حتى أفرج عنه سعد زغلول عقب توليه الوزارة عام 1924، كما أن اسم (دولت) لم يكن شائعاً في محافظات الصعيد خلال ذلك الوقت، وإنما هو ذو أصول تركية لا تستعمله عادةً إلا أسر المُدن الرئيسية كالقاهرة".

وفي كتابه "موسوعة تراث مصري" ينقل أيمن عثمان شهادة إبراهيم طلعت، أحد قادة الوفد بالإسكندرية، بأن اسم "فتاة المنيا" كان من وحي خيال مصطفى أمين، وأن اسمها الحقيقي هو "مريم".

يكمل عبيد أن ما يؤكد صحة وجهة نظره بأن شخصية دولت فهمي غير حقيقية هو شهادة عبدالقادر شحاتة نفسه، الذي أدلى للصُحُف بأحاديث عن دوره في الجهاز السري وعن "واقعة إلقاء القنبلة" وعن إلقاء القبض عليه ثم مُحاكمته دون أن يتطرّق من قريبٍ أو من بعيد لدور لأي امرأة في قصته، سواءً كانت دولت فهمي أو غيرها.

وهو ما يعلّق عبيد عليه قائلاً: "أعتقد أن لهذه القصة أصلاً ما، عن امرأة انخرطت في الجهاز السرّي وقامت بأدوار معينة أقلّ بطولة مما نُسب لدولت فهمي. أراد مصطفى أمين استغلال ذلك الخيط، فصنع منه قصة كبيرة ودراما ملحمية، لكن المؤكد عندي أن دولت فهمي لا وجود لها". 

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image