فرضت الأزمة اللبنانية تغيرات جذريةً على مختلف ممارسات حياة الشعب اللبناني، وبالنسبة إلى "لقمة العيش" فقد بات الفرد مرغماً على ايجاد بدائل عن بضائع ومقادير كان يستعملها طوال حياته ليحفظ القليل من العادات الغذائية التي توارثها.
كيف أصبح الطبخ اليوم في لبنان، في ظل غياب الكثير من السلع والغلاء الفاحش المسيطر على الأسواق؟
المساعدات الأجنبية كمكافح أول للجوع
منذ بداية الأزمة الاقتصادية، تعمد بعض الدول الأجنبية إلى إرسال مساعدات غذائية للعائلات الأكثر فقراً وحاجةً في لبنان.
يوزع برنامج الغذاء العالمي هذه المساعدات بالتعاون مع جمعيات محلية تجمع بيانات الأشخاص وتوزع المساعدات في مركز القضاء لأهالي القرى المجاورة.
يبلغ وزن الحصة الغذائية 16.66 كغ، وهي تحتوي على مقادير عدة منها الأرز والعدس والحمص والزيت والمعكرونة ومواد أخرى لا تحتاج إلى البراد، لأن الكهرباء في لبنان باتت عبارةً عن حلم، بالأخص بالنسبة إلى الفقراء.
فرضت الأزمة اللبنانية تغيرات جذريةً على مختلف ممارسات حياة الشعب اللبناني، وبالنسبة إلى "لقمة العيش" فقد بات الفرد مرغماً على ايجاد بدائل عن بضائع ومقادير كان يستعملها طوال حياته ليحفظ القليل من العادات الغذائية التي توارثها
تخبر ليال (اسم مستعار)، لرصيف22، عن تجربتها في الحصول على حصص غذائية: "المساعدات مهمة لكونها توزع شهرياً وتغني عن عبء كبير في المصروف، لكن تكمن المشكلة في نوعية الأطعمة في هذه الحصص، فهي لا تحتوي على حليب وكمية الملح فيها قليلة جداً (25 غراماً)، كما لا تحتوي على طحين في بلد مهدد يومياً بانقطاع الخبز، حتى أن الحصة لا تتضمن رب البندورة وهو مكون أساسي في كل الطبخات اللبنانية"، مشيرةً إلى أن "الزيت يبقى المكون الأول والأهم في ظل وصول سعر تنكة زيت الزيتون إلى 150 دولاراً في المناطق النائية، لذا نستبدله بالزيت النباتي".
وختمت ليال قائلةً: "حبذا لو يقللون الكمية ويضيفون أنواعاً أخرى مخصصةً للأطفال".
في الواقع، إن اختلاف الاحتياجات الغذائية بين الدول المانحة وميزانياتها والدول المستقبلة ليس العائق الوحيد أمام نجاح توزيع المساعدات: المسافة البعيدة التي تكمن بين بيوت الأفراد المسجلين لتلقّي المساعدات ومراكز التوزيع، في ظل غلاء المواصلات وتعذّر حمل علبة المساعدات إلى البيت أو نقلها على دراجة نارية.
تبلغ قيمة المساعدات ما يقارب مئة دولار أمريكي، أي ما يتخطى عتبة الـ4 ملايين ليرة، في بلد يبلغ الحد الأدنى للأجور فيه 650 ألف ليرة لبنانية، وتتراوح معظم الرواتب فيه بين مليونين وثلاثة ملايين ليرة. لذلك، قد يلجأ البعض إلى بيع جزء من حصتهم في المساعدات من أجل شراء مكونات لا تتضمنها المساعدة بالرغم من حظر بيعها.
هذا وتظهر مشكلة أخرى: تم إغلاق باب التسجيل الإلكتروني بعد فترة وجيزة من فتحه، فلم يتسنَّ لجميع المحتاجين التسجيل عليه خاصةً الفئات غير الملمة بالتكنولوجيا كالكبار في السن، كما أن الخط الساخن للتسجيل للحصول على مساعدات يُعلم المتصلين الحديثين به، بأن الموارد المحدودة لا تسمح لهم بقبول أشخاص جدد بسبب شح الموارد المرسلة.
أرقام مرعبة عن خطر الجوع الداهم
بحسب برنامج الغذاء العالمي، تم توزيع حصص غذائية لما يقارب 100،000 عائلة في لبنان في العام 2021.
تشير الأرقام الى أن 3.4 ملايين شخص في لبنان، بحاجة إلى مساعدات إنسانية في ظل الأزمة الاقتصادية التي صنّفها البنك الدولي واحدةً من الأزمات الاقتصادية الأكبر منذ القرن التاسع عشر، يحصل كل ذلك بينما ازداد سعر السلة الغذائية الأساسية 11 ضعفاً.
حاولت الدولة اللبنانية في بداية الأزمة معالجة مشكلة ارتفاع سعر السلع الغذائية الأساسية، عبر دعم بعض البضائع الاستهلاكية في المحال، غير أن المشكلة الأساسية تكمن في التوزيع المجحف للبضائع "المدعومة"، إذ إن قسماً كبيراً من الأفراد آثروا شراء بضائع مدعومة بسعر أقل، بالرغم من إمكاناتهم المادية لشراء السلع غير المدعومة، ناهيك عن المحال التجارية التي باعت البضائع المدعومة التي وصلتها من الدولة بسعر البضائع غير المدعومة نفسه.
والمفارقة أن سلة البضائع المدعومة لم تتضمن أساسيات استهلاكية، كالفوطة الصحية، ولكنها تضمنت زيت جوز الهند وشفرات الحلاقة.
أكذوبة التوفير باستخدام بضائع بديلة
لعلّ أفضل ما في الأزمة الاقتصادية، أنها زادت الطلب على الصناعات المحلية، مما سمح لها بالازدهار وشجع مئات الشركات الناشئة والعمال والمزارعين على الدخول في مجال التصنيع، ما يوفر الكثير على ميزان الإيرادات، بالإضافة إلى ذلك، فقد شهدنا إعادة إنتاج لعلامات تجارية عالمية، وهي خطوة سبق أن اتخذتها شركات تركية من قبل خلال أزمتها الاقتصادية. ونجحت بعض هذه الماركات اللبنانية التي تُصنع بكلفة منخفضة نسبياً مقارنةً بالكلفة والجمرك المفروضين على البضائع المستوردة بالإطاحة بالبضائع المستوردة باهظة الثمن من على رفوف المحال التجارية، لكن هذه الحالة لا تنطبق على جميع البضائع، إذ إن بعض البضائع المستوردة لا ترقى إلى النوعية المطلوبة ولا توفر النكهة الضرورية للطعام.
تشير الأرقام الى أن 3.4 ملايين شخص في لبنان، بحاجة إلى مساعدات إنسانية في ظل الأزمة الاقتصادية التي صنّفها البنك الدولي واحدةً من الأزمات الاقتصادية الأكبر منذ القرن التاسع عشر، يحصل كل ذلك بينما ازداد سعر السلة الغذائية الأساسية 11 ضعفاً
في هذا الصدد، تحدث نبيه عواضة، عن طريقة الطبخ التي اختلفت بين الأمس واليوم: "تقريباً جميع المقادير تغيّر طعمها، وبتنا الآن نستخدم ماركات لم نسمع باسمها قط. الطعم مفقود وكل شيء تغير من أجل السعر".
وتابع عواضة لرصيف22: "كنا نقلي بالزيت 4 أو 5 مرات، أما الآن فلا يمكننا استخدامه أكثر من مرتين. الطحينة التي استخدمناها للطبخ، بات نصفها يتكون من الطحين. يتم شراء الكثير من البضائع من دول أجنبية وتغلَّف هنا، وبالرغم من أن سعرها منخفض مقارنةً مع المكونات التي تحمل ماركات عالميةً، إلا أن نوعيتها الرديئة تفرض استخدام كميات كبيرة تجعلنا نتيقن أننا في الحقيقة لا نوفر الكثير إلا بتقليص كمية اللحوم في الطبخ".
وصفات جديدة واتكال على المناخ لحفظ الطعام
"لم نعد نشتري الكاسترد جاهزاً، بل نستبدله بنشاء الذرة أو بطحين أبيض ونمزجه مع حليب وكاكاو، كما أن وصفة الكيك قد تغيرت فأصبحنا نستبدل الزبدة بزيت نباتي، ونقلل عدد البيض، وبالنسبة إلى الكريمة، فلم نعد نشتريها جاهزةً بل أصبحنا نعدها بمزج الحليب والكاكاو والطحين"، هذا ما قالته وفاء شهيب، متحدثةً عن لجوئها إلى البدائل بعدما غزت البضائع غير الموثوقة السوق وانتشرت تجارة المكونات "الفلت"، أي تلك التي لا تحمل اسماً أو ماركةً.
وتابعت: "الأكل كله أصبح غالياً، حتى عندما نطبخ على المدفئة لتوفير الغاز تكلفنا الطبخة ما يقارب 300 ألف".
يبدو أن الثقافة اللبنانية تتغير كل يوم تحت وطأة الأزمة الاقتصادية الخانقة، وأهمها التعديل الحاصل على السفرة اللبنانية التي تطورت عبر العصور وتفاعلت مع عوامل عدة إلى أن أصبحت على ما هي عليه اليوم، فهل سنخسر يوماً ما "مازتنا" الغنية بالأصناف الشهية؟
في سياق متصل، أصبحت هناك صعوبات متعلقة بحفظ الطعام، على الرغم من أنه بالنسبة إلى أهالي الجبل، من الأسهل عليهم حفظ الطعام في فصل الشتاء، كما شرحت وفاء: "في الشتاء نغطي الطعام ونحفظه على الشرفة خارج البيت في الصقيع، وفي الصيف نشتري كل يوم حاجتنا كي لا نرمي الطعام".
لكن الصعوبات تظهر في فصل الصيف عندما لا يساعد المناخ على الحفظ الطبيعي للطعام.
في الختام، لا نعرف حقاً كيف ستُطوى هذه الصفحة المظلمة، لكن يبدو أن الثقافة اللبنانية تتغير كل يوم تحت وطأة الأزمة الاقتصادية الخانقة، وأهمها التعديل الحاصل على السفرة اللبنانية التي تطورت عبر العصور وتفاعلت مع عوامل عدة إلى أن أصبحت على ما هي عليه اليوم، فهل سنخسر يوماً ما "مازتنا" الغنية بالأصناف الشهية؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...