يجلس إلى طاولات المقاهي الباقية في الحمراء، شارع بيروت المشهور، صنف اجتماعي من الناس على حدة من فئاتهم أو جماعاتهم الأخرى. ولعل سمته البارزة هي سنّه. فمعظم المتحلّقين حول الطاولات، أربعة رجال ذكور أو خمسة، مسنّون، وينبغي ألّا يقل سن واحدهم عن الخامسة والستين إلى السبعين وما بعدها. ومعظمهم بدين بعض الشيء، أبيض البشرة. ويظهر بياض البشرة عند منفرج قبة القميص الواسعة عن الرقبة المتغضنة والمائلة إلى القصر والثخن. ويفصل اللون الجزء العلوي، الخفيف السمرة، عن الجزء السفلي، الأبيض الحليبي والمنقّط بشاميات كثيرة من مختلف الألوان والاستدارات.
ورؤوس أهل المجلس قليلة الشعر. وبعضهم يداري صلعه بتوزيع خصلات هزيلة وطويلة على أنحاء جمجمته العارية واللامعة. ومَن لا يتمتعون ببقايا الشارة الثمينة هذه سلّموا بعزوفهم عن الغواية، وتركوا النُّتف القليلة تجتمع أو تتفرق، وتنتصب أو تلتوي، كيفما تشاء.
ويسند المتحلّقون ثنايا جذوعهم الممتلئة والمفتقرة إلى الخصر، وأكواعهم المتهدّلة، إلى الطاولة، ويسوّرونها برؤوسهم القريب بعضها من بعض، وكأنهم يتآمرون، على معنى اللفظة الحرفي: يؤامر بعضهم بعضاً ويتداول وإياه الرأي في الأمر. وقد يكون ذلك شبهة. فتقريب الرؤوس والآذان، والسمع، تمثله ضرورة ناجمة عن ضعف الحاسة التي تتوسل بآلة الأذن. ويُرى في بعض أوقات المؤامرة، على المعنى الذي تقدّم، بعض الجالسين وهو يصرف وجهه عن دائرتهم، ويشيح بنظره عنهم، ليعطي إحدى أذنيه الكلام المتداول في الحلقة، ويقرّبها من مصادره. وتصاحب صرف الوجه وإعطاء الأذن عبارة تركيز وتفكير لا تخطئهما العين.
فئات الحلقات
ويتردّد هذا الصنف من روّاد المقاهي القليلة إلى مقاهيهم على نحوٍ دوري، ويكاد يكون يومياً. فهم، كلهم تقريباً، موظّفون سابقون، ومتقاعدون من العمل في مرافق الدولة. وفيهم رؤساء دوائر، من الفئة الثالثة، على تصنيف موروث من الاحتلال الفرنسي (1920- 1943)، قاعدة الانتداب. وهي الفئة الأكثر عدداً في المرتبة التي لا تقتصر على التنفيذ، ويُفترض شغلها إجازة جامعية. وفيهم رؤساء مصالح، من الفئة الثانية، وقضاة، وضباط جيش وشرطة وأمن، ومدرّسون جامعيون وثانويون.
وربما تردّد على حلقات هؤلاء بعض مدراء الأقسام السابقين في المصارف، وبعض الفنّيين والخبراء في مرافق الوظيفة العامة والشركات الخاصة. وقد تدعو القرابة، أو علاقات الجوار في السكن، مَن لا يدخلون في باب من أبواب التصنيف هذه، مثل قدامى القناصل والدبلوماسيين والملحقين، إلى مرافقة القريب أو الجار إلى حلقة المقهى، مرة أو مرات. فهذه المنتديات، إذا جاز التوسّع في التسمية، قريبة من حلقات لعب الورق لقاء جزاء عن الربح أو الخسارة، أو حلقات المقامرة الصريحة والبيتية خارج الآلات والروليت والمراهنات.
والقول المستفيض في الشؤون العامة، تلك التي يتحدّر المنتدون من الخدمة أو العمل في هيئاتها ومرافقها، وخالطوا في الأثناء أعلامها ووجوه السياسة المحلية الذين يتوسّطون لناخبيهم وأنصارهم عند موظفيها- هذا القول هو مدار اللقاءات ومادتها وخبزها اليومي. ويتناول الأخبار والمعلومات كلها. ويميل إلى استخراج أو استقراء السياقات والأطر العامة والشاملة، وراء الحوادث الجارية.
والسياقات والأطر الأعم والأشمل هي تلك التي تصف السياسات الدولية والإقليمية، "الألعاب الكبيرة"، على قول المؤرّخين والروائيين، شأن البريطاني ريديارد كيبلينغ (1856- 1936) في السياستين البريطانية والروسية في أفغانستان وإيران، وآسيا الوسطى عموماً، في مطلع القرن العشرين، أو شأن الروائي والناقد الأدبي الروسي، يوري تينيانوف (1894- 1934)، في رواية "موت الوزير المختار" (السفير فوق العادة، الروسي إلى طهران). وسبق لجلال خوري، المسرحي اللبناني البريختي (نسبة إلى برتولد بريخت، الألماني)، أن كتب وأخرج صورة هازلة عن هذه اللغة وأصحابها في "الرفيق سجعان" (1975)، قبل أن تعمّ شاشات "الثنائي الشيعي" اليومية، وصحافته.
ولا يغفل المتكلمون أو القوّالون، نهجاً وقريحة، آثار "اللعبة الكبيرة" في الوقائع المحلية الدقيقة، مثل اللافتة التي رفعها مختار بغرب بيروت، أو شرقها، تأييداً لقطب سياسي ندّد بإجراء عقابي اتخذته دولة كبرى في حق زميل له. فيقرأ أهل الحلقة في التعاقب الزمني نذيراً، أو بشيراً، بإجراءات قادمة تطوي صفحات من أحوال "المنطقة".
ومنذ بعض الوقت، ترك مرتادون بارزون- فالأعضاء مراتب لا يتستر عليها تبادل السلام والترحيب والتنويه الاسمي بالشواهد والأسانيد- الموضوعات الجسيمة إلى أخرى تبدو متواضعة في نظر غير متمرّسين. وتنزل مسألة الرواتب، الرواتب الشهرية التي تسددها الإدارات العامة إلى موظفيها الثابتين، عاملين أو متقاعدين، أو لا تسدّدها منذ أشهر قليلة أو يتأخر تسديدها، محل الصدارة.
فمنذ شب "الدولار"، الكلمة- المفتاح في النصوص والمقالات اللبنانية كلها، المعلنة والمضمرة، على طوق سعر صرفه الواحد والإلزامي والمركزي، و"اخترق السقوف كلها" (في لغة عملية وصريحة)، دب في صفوف معظم اللبنانيين هلع يصيب الجماعات التي تقوّض أركان اجتماعها وتواصلها حادثة أو حوادث تنذر بأشراط الساعة (يوم الحساب)، أو باشتداد العسر. واشتد الخناق على أهل الضعف، المعاشي، من العاملين والعاملات في أعمال يستغني عنها المعسرون الجدد والمتكاثرون، وتتقلص لا محالة، وتخلف آلاف المحال التي "أنزلت أبوابها". وأحصت هيئة إحصاء خاصة غلق 12 ألف "مؤسسة" فردية، مطعم أو مقهى أو بقالة أو محل ألبسة أو أدوات كهربائية أو عيادة... في 2021.
المداخيل الثابتة
وأصاب المصاب، وأوجع، "أصحابَ المداخيل الثابتة" في المرتبة الأولى. والكتلة الكبرى والأقوى تماسكاً، والأعلى مرتبة من أصحاب المداخيل الثابتة هي كتلة "أهل الدولة"، الموظفين الإداريين والفنيين والأمنيين. ويتمتع هؤلاء، على خلاف مستخدمي الأعمال والمرافق "الخاصة" وعمالها، بميزة يُحسدون عليها في الأحوال العادية والمستقرة، هي استدامة العمل، أو البطالة، على قول ألسنة الطعن والحسد. والعبارات التي تتناول هذه الميزة، أو تناولتها في ماضٍ أمسى بعيداً، تكلمت على "جنّة الوظيفة" و"قلعتها". وربما على عوائدها الجانبية، واستثماراتها المعنوية ومراهناتها في المستقبل. وفي ميزان المقارنة، رجحت كفة الاستدامة، إلى حد الإزمان، على كفة الراتب "المتواضع".
في غضون أقل من عقد غداة نهاية الحرب الأهلية اللبنانية، زاد عدد موظفي أسلاك الدولة نحو 150 ألف موظف، ثم زاد مجدداً ليبلغ 350 ألفاً. وعلى هذا، نهضت الدولة، "النيوليبرالية"، بنحو ربع القوى العاملة. وليس بين المرافق التي مُلئت بالموظفين مرافق كثيرة منتجة
ورسا شطر غالب من علاقة المواطنين، أو الأهالي، بـ"الدولة"، أي بالسياسيين المتربّصين في هيئات الدولة ومؤسساتها، وبالأجسام الإدارية والفنية والأمنية، على التوسّط بين الأولين وبين الهيئات والأجسام. وبعض مصطلحات لغة السياسة الوطنية والمشتركة، مثل "الإجحاف" و"الامتيازات" و"الغبن" و"التوازن" و"التعويض" و"الحصة"، وغيرها مثلها، يترتب مباشرة على الوساطة المركزية هذه.
وحين أُقرّت صيغة اتفاق الطائف (1989)، بين الجماعات المحلية المتحاربة منذ 1975، وبين بعض رعاتها الإقليميين والدوليين، على اختلاف معنى الرعاية ووسائلها ودورها، وأنجز دستور جديد تولى ترجمة الصيغة، تلازم تغيير كمية الوساطة (بين الأهل وبين الدولة) وتوزيعها مع تعريف هوية الدولة الوطنية، وكيانها السياسي، تعريفاً جديداً. وهذا قرينة على عمق مفهوم الوساطة، وعلى حملها على "المكافأة" و"الغنيمة"، وربطها بـ"الأهل" والعصبية.
فخرجت الدولة اللبنانية من "الوجه العربي"، المتلكئ والمتلعثم العروبة، الناصرية أو البعثية "السورية"، على قول الراحل الشيخ محمد مهدي شمس الدين، إلى "عروبة" صريحة الالتحاق والتبعية والعصبية. وجُعل المستضعفون والعراة و"الحفاة"، على قول بعض شعرائهم، ومَن لا يحق لهم أن يُحرزوا رتبة عريف في الجيش اللبناني (في 1984)، على قول الراحل الشيخ عبد الأمير قبلان، خالِف السيد موسى الصدر والشيخ شمس الدين على رئاسة المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى- جُعلوا "الأئمة" و"الوارثين" (سورة القصص، 5).
اقتصاد شراء الولاء
ومُلئت "الإمامة" و"الوراثة" في هذا المعرض أو السياق بمعنى كمي ورقمي ملموس. ففي غضون أقل من عقد، غداة 1989- 1992 (الطائف وولاية رفيق الحريري وزارته الأولى)، زاد عدد موظفي أسلاك الدولة نحو 150 ألف موظف، وبلغ نحو 300 ألف. وفي الأعوام اللاحقة، زاد على الثلاثمئة نحو 50 ألفاً.
وعلى هذا، نهضت الدولة، "النيوليبرالية" على تصنيف محدث يومها تشاركه اليساريون والقوميون والإسلاميون، والخاوية الوفاض إلا من ديون تراكمت تلبية لـ"نداء" التوازن ورفع الغبن ودمج "الميليشيات" تلافياً لخروجها على الدولة والسلم الأهلي، بنحو ربع القوى العاملة. وليس بين المرافق التي مُلئت بالموظفين مرافق كثيرة منتجة.
فتقاسم الموازنة بابان، خدمة الدين والرواتب. وذلك قبل أن يستهلك تثبيت سعر صرف الدولار، من غير رقابة على التحويلات وعلى الحسابات السرية، احتياطات المصرف المركزي والمصارف الخاصة. وكان سعر الصرف، الثابت على 1507- 1515 ليرة، هدية بالغة الكرم إلى أصحاب المداخيل الثابتة أولاً. وتساوي هذه الهدية هدية الضريبة التي لا تزيد عن 10 في المئة على أرباح الشركات والأفراد. فلم تعوض الضرائب بعض العجز المتعاظم في المصروفات. واستعيض عنها بالدَّيْن، وبالتعويل على "تكبير" حجم الاقتصاد، على قول باسل فليحان، وزير اقتصاد رفيق الحريري، وقتيل الانفجار الذي اغتاله، من طريق سوق عقارية ومالية واعدة، ومفرطة الهشاشة والظرفية، ومقيّدة بتحفّظ سوري وإيراني متعاظم.
"‘أثقل’ رفيق الحريري و‘القيادة السورية’، على تنافر مقاصدهما، كاهل الإدارة والمرافق اللبنانية بموظفين من موالي الميليشيات، و‘استمالا’ المتموّلين عن طريق ‘إعمار’ عقاري ومالي مصرفي، سُلخ سلخاً متعسفاً عن سياسة عامة ومتماسكة"
والحق أن الإطار العام لمثل هذه السياسة الاقتصادية ينحو إلى إرساء "النظام"، أي سيطرة الطبقة العليا والحلقة المتنفّذة من أهله، على شراء ولاء "قاعدة" يحسن بها، على تفضيل أهل النظام، أن تبقى شراذم ضيقة ومتنافرة، وأن تفتقر إلى هويّات موضعية جزئية أو فرعية، وإلى جسور وأقنية جانبية أو أفقية تصل بينها بمنأى نسبي عن رأس هرمي ومركزي متسلّط. وتتستر هذه السياسة على مصالحها وخصوصياتها العصبية (المذهبية والمحلية)، والطبقية الاجتماعية، والثقافية التقليدية، بأنصاب أو أصنام على شاكلة العرائس الروسية: الأمة تحتوي على الدولة، والدولة تحتوي على الشعب، والشعب على الحزب، والحزب على القيادة، والقيادة على الجهاز... وحمل هذا على جيو سياسة أو جيو استراتيجية تحمي الجهاز والداخل من غائلة المطاليب الحقوقية والمجتمعية "المتعولمة".
واستقى رفيق الحريري و"القيادة السورية"، على تنافر مقاصدهما، بنود تعاقدهما غير المتكافئ من هذا الإطار. وعوّل كلاهما على بلوغ غرضه الخاص، في نهاية مطاف هذه السياسة وإنفاذها، و"أثقلا" كاهل الإدارة والمرافق بموظفين من موالي الميليشيات، و"استمالا" المتموّلين عن طريق "إعمار" عقاري ومالي مصرفي، سُلخ سلخاً متعسفاً عن سياسة عامة ومتماسكة، تعالج الفروق الاجتماعية المتعاظمة، وعن بنية سلطة تنزع، تحت وطأة الأحزاب العصبية والمسلحة، إلى التشرذم خارج هيئات الدولة، وإلى غلبة "أمر واقع" مستقل عن القانون الأساسي وعلى حدة منه.
الاستثمار
وكان من تدبير رفيق الحريري أن أنعم على الفئات أو الشرائح العليا والوسطى من موظفي الإدارات والمرافق العامة، بالزيادات وسلاسل الرتب والرواتب الجديدة، علاوة على الهبات العامة والمشتركة، مثل تثبيت سعر الصرف والتمويل العاجل بالدين، والاقتصار على ضرائب مخفّضة. ولعله حسب أن شراء ولاء الفئات المتواضعة والضعيفة يجني ريعه الوسطاء العصبيون. وهو لا يستطيع مجاراتهم في المضمار العصبي والأهلي هذا (مع تعويل مزمع على أهل السنّة، أيتام "جيّشهم" الفلسطيني المشتّت، ورجالاتهم الذين أردتهم الاغتيالات، وقواعد وناخبين استمالت بعضهم منظمات "الأمر الواقع" السوري و"الوطني" بعض الوقت قبل أن يُعلَّقوا في فضاء راكد).
وأهل حلقات المقاهي المتقاعدون يتحدرون نسباً واجتماعاً، من الفئات المتوسطة التي رعاها رفيق الحريري، ودلّلها، وتعهّد دراسة بعض أبنائها الجامعية والمهنية الحرة. فأوفدت منحه الدراسية إلى أوروبا والولايات المتحدة آلاف الطلاب، وموّلت دراسة آلاف آخرين في الجامعات الأجنبية المحلية. وجمع صنفا المنح، على ما هو معروف وشائع، فوق الثلاثين ألفاً. والتمويل هذا، والتوظيف الذي كافأ بعض مَن أنجزوا دراساتهم في سوق العمل اللبنانية أو في السوق الخليجية، جزء من الاستثمار الاقتصادي والسياسي في إنشاء "طبقة" وسطى وطنية- على معنى العمومية المنقطعة من العصبيات ومن ولاءاتها الأضيق والأوسع.
ولم يسبق أن اختُبرت هذه الفئات على النحو الذي اختبرتها عليه الأزمة الدابة والمتطاولة منذ انحسار "النشوة" العقارية والمالية المحلية- على قول رئيس صندوق الاحتياط الفيديرالي الأميركي ألِنْ غرينسبن في فورة الأسواق المالية في العقد الأول من القرن-، غداة 2008 إلى 2014- 2015. ومنذ خريف 2019، و"حراكه" أو "ثورته"، تنتقل الأزمة من ذروة إلى ذروة. وتدوّن نسب التضخم، وبلغ مجموعها سنة بعد سنة رقماً من أربع خانات، وأسعار صرف الدولار الأميركي بالعملة المحلية، وتكلفة سلّة غذاء الأسرة، ولائحة المواد والسلع المفقودة، وسلّم تقلّص دعم المواد الحيوية- تدوّن هذه مراحل المصاب وفداحته.
المضمر السريلانكي
ويتداول أهل الحلقات في المقاهي، ويعلنون في بيانات المهن التي تقاعدوا من مزاولتها، وتجمعها الرواتب الثابتة، أرقاماً تصوّر حدة الظلم الذي لحق بهم. ففي بيان أعلن فيه القضاة، وهم مثال الاستثمار الحريري السابق، إضرابهم عن العمل القضائي في منتصف آب/ أغسطس، كتبوا أن رواتبهم على اختلاف درجاتهم، مقوّمة بالدولار على سعره الموازي أو "الأسود"، تترجّح بين 80 دولاراً و220 دولاراً. واقترحوا "ترجمة" رواتبهم اللبنانية، أي السابقة، إلى دولار أميركي سابق، على أن تضرب المحصلة بثمانية آلاف ليرة لبنانية. فترتفع قيمة الراتب الأساس، خمسة أضعاف وثلاثة أرباع الضعف. وعلى الشاكلة الحريرية، الأولى، ينحل الهيكل الوظيفي الوطني، المتصل والواحد إلى هياكل جزئية، وينفرد الجزء بمراتب وقواعد توظيف، ومعايير تدرّج، يمليها ميزان القوى الموضعي والظرفي.
وما لا يكتبه أهل المداخيل الثابتة- المتقاعدون والعاملون، المتربعون في الفئة الأولى ومَن قبعوا في الفئة الثالثة، الإداريون والفنيون-، ويهيمن على مناقشاتهم ومداولاتهم الخاصة، هو المقارنة الاجتماعية والهرمية بين رواتبهم، وقيمتها "المترجمة"، وبين رواتب مَن ليسوا أمثالهم، على أي وجه قرنوا بهم. فوراء الجهر الأليم بأن المئتي دولار لا تشتري اشتراكاً شهرياً بكهرباء مولّد يعمل على المازوت، ويحتسب سلم ثمنه المتحرك، اثنتي عشرة ساعة في اليوم، واقعة أشد مرارةً وإيلاماً.
وتطاول هذه الواقعة انقلاب المراتب. فعاملة الخدمة المنزلية، "السريلانكية" ولو كانت فيليبينية أو إريترية أو بنغلاديشية أو إثيوبية وكان استقدامها إلى منازل أهل "الطبقة الوسطى" التي يعمل "رباها" من الأمور اليسيرة- تتقاضى اليوم، إذا هي وقفت عملها كله، وإقامتها على منزل واحد، ضعفي الراتب الأعلى الذي يتقاضاه قاضٍ متقاعد، أو ضابط كبير، أو أستاذ "قمة" في الجامعة اللبنانية.
والعاملة في الخدمة المنزلية مضرب قياس ومثل. فالبقاّلون، من أصحاب الدكاكين، ومَن لم يغلقوا بقالتهم أو دكانهم، وأصحاب الأعمال المستقلة الصغيرة، وتجار السلع المتحركة التسعير، وبعض السوّاقين، وأهل خدمة التوصيل، وبائعو قطع الغيار (البدائل الآلية) المستوردة، وعمال التصليحات... هؤلاء كلهم يجنون مداخيل مرنة لا تقيّدها سلاسل الرّتب والرواتب التي عادت نقمة على أصحابها، بعد أن حصّنتهم وميّزتهم وأفردتهم بمكانة جمعت المعنى إلى المبنى.
وانهيار المكانات السريع، أو وجهها الاقتصادي والاجتماعي الظاهر، يهز أركان الهويات الفردية والجماعية، ويضعضع تعريفها، ويخل بعلاقاتها بتاريخها، ويضعف قدرتها على توقّع مصائرها. وتغذي هذه العوامل التخبط، والارتجال، والانعطافات المفاجئة، على قدر ما قد تغذّي الانكفاء واليأس والاكتئاب والتسليم. وهي فرصة صيد سياسي ثمينة لأصحاب الرؤى، والهواة المهديين وقرّاء الطوالع، وراثي (من الرثاء) الممالك والهاتفين بـ"حياة الموت" عموماً.
وأقل ما تنتجه أو تلده مثل هذه الظروف تعليلها بـ"مؤامرة"، على المعنى البوليسي والدرامي، يحسن أن توصف بـ"الدولية"، أو بـ"حرب دولية"، شديدة الخفاء والعلانية المعمية معاً، تكافئ فظاعتها سعة الدمار الذي تلحقه بالناس ومجتمعهم وبلدهم، وعمقه. وعلى هذا، علّل شطر راجح من الألمان، كارثة الحرب العالمية الأولى وغداتها المروّعة (التضخّم والبطالة والجوع والنزاع الأهلي... ظرفنا كله). وكانت الحرب العالمية الثانية، الهتلرية، ثأرهم المدمّر من "الطعنة في الظهر" التي أصابتهم.
وعليه، كذلك، علّل الروس انهيار روسيا الإمبراطورية في عهد يلتسين، وفي عهد سلفه غورباتشيف. وحَبِلَ التعليل بمؤامرة "الأطلسي"، وبـ"عالم القطب الواحد"، الأميركي، بـ"الانبعاث" البوتيني المسلّح والعدواني. ولما كان اللبنانيون لا يملكون إمبراطورية يحلمون بتجديدها، ولو من الجليل إلى حمص، على قول بعضهم في "ممتلكات" فخر الدين المعني الثاني، وضعوا "المؤامرة" المفترضة على "تدمير" خاصيتهم (خاصيتنا) الأولى، "الطبقة الوسطى". والدولار هو رسول المؤامرة الدنيئة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
أحمد لمحضر -
منذ 22 ساعةلم يخرج المقال عن سرديات الفقه الموروث رغم أنه يناقش قاعدة تمييزية عنصرية ظالمة هي من صلب و جوهر...
نُور السيبانِيّ -
منذ 3 أيامالله!
عبد الغني المتوكل -
منذ 4 أياموالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ 4 أيامرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري