هل يمكن للنظام أن يظهر بشكلٍ عفوي دون تصميمٍ بشريّ مقصود؟ رغم كون فكرة النظام العفوي فكرةً غريبة، إلا أنّها تحظى بكميّة هائلة من الدراسات والأبحاث. لنتعمّق أكثر علينا التحدث عن آدم سميث الذي يمكن اعتباره مؤسس علم الاقتصاد.
آدم سميث لم يمكن اقتصادياً، فقبله لم يكن علم الاقتصاد موجوداً. سميث دخل جامعة غلاسكو في سن الـ14 حيث درس فلسفة الأخلاق ونما شغفه بالمنطق، الحريات المدنية، وحريّة التعبير. في زمن الحكم الملكي، كانت الحركات الليبرالية تنتشر شيئاً فشيئاً، وبالتوازي مع توق الأفراد لنيل حرياتهم كانت هناك أهداف أخرى مغرية أيضاً، أهمها قد يكون الرفاهية الاقتصادية والمنفعة المادية.
يتحدث آدم سميث في كتابه "ثروة الأمم" عن فكرة تُدعى "اليد الخفية" ويقول: "نحن لا نتوقع الحصول على طعام العشاء بسبب إحسان الجزّار، أو الساقي، أو الخبّاز، وإنّما بسبب اهتمامهم بمصالحهم الخاصة ونفعهم. نحن لا نعتمد على إنسانيتهم بل على حبّهم لذواتهم ولا نتحدث معهم عن حاجاتنا الخاصة بل عن امتيازاتها. لا أحد يختار العيش بفضل إحسان أحدهم سوى المتسوّل". بالطبع آدم سميث لم يقصد الفقراء الذين تقطعت بهم السبل بل أولئك الذين يرفضون العمل حتى وإنْ مُنِحَت لهم الفرص الوفيرة.
لنشرح مفهوم "اليد الخفية" بشكلٍ أعمق، يمكننا أن نتخيل معاً مدينةً افتراضية يوجد فيها خمسة خبازون. يمتلك هؤلاء عدّة أساليب متاحة للعمل في المدينة، إمّا أن يتفقوا في ما بينهم على سعرٍ موحد وجودة موحدة، ما يُلغي أيّة فوارق بينهم وكأنهم خبّازٌ واحد، وهذه الحالة تُدعى "الكارتيل" ولسنا في صدد التوسع في عرضها هنا، أو يعتمدون أسلوب المنافسة فيسعى كلًّ منهم إلى زيادة ربحه أكثر. في الحالة الثانية، سيتنافسون في ما بينهم وكلٌّ واحد منهم سيحاول جذب العدد الأكبر من الزبائن نحوه. إذا فكرنا في القرارات التي يمكن لكل خبازٍ أن يتبعها لكي يزيد أرباحه، يمكننا التفكير بتحسين جودة منتجاته فيبحث عن أساليب جديدة ونكهات لذيذة ليخبز ما هو شهي ويجتذب الزبائن للشراء، أو يمكنه أن يخفض أسعاره لتصير أرخص من أسعار منافسيه وعندها يجذب الزبائن نحوه كونهم يستطيعون شراء المزيد من المعجنات من مخبزه. من خلال قيام أحدهم باتباع أحد الأسلوبين السابقين تزيد أرباحه وتنخفض أرباح المنافسين له بسبب ترك زبائنهم لهم وتوجههم إلى الخباز الأفضل. المنافسون بالطبع سيردّون على ذلك باتباع خطواتٍ مشابهة وهكذا قد نشهد مزيداً من انخفاض الأسعار وتحسّنٍ في جودة الإنتاج ولذّة المعجنات ونكهاتها. كلّ ما سبق يؤدي إلى زيادة رفاهية الزبائن فهم يحصلون على أسعار أقل وجودة أفضل ونكهاتٍ جديدة لذيذة.
"رفاهيتنا الاقتصادية ليست دائماً بحاجة إلى تخطيط ولا تُحمى من قبل حكوماتنا بل على العكس تماماً، ففي معظم الأحيان تكون حكوماتنا هي مَن يحمي السارقين وترعاهم ضمن نظامها المسبق الصنع وتدّعي أنها تحمينا"
كلّ ما سبق هو ما يُدعى باليد الخفية. الخبازون لم يكن في نيّتهم إسعاد زبائنهم لحبهم لهم إنسانياً فهم ليسوا مستعدين لخوض تلك المنافسة لو كانت بالمجان، بل تحركوا بدافع حبهم لأنفسهم ورغبتهم في زيادة أرباحهم. هذه المنظومة الديناميكية التي تقود تطوّر الأحداث نحو تحسين المنتجات وأسعارها للزبائن هي منظومة عفوية لم يصمّمها شخص بحد ذاته، بل ظهرت بشكلٍ تلقائي دون تدخلات خارجية.
ذكرنا سابقاً أنّه يمكن للخبازين أن يتفقوا في ما بينهم على تحديد الأسعار والجودة ليريحوا أنفسهم من المنافسة. في هذه الحالة، علينا النظر إلى إمكانيّة أن يأتي خبازٌ جديد ويفتح مخبزه ويستغلّ اتفاقهم فيخفض أسعاره قليلاً فقط ليجذب كلّ زبائنهم إليه مما سيضطرّهم إلى اتخاذ خطواتٍ لصدّه. هنا نتحدّث عن مصطلحٍ يُدعى "الأسواق القابلة للتنازع" contestable markets فإذا كانت المواد الأولية لمخبز متوفرة في الأسواق كالقمح والأفران وغيرها عندها سيكون اتفاق الخبازين السابقين فرصةً ذهبية ليتمكن شخص جديد من افتتاح مخبز والاستفادة من اتفاقهم كي يحقق أرباحاً وفيرة وعندها سيضطر الخبازون المتفقون إلى أن يلغوا اتفاقهم ويعودوا إلى المنافسة. في حالة أخرى، إذا افترضنا أنّ الخبازين يمتلكون رخصةً من الحكومة ولا يحق لأحدٍ أن يفتتح مخبزاً دون موافقة الحكومة فعندها يمكن للحكومة التواطؤ معهم فتمنع أيّ أحد من افتتاح مخبز جديد وتحميهم من المنافسة. وهذا ما نلاحظه في بعض الدول العربية خاصّةً في أسواق المشتقات النفطية.
"صحيح أن النظام العفوي سيؤدي إلى تقليص الثروات ولكن ثروات الفاسدين المستغلين بينما الثروة الكلية ضمن الاقتصاد ستزداد وتتوزع بشكلٍ مركّز أقل، مما يضمن استدامة الرفاهية لمدة أطول وديناميكية ذات كفاءة أعلى تتجاوب مع التغيرات"
تشدّد الليبرالية الكلاسيكية على أهميّة حرية التعاقد وهي شرط أساسي لزيادة الرفاهية. من خلال هذه الحرية يمكن للأفراد تبادل المنتجات في ما بينهم بشكلٍ طوعي واتخاذ قراراتٍ أكثر كفاءة في ما يتعلّق بالمنتجات التي يودون إنتاجها والخدمات التي يودون تقديمها.
حريّة التعاقد تُعد شرطاً أساسياً لتطبيق مبدأ تقسيم العمل labor divisibility. كان الفرد سابقاً يحتاج أن يصنع كلّ شيءٍ بنفسه من طعام وشراب وملبس ومسكن وغيرها، وهذا ما حرمه من إمكانية التخصص في مجالٍ محدد. وكما نعلم بشكلٍ بديهي، إذا عمل أحدهم في مهنة معيّنة ستتضاعف جودة عمله وسرعته مع الزمن بفضل الخبرة التي يكتسبها مع الوقت، كما نعلم أنّ ارتباط الفرد بمهنته وسعادته بما يفعل تزيد من حبّه لتعلم المزيد عنها وتطوير مهاراته فيها.
إذاً، رفاهيتنا الاقتصادية ليست دائماً بحاجة إلى تخطيط ولا تُحمى من قبل حكوماتنا بل على العكس تماماً، ففي معظم الأحيان تكون حكوماتنا هي مَن يحمي السارقين وترعاهم ضمن نظامها المسبق الصنع وتدّعي أنها تحمينا من النظام العفوي الذي، في نظر تلك الحكومات، سيكون طريقاً للهاوية وتقليص ثرواتنا. صحيح سيؤدي النظام العفوي إلى تقليص الثروات ولكن ثروات الفاسدين المستغلين بينما الثروة الكلية ضمن الاقتصاد ستزداد وتتوزع بشكلٍ مركّز أقل، مما يضمن استدامة الرفاهية لمدة أطول وديناميكية ذات كفاءة أعلى تتجاوب مع التغيرات في المحيط بشكل أكثر مرونة وفعاليّة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...