"وقت عرفت إنو فيه ويسكي لبناني اسمو Glenbey تفاجأت وما كتير أخدت الخبرية بجدية لحد ما جرّبتها بقعدة مع الأصحاب ولقيتها مقبولة وسعرها بيناسبني وهوي 90 ألف ليرة (حوالي خمسة دولارات بحسب سعر السوق الموازية)"، يقول جاد كرم لرصيف22.
ويضيف الشاب البالغ من العمر 38 عاماً والذي يعمل مدرّس لغة عربية: "الأنواع المستوردة التي كنتُ أشربها من قبل ارتفع ثمنها جداً ولم أعد قادراً على شرائها، فوجدت بديلاً يناسب مدخولي".
كثيرون كجاد عَرفوا بـGlenbey صدفةً، خصوصاً أثناء مشاهدتهم الإعلان الترويجي لها: "سكوتلاندية؟ إيه بس ربيانة بلبنان".
في منتصف حزيران/ يونيو 2021، ظهر هذا الإعلان الجديد في لبنان، وقال القائمون عل إنتاج هذه السلعة إن هدفهم ملء الفجوة في السوق اللبنانية وتوفير منتَج بسعر مناسب مقارنة بالعلامات التجارية المستوردة.
وأدّى تدهور سعر صرف الليرة اللبنانية مقابل الدولار إلى ارتفاع أسعار السلع المستوردة بشكل كبير، ومن بينها الكحول، وبدأت تظهر على رفوف المحال التجارية علامات تجارية جديدة مصنوعة محلياً.
يقول موسى يعقوب، وهو صاحب حانة في بيروت لرصيف22: "ظهرَت أصناف كثيرة مثل الجين والفودكا والويسكي والعرق مصنّعة في لبنان مؤخراً".
ويضيف: "هناك منتجات لبنانية كثيرة سبقت الأزمة واستمرّت إلى الآن مثل منتجات The Three Brothers من جين وعرق ونبيذ لبناني، ولكن ذاع صيتها الآن بسبب التسويق لها والإقبال عليها".
وتلاقي المنتجات المصنوعة محلياً قبولاً لدى الزبائن والمستهلكين نتيجة تراجع القدرة الشرائية للعملة الوطنية وانخفاض الرواتب، إذ صار الحد الأدنى للأجور وهو 675 ألف ليرة يقارب الـ30-40 دولاراً وفق سعر سوق الصرف الموازية المتقلّب، فلجأ إلى هذه المنتجات أفراد وأصحاب مَتاجر معاً.
رغم ذلك، لا تزال بعض المطاعم تفضّل تقديم أصناف معيّنة دون أخرى. يقول حسن حمود، وهو مالك مطعم "دار الجميزة" في العاصمة بيروت، إنه يفضّل تقديم النبيذ والعرق اللبناني أكثر من الويسكي اللبناني.
ويضيف لرصيف22: "لم أستبدل الويسكي المستورد بأنواع محلية، لكنني وفّرت أصنافاً لبنانية عدّة من العرق والنبيذ كي تكون حاضرة بأسعار مقبولة لمَن لا يستطيع تحمّل كلفة الويسكي المستورَد".
والكحول سلعة غير أساسية وَجَد إنتاجها اللبناني له مكاناً في السوق المحلية في ظل الأزمة الراهنة، مثل مئات الأصناف من السلع الأساسية، ما يشي بنمو نشاط اقتصادي محلي ينتج سلعاً يحتاجها السوق.
البحث عن الأرخص
في جولة سريعة على متاجر المواد الغذائية الكبرى في بيروت، نرى في أحدها سيّدة تبحث عن السعر الأرخص على الرفوف. تقول لرصيف22: "بيهمني يكون لبناني لأنو أرخص". فيما تفضّل سيدة أخرى شراء مساحيق الغسيل والجلي المستوردة بسبب جودتها، لكنها تحرص على أن تكون المنتجات الأخرى لبنانية كي تشتريها.
وعلى مدى العقدين الأخيرين، هُمِّش القطاع الصناعي لصالح القطاع الخدماتي. وعندما دخل لبنان الأزمة الاقتصادية والنقدية الراهنة، والتي صنّفها البنك الدولي بأنها إحدى أسوأ ثلاث أزمات حول العالم منذ القرن الماضي، دخلها بإنتاج محلّي ضئيل.
واليوم، نتيجة لهذا الانهيار، وجد مصنّعون الفرصة مناسبة للإنتاج بزخم أكبر، فيما كانت الظروف الجديدة ضربة قاصمة قضت على صناعات كانت أساساً تترنّح.
قصص وتحدّيات
يمتلك محمود سرّية وشقيقه معملاً صغيراً في طرابلس، شمال لبنان، منذ عشرة أعوام تقريباً، يصنع فيه يدوياً أنواعاً كثيرة من مساحيق التنظيف كمساحيق الجلي والغسيل والصابون.
يقول لرصيف22: "الإقبال على منتجاتنا اليوم بات كثيفاً. يقصدنا الناس من مختلف الشرائح الاجتماعية، على عكس السابق، حين كنّا مقصد أبناء الطبقة الشعبية فقط".
ويضيف: "تأثرنا إيجابياً بالأزمة الراهنة. نواجه أحياناً صعوبة في تأمين المواد الأولية التي تُباع لنا بالدولار أو بما يوازيه، بحسب أسعار السوق السوداء، لكن أسعارنا مهما ارتفعت تبقى مقبولة مقارنة مع العلامات التجارية المستوردة".
"منتجاتنا عالية الجودة. كل ما نطلبه راهناً أن يبقى باب رزقنا مفتوحاً وألا يتمّ التضييق علينا لجهة نيل تراخيص"، يتابع محمود.
ويقول خالد فخر الدين، وهو صاحب معمل لتصنيع السكاكر في شحيم، في قضاء الشوف، لرصيف22: "لديّ معمل شوكولا افتتحته قبل عام تقريباً، ولكن اضطررت إلى إقفاله مؤخراً. خسارات كبيرة ولا أرباح نجنيها".
ويضيف: "لا كهرباء ولا مازوت وصناعة ألواح الشوكولا حساسة جداً، تحتاج إلى تكييف باستمرار، وهذا ما عجزنا عن تأمينه، إلى جانب مشكلة الدولار وارتفاع أسعار المواد الأولية، من سكّر وفستق وجوز هند وكاكاو وزيت وغيرها من المواد غير المدعومة. لم نتمكن من الاستمرار وتوقفنا راهناً، مع العلم أن الطلب على السكاكر المصنوعة محلياً ارتفع".
مِثل خالد، اضطر عثمان طباع، وهو صاحب محل سكاكر يصنع البندقية والفستقية والقضامة بسكر في منطقة النجمة في طرابلس، إلى إغلاق معمله قبل أشهر بسبب ارتفاع كلفة الإيجارات وغلاء أسعار المواد الأولية وتحكّم التجار فيها.
يقول لرصيف22: "أعتاش في الوقت الراهن من بيع سلع أخرى. الشيء الأساسي الذي نريده هو تحقيق الأمن، وخاصة الأمن الاقتصادي، ‘لأن صرنا عايشين بغابة وما في رقابة على حدا’".
"الشيء الأساسي الذي نريده هو تحقيق الأمن، وخاصةً الأمن الاقتصادي، ‘لأن صرنا عايشين بغابة وما في رقابة على حدا’"
أكثر من ذلك، هناك معامل أغلقت أبوابها قبل الأزمة وتحوّلت إلى بيع سلع أخرى مثل معمل غمراوي، وهو معمل قديم لإنتاج السكاكر في طرابلس.
يقول أحد أصحاب المعمل، كرم غمراوي، لرصيف22: "اضطررنا إلى إغلاق أبوابه قبل ثلاث سنوات، يعني قبل أزمة الدولار والانهيار. لم نستطع أن نكمل ولم نكن نتلقى أي دعم من الدولة. اليوم تحوّلنا إلى بيع الملابس الأوروبية المستعملة (بالة) وحالتنا مستورة".
أهداف بيئية أيضاً
في مبادرة لافتة للانتباه، تمكّن زياد أبي شاكر من خلال مصنعه المخصص لتدوير النفايات البلاستيكية، وبمبادرة اجتماعية-بيئية، من إنتاج أغطية لفتحات شبكة الصرف الصحي، من البلاستيك المقوى المعاد تدويره، وضعها مكان أغطية حديدية تعرّضت للسرقة في بعض مناطق بيروت والأطراف، لأن قيمة الحديد في سوق الخردة عالية.
يقول أبي شاكر لرصيف22: "تقنيّة المعمل تمّ تنفيذها في لبنان من ضمن المنظومة التي خلقناها وتبشّر بصفر نفايات".
ويضيف: "تكمن أهمية هذا المعمل الموجود في منطقة أبو ميزان (المتن) في أن المواد الأولية لصناعاته هي من النفايات، وبالتالي لا حاجة للاستيراد و‘الفريش دولار’ (الدولار غير المحجوز في المصارف) كما أنه يساهم في التخفيف من كمية النفايات التي تُطمَر في البحر"، ما يساهم بشكل كبير في معالجة أزمة النفايات التي يعاني منها لبنان منذ سنوات وتفجّرت عام 2015.
ويتابع: "نعاني راهناً من مشكلة تقنين الكهرباء وفقدان مادة المازوت ومن عدم قدرتنا على رفع بدل أتعاب اليد العاملة بنفس الوتيرة التي ترتفع فيها الأسعار، ونعيش وضعاً صعباً راهناً لكننا سنستمر".
صناعات متنوّعة
ينشط لبنان في صناعة المنتجات الغذائية لما يتميّز به من محاصيل زراعية متنوّعة وذات جودة، وفي صناعات أخرى مثل الإسمنت والمفروشات الخشبية والملبوسات والأحذية والمجوهرات والدواء والتبغ.
بالإضافة إلى ذلك، هنالك بعض الصناعات المتقدمة مثل صناعة المولدات وأجهزة الإنذار ولوازم مختبرات والنبيذ والورق. وبرزت مؤخراً، خاصة بعد الأزمة الاقتصادية وجائحة كورونا، صناعة أدوات التعقيم والتنظيف والسكاكر.
قديماً، كانت تتمركز المصانع اللبنانية في العاصمة بيروت وضواحيها لكن الحرب الأهلية ساهمت في انتشارها في الأطراف، وتتميز بصغر حجمها ومعظمها ذو طابع عائلي.
تُظهر إحصاءات وزارة الصناعة الأخيرة لعام 2020 وجود 6010 مصانع مرخص لها في لبنان، 1616 منها تعمل في صناعة المواد الغذائية، يليها 644 مصنعاً مخصصاً لصناعة مواد البناء، و498 مصنعاً للصناعات الكيميائية. ويقدَّر عدد العاملين في القطاع الصناعي بحوالي 195 ألف عامل.
وفق رئيس جمعية الصناعيين فادي الجميل، "بلغ حجم الناتج الصناعي في لبنان 13 مليار دولار في عام 2019، وصُدّر ما قيمته حوالي ثلاثة مليارات دولار فيما استُهلك الباقي في السوق المحلية".
ويضيف لرصيف22: "انطلاقاً من هذه الأرقام، تقدَّر حاجة القطاع الصناعي للمواد الأولية بما قيمته ثلاثة مليارات دولار، وتختلف الحاجة بين قطاع وآخر بحسب السلع التي تُصَنَّع وحاجتها إلى مواد أولية مستوردة".
ويتابع: "استعادت راهناً الكثير من الصناعات التي كانت مهمَّشة من قِبَل الدولة دورها في الصناعة اللبنانية، مثل الألبسة والأحذية والمفروشات. وشركات عالمية تقوم بتصنيع منتجاتها في مصانع لبنانية وكثيرون من المستوردين باتوا يتعاونون معنا". ويلفت إلى أن ازدهار الصناعة تزامن مع انخفاض القدرة الشرائية للناس.
ويرى الخبير الاقتصادي جان طويلة أن لا أرقام دقيقة حول ما يمكن للصناعات المحلية أن تلبّيه من حاجة الاستهلاك المحلي. ويضيف لرصيف22: "لكن إذا ما أردنا الحديث عن البدائل في السوق اللبنانية، يمكن أن يتم توفير حوالي خمسة مليارات دولار من قيمة الاستيراد، بمعنى أنه يمكن الاستغناء عن خمسة مليارات دولار تشكّل قيمة سلع مستوردة واستبدالها بأخرى لبنانية".
مشكلة المواد الأولية
تُعَدّ المواد الأولية عائقاً كبيراً أمام أبسط الصناعات الصغيرة مثل صناعة السكاكر التي اضطرّ أصحابها إلى إغلاق أبوابها نتيجة عدم دعمها من قبل الدولة، وتكبدهم خسائر.
وفي مقارنة بسيطة، توجَد عدّة أنواع من السلع تحتاج إلى استيراد مواد أولية كثيرة مثل صناعة أجهزة الإنذار ولوازم المختبرات، على عكس مصانع الصابون مثلاً والتي لا تحتاج إلى استيراد مواد أولية كثيرة.
يرفض الجميل الربط الذي يعتبره خاطئاً بين وجود المواد الأولية وحركة التصنيع، ويشير إلى أن أغلب دول العالم تستورد المواد الأولية من أجل صناعاتها.
"المشكلة في عدم إقامة حوار بين الفئات الاجتماعية المختلفة، وبالتالي بين أرباب العمل والعمال، بما يسمح لهم بالتفاوض بدلاً من فرض الشروط على العمال الذين، بدورهم، يبقون الأكثر تضرراً والأكثر فقراً"
ويَعتبر طويلة أن الصناعيين سيحتاجون دائماً الى استيراد المواد الأولية حتى ولو تم تكثيف صناعة مواد تُستخدم في صناعات أخرى محلياً، ويقول "إن خفض الكلفة على الصناعيين يكون من خلال خلق بيئة مناسبة لهم، على صعيد التشريعات والضرائب والطرقات والكهرباء، فعند توفير ذلك يمكن خفض كلفة الإنتاج عليهم".
ويضيف: "لا يمكن مقارنة اقتصادنا باقتصادات أخرى تكون فيها كلفة الصناعة منخفضة، ولكن ما يُعَدّ ضرورة راهناً هو التركيز على نوعية المنتجات والميزة التفاضلية التي لدينا".
التجربة المصرية
ويختلف لبنان بأزمته الراهنة عن الأزمات الاقتصادية التي عصفت بدول مجاورة، مثل مصر، فالأزمة في لبنان أعمق وأصعب كون لبنان وصل إلى هذا الوضع بإنتاج ضئيل لا يسدّ حاجات الناس الغذائية ولا يلبّي احتياجاتهم الأساسية، حتى أن صناعات هذه الدول هي من بين السلع الأكثر تداولاً في لبنان.
ويُعَدّ القطاع الصناعي في مصر من أكبر القطاعات الاقتصادية، إلى جانب الزراعة وتكنولوجيا المعلومات، إذ تشتهر مصر بصناعة الأثاث المنزلي والصناعات الجلدية ومواد البناء والأغذية المصنّعة وغيرها الكثير من الصناعات التي تؤمّن لها اكتفاءها من الحاجات الأساسية.
يُذكر أنه في تشرين الثاني/ نوفمبر 2016، اتّخذ البنك المركزي المصري قراراً بتحرير سعر صرف الجنيه المصري، فانخفضت قيمته مباشرة من 8.8 إلى 13 جنيه مقابل الدولار الواحد، وارتفعت أسعار السلع. ويستقر سعر الصرف راهناً على سعر 18 جنيه للدولار.
وفي العام نفسه، حصلت الحكومة المصرية على قرض قيمته 12 مليار دولار من صندوق النقد الدولي، وبدأت بتنفيذ برنامج إصلاح اقتصادي، وتحسين البنى التحتية.
تقول المستشارة الاقتصادية لرئاسة مجلس الوزراء المصري د. جيهان صالح لرصيف22 إن "قرار المركزي كان جريئاً جداً، وبرنامج الإصلاح الاقتصادي كان مختلفاً عمّا سبقه لجهة الإصلاح الهيكلي وليس المالي والنقدي فقط".
وتضيف: "كانت فاتورة الواردات كبيرة جداً، والجزء الأكبر منها كان موادّ أولية وسلعاً وسيطة للصناعات. كان هناك طلب على العملة الأجنبية أكثر من العرض، فنشطت السوق الموازية".
من هنا، كان لا بد من إجراء تعميق للصناعة، بمعنى تأمين صناعة المواد الأولية محلياً بدلاً من استيرادها، لذا تمّ تشجيع المستثمرين للاستثمار في القطاع الصناعي، لا سيّما في المجمعات الصناعية الجديدة، من أجل خفض قيمة الواردات ورفع قيمة الصادرات، بحسب صالح.
لكن، لطالما كانت الصناعات المحلية نشطة في مصر، قبل التوجه إلى صندوق النقد وبعده، لذا فإن عدداً كبيراً من المصريين لم يتأثروا بشكل حاد بانخفاض قيمة العملة الوطنية كما تأثر غالبية اللبنانيين والمقيمين في لبنان.
ووفق تقرير التجارة الخارجية المصرية غير البترولية الصادر في أيار/ مايو 2019، فإن حجم الصادرات الصناعية المصرية عام 2018 بلغ 25.148 مليار دولار بعدما كان 18.659 ملياراً عام 2015. أما الواردات فقد بلغت حوالي 71 مليار دولار في العامين المذكورين.
الإمكانات موجودة... ولكن؟
يقول الجميل: "الإمكانات كبيرة. الصناعيون قادرون على إنتاج سلع متنوعة، ولكن تواجهنا مشاكل آنية مثل مشكلة المازوت والمواد الأولية التي تعيق العمل راهناً".
عام 2011، وصل حجم الصادرات من الصناعات المحلية إلى 4.2 مليار دولار، وتراجع تدريجياً بسبب الحرب في سوريا، واليوم لدى لبنان القدرة على تصدير بضائع قيمتها ما بين ثلاثة وخمسة مليارات دولار، لو حُلَّت المشاكل، بحسب الجميل.
ويضيف: "الدليل على قدراتنا أن ثلاث شركات لبنانية بادرت إلى تصنيع أجهزة تنفس في بداية أزمة كورونا وهي اليوم تقوم بتصديرها".
يقول مصدر في وزارة الصناعة فضّل عدم الإفصاح عن اسمه لرصيف22: "الإقبال على منتوجاتنا في الأسواق الخارجية هو دليل على حداثتها وتطورها وميزتها التنافسية العالية".
ولكن انهيار الليرة وارتفاع كلفة التصنيع قللا من ميزة الصناعة اللبنانية التنافسية، وشهدنا تحوّل بعض المصانع من صناعاتها المعتادة إلى أخرى تلبّي الحاجة المحلية.
ولم تكن الصناعات اللبنانية غائبة، لكنها كانت تنافسها صناعات مستوردة منخفضة السعر، مثل التركية.
دعم الجهات الرسمية
يعاني الصناعيون من غياب أي دعم رسمي. فبحسب المصدر في وزارة الصناعة، فإن "موازنة وزارة الصناعة منخفضة وبالكاد تكفي لرواتب الموظفين والنفقات التشغيلية، ولا يمكنها تقديم أي تسهيلات للصناعيين".
ويرى طويلة أن النهج المتّبع عمد إلى تهميش الصناعة والزراعة لأن الاقتصاد الريعي يناسب "المنظومة الاقتصادية" أكثر.
يقول المصدر في وزارة الصناعة: "دور الوزارة هو دور حاضن وراعٍ للقطاع الإنتاجي عبر ترشيده ودعمه ومراقبته من خلال التفتيش للتأكد من سلامة الإنتاج وسلامة العمال. في المقابل هناك بعض التسهيلات للصناعيين وهي دفع كلفة أقل على الكهرباء وتسجيل سيارات العمل مجاناً".
بالعموم، يرى الجميل أن مشكلة الصناعيين آنية، وأنها تُحَلّ بتأمين المحروقات والمواد الأولية، لكن كثيرين من الصناعيين الذين قابلهم رصيف22 اعتبروا أنهم يحتاجون إلى الكثير من الدعم لتأمين المواد الأولية بسعر مدعوم والكهرباء والتسهيلات، وهذا ما تعجز عنه الدولة راهناً، بحسب المصدر الصناعي.
معاناة العمال
يعمل علي (فضّل عدم الإفصاح عن اسمه الكامل) منذ أعوام في معمل "غندور"، وهو معمل سكاكر قديم أنشئ في لبنان عام 1857. هو أب لولدين ويتقاضى اليوم مليونين و500 ألف ليرة، أي حوالي 130-150 دولاراً بحسب سعر سوق الصرف الموازية.
يقول لرصيف22: "تم تعديل رواتبنا قبل ثلاثة أشهر وأصبحنا نتقاضى 40% منها على سعر صرف المصارف، أي 3900 ليرة مقابل الدولار الواحد، وقبل شهر رُفعت هذه النسبة إلى 60% من الراتب، أما الباقي فلا زلنا نتقاضاه على أساس سعر الصرف الرسمي وهو 1515 ليرة للدولار الواحد".
ويضيف: "ظروف العمل جيدة إذ نتقاضى بدل نقل ارتفعت قيمته راهناً من ثمانية آلاف إلى 16 ألف ليرة لليوم الواحد. أنا مضمون (أي مسجل في الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي) ولديّ تأمين صحي خاص على حساب المعمل، ويلتزمون بمنحنا إجازاتنا السنوية وتعويضاتنا".
ويتابع: "ولكن رغم كل ذلك فإن الراتب الذي أتقاضاه وفي ظل أزمة الدولار وارتفاع الأسعار، لا يكفي لإعالة عائلتي، القدرة الشرائية للراتب منخفضة جداً. ولكن لا خيار أمامنا سوى البقاء في عملنا".
في المقابل، يعمل سامر (اسم مستعار) في معمل لإنتاج مساحيق التنظيف في بيروت. يقول لرصيف22: "أتقاضى مليوناً و600 ألف ليرة شهرياً (80-100 دولار) وبالكاد بتكفيني. التنقل مكلف والأكل غالٍ وأسعار كل شي نار، ‘نحنا أنجأ عم نعيش’".
ويضيف: "حاولت كثيراً أن أجد عملاً آخر ‘بس ما عم بتوفق’. وضع البلد صعب، وليس لديّ لا ضمان ولا تأمين صحي، ولا تُرصد لنا أي تعويضات في العمل ولا حتى إجازات سنوية ولا أي مخصصات".
ويختم: "ما عندي خيار تاني، ما فيي أقعد بالبيت بلا شغل".
واقع العمالة المأزوم
تشير استطلاعات "الدولية للمعلومات" إلى أن لبنان اقترب من رقم المليون عاطل عن العمل في أيار/ مايو عام 2020، والرقم قابل للارتفاع إذا ما استمر الوضع على ما هو عليه.
هذا الواقع حمل كثيرين من الأفراد للقبول بأي عمل وفي ظل أي ظروف، حتى أن البعض اضطروا للموافقة على تقاضي نصف راتب من أرباب العمل.
وبحسب المصدر الصناعي، فإن علاقة العمال بأرباب العمل في الصناعات اللبنانية هي علاقات فردية وحتى وزارة العمل لا تتدخل في تنظيمها.
هناك وجهة نظر تقول إنه ربما يختلف واقع العمال وأرباب العمل في الصناعات المحلية، كونهما لا ينعمان بواقع مالي جيد، فأرباب العمل أرباحهم منخفضة ويعانون من كلفة الإنتاج المرتفعة وفي أحسن الأحوال هم يقدّمون ما يقدرون عليه للعمال، لكن هذه التقديمات تبقى غير كافية ولا توفر للعمال العيش الكريم ولا حتى أدنى إحتياجاتهم.
بالمقابل، هناك مَن يتهم أرباب العمل باستغلال العمال لا سيّما في ظل الظروف المعيشية الضاغطة راهناً.
يرى الصحافي في المرصد اللبناني لحقوق العمال والموظفين أسعد سمور أنه "مثلما لا يشارك العمال أرباب العمل في أرباحهم لا يُفترض في الوقت نفسه أن يشاركوهم في خسائرهم".
ويقول لرصيف22: "المشكلة في عدم إقامة حوار بين الفئات الاجتماعية المختلفة، وبالتالي بين أرباب العمل والعمال، بما يسمح لهم بالتفاوض بدلاً من فرض الشروط على العمال الذين، بدورهم، يبقون الأكثر تضرراً والأكثر فقراً".
ويضيف سمور: "على أرباب العمل الضغط على الدولة من أجل تحسين البنى التحتية والنقل والكهرباء والضرائب، بدلاً من تعويض هذه الكلفة بتخفيض رواتب العمال الذين لا يحصل غالبيتهم على أي تقديمات أو حماية اجتماعية".
ويتابع سمور: "هنا تبرز مسؤولية الدولة في تقديم الدعم خصوصاً في ظل الأزمة الراهنة، وإلا سيصير العمال فقراء أكثر، وأصحاب العمل إما يستمرون في مستوى أقل أو يخرجون نهائياً من السوق".
نحو نمو مستدام
يرى المستشار الإقليمي لسياسات التشغيل في منظمة العمل الدولية طارق حق أن "النمو المستدام للقطاع الصناعي يتحقق من خلال تطوير مؤسسات صناعية منظمة وقوية، حتى لو كانت صغيرة، فهي توفّر فرص عمل لائقة للعاملين فيها وتنمّي مهاراتهم، على عكس المبادرات الفردية التي يقوم بها أفراد من أجل تحقيق دخل مادي في ظل الأزمة الراهنة".
ويقول حق لرصيف22: "المنتجون المحليون يحرزون تقدماً لافتاً في الظروف الراهنة، بدليل ازدياد عدد السلع المنتجة محلياً، لكن من الضروري أن يواكب صانعو السياسات هذه المبادرات ومساعدتها على الازدهار".
ويضيف: "بحسب تقرير التنافسية العالمي الصادر عن المنتدى الاقتصادي العالمي، احتل لبنان المرتبة 89 من أصل 141 دولة من حيث جودة البنى التحتية في عام 2019، وبالتالي وقبل كل شيء، على لبنان أن يقوم بتحسين البنى التحتية لديه كي لا تبقى كلفة الكهرباء والنقل وغيرها مرتفعة على أصحاب المصانع".
ويلفت حق إلى الروتين الإداري والإجراءات الرسمية التي تعيق بشدة نمو الأعمال التجارية في لبنان، فإضاعة الوقت قد تؤدي إلى الشعور بالإحباط والعمل بشكل غير رسمي، ما يتسبب بالتهرب الضريبي وضعف مراقبة الجودة وتخلق ظروف عمل سيئة للعاملين في المصانع.
ويرى حق أن النجاح في القطاع الصناعي يرتكز على الأفراد الموهوبين الذين يتمتعون بكفاءات عالية، لافتاً إلى أهمية أن يتماشى نظام التعليم في لبنان مع الاحتياجات الحقيقية للسوق.
إذاً، على المؤسسات التعليمية توجيه الطلاب وإبلاغهم بالاحتياجات الحقيقية للسوق، وفي موازاة ذلك، يجب تطوير المناهج الدراسية التي تتناسب مع احتياجات سوق العمل. وبالتالي، يمكن أن يلعب التعليم والتدريب التقني والمهني دوراً مهماً للغاية لأنه يوفر مجموعة واسعة من التخصصات المطلوبة في قطاع التصنيع.
وبحسب حق، من المهم توفير بيئة مشجعة للاستثمار وتخفيف العبء الضريبي عن الشركات الصغرى والمتوسطة، كما على المؤسسات المالية أن تسعى لتزويد صغار المنتجين بقروض منخفضة الفائدة.
في المحصّلة، يرى حق أنه من المهم عدم الانخراط في التصنيع لأجل التصنيع فقط، بل "توجيه موارد الدولة نحو صناعات وأنشطة يمكنها المنافسة عالمياً، ما يسمح بخلق وظائف جيدة لسكانها وتنمية اقتصادها".
*أعدّ هذا التقرير بدعم من منظمة العمل الدولية وشبكة الصحافة الأخلاقية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ 3 ساعات??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 23 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون