شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!

"كله يهون أمام لقمة الطعام"... مسنّون سوريون في لبنان يتشاركون ألم الأعمال الشاقّة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

السبت 27 نوفمبر 202101:40 م

لا يستيقظ أجدادنا مع الفجر، ولا يعدّون القهوة العربية، منتظرين زيارات الصباح في مضافات الاستقبال. ولا تخبز جدّاتنا التنّور لإعداد فطور الصباح. لا ينتظرن العيد لتجتمع العائلة، ولا يسهرن ليحكين لنا عن الجان والسحرة، قبل النوم.

يستطيع عديدون تجاوز إشكالية فقدان المكان، فيصنعون مكانهم الخاص بعد ترحالهم، ولكن الحال ليس كذلك مع الأكبر سناً، مع الأجداد والجدّات السوريين والسوريات، الذين انتُشلوا من أرضهم وبيتهم ووطنهم وعالمهم، ليصبحوا اليوم مشتتين بين دول عدة، ومنها مخيمات لبنان، لتغدو الخيام مأوى لهم في فترة تقاعدهم، على عكس معظم الأجداد والجدّات حول العالم.

الآن جاء الشتاء، وازدادت الهموم. فكل شتاء يمرّ على اللاجئين في مخيمات لبنان، يحمل معه مشكلات تزداد كل عام. اليوم، ومع الأزمة الاقتصادية، يحلّ الشتاء أشدّ قساوةً على سكان الخيام.

يستطيع عديدون تجاوز إشكالية فقدان المكان، فيصنعون مكانهم الخاص بعد ترحالهم، ولكن الحال ليس كذلك مع الأكبر سناً، مع الأجداد والجدّات السوريين والسوريات، الذين انتُشلوا من أرضهم وبيتهم ووطنهم وعالمهم، ليصبحوا اليوم مشتتين بين دول عدة

قصة الثوم

تباع علبة الثوم (المايونيز)، وهو يُستخدم غالباً في إعداد الشاورما والمشاوي، بما يعادل 13،000 ليرة لبنانية (قرابة ثلاثة أرباع الدولار)، لطالما فكّرت في أن هذه المادة المعلّبة تُصنع في المعامل فحسب، ولكن بعد جولةٍ قصيرةٍ في مخيمات البقاع، عرفت قصة الثوم.

تحاول العجائز في هذه الشهور، وقبل حلول الشتاء القاسي، استغلال ساعات ضوء الشمس؛ يفترشن أرض أحد المخيمات في برّ الياس، ويضعن بعض الأواني البلاستيكية في انتظار مستثمر الثوم، الشاب الذي يجلب كمياتٍ هائلةً من الثوم الرديء الجودة، وهو صغير يصعب تقشيره، ليوزّعه عليهن، من دون أن ينسى التعليمات والأوامر، ومنها منع وضع الثوم في المياه، وهي حيلة قديمة تعرفها أمهاتنا وجدّاتنا، لتسهيل تقشير فصّين من الثوم، لإضافتهما إلى طبخةٍ ما، أو صحن سلطة. تنظر الجدّة إلى الشاب، محاولةً الاعتراض، ولكنها تأخذ حصّتها وترحل بصمت، خشية فقدان مصدر رزقها.


تعمل أم حسين، وهي في الخامسة والستين من العمر، وتعاني من ارتفاع الضغط والسكري، ما بين سبع ساعات وثمانية يومياً، في تقشير الثوم، لتأمين قوت يومها. تتقاضى على كل كيلوغرام مقشّر ألفي ليرة لبنانية، وتستطيع تحصيل عشرة آلاف ليرة كحدٍّ أقصى، إن عملت طوال النهار. أما عن سعر ربطة الخبز في لبنان، فهو اليوم ثمانية آلاف ليرة.

تتشارك أم حسين ونسوة المخيم في بر الياس، هموم تقشير الثوم، فلا يشعرن بالحرج من التقرّحات على أيديهنّ، إذ تسبّب الندوب الناتجة عن تقشير الثوم ما بُعرف بمسامير اللحم تحت الجلد، بالإضافة إلى تشققات مؤلمة جداً، ولكن كما تقول أم حسين: "كله يهون أمام لقمة الطعام". وربما تكمن المفارقة في أن أهل الخيام لا يعرفون وجبة الشاورما، التي يشكّل الثوم الخام مادةً أساسيةً فيها، سوى في بعض الأعياد والمناسبات.

أعمال شاقة

يعاني اللاجئون السوريون في لبنان من وضعٍ معيشيٍ مزرٍ على مختلف الأصعدة، فالنسبة الكبيرة منهم، لا تزال إلى اليوم تعيش في مخيمات غير قابلة للسكن، ولا تتوفر فيها أدنى مقومات الحياة، وتضم هذه المخيمات فئةً مهمشةً لا تلقى عادةً اهتماماً خاصاً من المؤسسات المعنية بالحماية، وهم كبار السن، الذين يبلغون من العمر 60 عاماً فأكثر، وهم هُجّروا من منازلهم، وتركوا أعمالهم وحياتهم التي أسسوها في سوريا، ليعيشوا فترة تقاعدهم بين الطين، والبرد، والرمل، وحرّ الصيف، بدلاً من أن يجمعوا أبناءهم وأحفادهم إليهم، في بيت العائلة.

تواجه هذه الفئة صعوباتٍ كبرى، حاول أغلبهم مجابهتها بالانخراط في العمل، إلا أنه وفي الظروف الحالية التي يعيشها لبنان، تغدو خيارات العمل شبه معدومة، والمتوفر منها يثقل كاهل من ينخرط فيها. ومع هذا، يمارس العديد منهم/ ن أعمالاً مختلفة، غالباً ما تكون يوميةً أو موسميةً، بعضها شبه منزلية تنفرد بها السيدات الأكبر سنّاً، كتقشير الثوم للمعامل، أو إعداد الخضار للمطاعم، والبعض الآخر يعمل في تنظيف المنازل أو المكاتب، وكلها أعمال لا تعطي من يمارسها أجراً عادلاً، أو على الأقل أجراً يساوي الجهد المبذول.

بالإضافة إلى ذلك، هناك الأعمال الموسمية المتعلقة بالزراعة، كما في فترة الحصاد وحراثة الأراضي، إذ ينخرط العديد من السيدات والرجال والأطفال في هذه المهن الشاقة جسدياً، تحت حرّ الشمس، ليجنوا مبلغاً زهيداً كفيلاً بتأمين طعام لمدة يومين للعائلة.

فعلى صعيد الزراعة، اعتاد عمال سوريون كثر، منذ عقود طويلة، السفر إلى لبنان في المواسم الزراعية، ليعملوا لمدة شهرٍ أو شهرين، ومن ثم يعودون إلى سوريا. وبعد عام 2011، أصبح اللاجئون هم رأسمال العمالة في هذا المجال، فقد وجد أصحاب الاراضي أن توظيفهم أخف عبئاً مادياً عليهم، من توظيف عمال يعيشون في سوريا، ويحتاجون إلى تصريحات إقامة وكفالة.

تتشارك أم حسين ونسوة المخيم في بر الياس، هموم تقشير الثوم، فلا يشعرن بالحرج من التقرّحات على أيديهنّ، إذ تسبّب الندوب الناتجة عن تقشير الثوم ما بُعرف بمسامير اللحم تحت الجلد، بالإضافة إلى تشققات مؤلمة جداً

"غنمة ميتة"

تخرج الجدّة سمرة (75 عاماً)، من خيمتها في منطقة قبّ الياس في البقاع، مع الفجر، لجني الخضار في حرّ الصيف خلال موسم الخضروات. واليوم، مع نسمات البقاع القارصة، لقطف الزيتون، لتعود مع غياب الشمس وفي حوزتها 40 ألف ليرة لبنانية، أي ما يقارب الدولارين، أجرة يوم العمل الواحد. كانت تقتصد في عطلها، فلا تغيب عن العمل سوى خلال الأيام المطيرة، لكن برودة الطقس، وعدم توفر أدوية الأعصاب الخاصة بها، باتا يمنعانها من الذهاب إلى العمل، وتأمين قوت يومها. خيمة الجدّة سمرة، دلف إليها الماء بشكل كبير مع أول هطولٍ للمطر، وأرضها مجردة حتى من السجاد، لذا أصبحت تقضي معظم وقتها عند الجيران، لالتماس الدفء.

بدوره، يعمل أبو أحمد، وهو في الستين من العمر، في رعي الأغنام في سهول البقاع، وتختلف ظروف عمله تبعاً لصاحب العمل، كما يقول لرصيف22.

"أحياناً أكون محظوظاً، عندما أعمل لدى شخص يعطيني المبلغ من دون اقتطاع جزء منه، ولكن في بعض الأحيان أواجه أشخاصاً لا أخلاقيين في التعامل معي. أحد الذين عملت عندهم، ماتت غنمته المريضة، فاتهمني بأني سبب موتها، وجعلني أدفع سعرها. على الرغم من أنني لا أستطيع جلب اللحم إلى منزلي لإطعام أبنائي، إلا أنّي دفعت ثمن غنمةٍ ميتة".

إلى جانب الظروف القاسية كلها، يلقى كبار السنّ في المخيمات، معاملةً سيئةً من قبل أصحاب العمل، فيتعرض العديد منهم/ ن إلى توبيخٍ، بسبب البطء، أو التقصير في العمل، والعديد من أصحاب العمل لا يراعون وضعهم صحياً وجسدياً.

كل شتاء يمرّ على اللاجئين في مخيمات لبنان، يحمل معه مشكلات تزداد كل عام. اليوم، ومع الأزمة الاقتصادية، يحلّ الشتاء أشدّ قساوةً على سكان الخيام

داء بلا دواء

يشكّل كبار السن نحو 2.5 في المئة من مجموع اللاجئين السوريين في لبنان، ويعاني أغلبهم من أمراضٍ مزمنةٍ تحتاج إلى علاجٍ دائم، إذ أشار مسحٌ استقصائي إلى أن "ثلثي اللاجئين المسنين وصفوا حالتهم الصحية بأنها سيئة، أو سيئة للغايةإذ يعاني 60% منهم، من ارتفاع ضغط الدم، و47% من مرض السكري، وأشار 30% منهم إلى أنهم يعانون من أحد أنواع أمراض القلب، وأشار 87% منهم إلى أنهم يعانون من صعوبات في القدرة على تحمّل كلفة الأدوية".

تؤثّر الأعمال على صحة كبار السن بشكل كبير، وخصوصاً الأعمال التي تتطلب جهداً عضلياً، فيشكو العديد من الرجال من آلام في الظهر والمفاصل، بسبب العمل في مكاسر الحجر، أو معامل البلاط في عرسال، ويعاني العديد من السيدات من آلامٍ مزمنةٍ بسبب العمل في السهول في البقاع.

تصف أم سعيد، وهي سيدة في التاسعة والستين من العمر، تقطن في العمرية بجانب عكار، المرض بقولها: "لا أستطيع التفكير فيه، فكل شيء أفعله هو ضد جسدي، سواء عملي في الخضار والتنظيف، أو انقطاعي عن أدويتي".

ويتزامن هذا كله مع أزمة نقص الأدوية التي تعصف بلبنان منذ نحو عام، إذ بات توفير الكثير من الأدوية صعباً جداً، والعديد من المؤسسات والمنظمات التي تُعنى بتقديم الدواء إلى اللاجئين الذين يعانون من أمراضٍ مزمنةٍ، أصبحت عاجزةً عن تقديم المستوى عينه من الخدمات. والمراكز العامة التي كانت تقدّم الرعاية الصحية الأولية، لم تعد تمتلك الأدوية اللازمة لتقديمها إلى مرضاها، وأصبح الإقبال على التسجيل في بعض المنظمات، كأطباء بلا حدود، كثيفاً جداً، مما يجعل دراسة ملفات الكبار في السن، تأخذ وقتاً أطول حتى يتمكّنوا من الحصول على المساعدات الدوائية.

بذلك، يتوجه العديد من كبار السن اليوم، نحو خيار التقنين في الدواء، بعد أن وصل سعر دواء الضغط مثلاً إلى 250 ألف ليرة لبنانية، فباتوا يقسمون الحبّات، ويخففون الجرعات، ليدوم الظرف فترةً أطول.

وتسعى العديد من المؤسسات والمنظمات جاهدةً إلى أن تستمر برامجها، وخاصةً المتعلقة بالدعم الصحي، على الرغم من الصعوبات، كمنظمة أطباء بلا حدود التي تملك العديد من المراكز، ومنظمة Endless medical advantage، التي تقدّم خدمات الفحص المجاني إلى اللاجئين في مخيمات البقاع، والأدوية في حال توفّرها، ومؤسسة عامل الدولية.

وتُعدّ هذه المؤسسات من أهم الجهات التي تقدّم الخدمات الطبية والصحية إلى كبار السن في المخيمات، وتشكل عامل أمانٍ لهم، خاصةً أولئك المضطرين إلى التوجه نحو خيار العمل لتأمين بدل إيجار خيمهم، وطعامهم، ودفع كلفات الكهرباء المرتفعة، والحصول على القليل من الحطب الذي يقي من برد الشتاء القادم، وغيرها من المصاريف الضرورية، وهي أمور باتت تدفع اليوم كل لاجئ/ ة سوري/ ة في لبنان، سواء أكان عجوزاً، أم شابّاً، أم طفلاً حتى، للعمل ومواصلة الحياة مهما كان الثمن.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image