تتغيّر تعابير وجه سارة رستم لدى حديثها عن تجربتها في محاولة استئجار منزل في منطقة الحدث، ذات الأغلبية المسيحية، شرقي بيروت. تقول إن رفض تأجيرها شقة وجدَتها وكانت "مثالية من حيث المواصفات وبدل الإيجار"، لكونها مسلمة، ولّد لديها شعوراً بالرفض والنبذ والإحباط.
"قدّموا لي حججاً مثل التخوّف من أن أصحابي المسلمين سيقومون بزيارتي إذا سكنتُ هنا، ما يعني أن مزيداً من المسلمين سيأتون، فسألتهم: وهل نحمل أنا وأصدقائي مرضاً معدياً مثلاً؟"، تروي لرصيف22.
تسكن الشابة البالغة من العمر 37 عاماً حالياً في منطقة الضاحية الجنوبية، المحاذية للحدث، وهي منطقة ذات أغلبية سكانية شيعية، وتُعَدّ معقلاً لحزب الله. وترغب في الانتقال من الضاحية "حيث أنني لا أشعر بالانتماء إلى الثقافة السائدة المفروضة هنا"، تقول.
وكانت قد عثرت على الشقة التي تبعد عن مكان سكنها الحالي بضع دقائق بالسيارة، من خلال إعلان، لكن مالكها رفض تأجيرها إياها بسبب وجود قرار من البلدية يمنع تأجير العقارات لمسلمين. "شعرتُ ولا أزال أشعر بانتقاص من إنسانيتي، وكأن لا حقوق لدي"، تعلّق.
ولا مجال للسكن في الحدث، دون تسجيل عقد الإيجار في البلدية، فهذا "يعني أن الأخيرة ستقطع المياه والكهرباء وسائر الخدمات عن الشقة، وسترفض حتى جمع القمامة منها، لأن سكانها مسلمون".
الصراع على العقارات
رئيس بلدية الحدث جورج إدوار عون، رفض التعليق لرصيف22 حول الموضوع، لأنه "سبق وقلنا ما لدينا ولا داعي لإعادة الحديث فيه". وكان عون قد عبّر في وقت سابق عن افتخاره بقراره منع المسلمين من الاستئجار أو التملك في نطاق بلديته، "لأن التغيير الديموغرافي لا يخدم العيش المشترك".
قرار جورج عون ليس فردياً. سبق أن صرّح بأنه مغطى سياسياً "من قبل الجميع وأولهم رئيس الجمهورية ميشال عون"، وأضاف في تصريح تلفزيوني عام 2019 أن هناك أيضاً غطاءً من الأحزاب الشيعية، حزب الله وحركة أمل لخطوته، فهم "ليسوا فقط راضين عن القرار، بل يدعمونني".
برأي سارة، قرار البلدية "عنصري فضلاً عن أنه غير قانوني وغير إنساني"، مشيرة إلى أن الثنائي الشيعي لا يمثلها، ومعلّقة على رضا طرفيه عن القرار بأنه "نابع من رغبة بأن يبقى جميع الشيعة في مناطق سيطرتهما، لأنهما قادران على كيّ وعينا هنا (في الضاحية) عبر الصور والشعارات المنتشرة في كل مكان وعبر الثقافة التي يعممانها".
تقول الباحثة المستقلة والناشطة السياسية زينة سامي الحلو لرصيف22 إن "الكثير من المناطق الأخرى تفرض قيوداً على بيع وشراء العقارات بين الطوائف، فضلاً عن تأجيرها، لكن بشكل غير معلن"، مضيفةً أن "هذا الأمر ينتشر خصوصاً في المناطق المسيحية بسبب الهاجس الديموغرافي الذي يُروَّج له فيها، بأن هناك خطراً يتهدد المسيحيين جراء النمو السكاني للمسلمين وتوسّع مناطقهم".
وعام 2010، تقدّم النائب بطرس حرب بمشروع قانون يهدف إلى "منع بيع العقارات المبنية وغير المبنية الكائنة في لبنان بين أبناء طوائف مختلفة غير منتمية إلى دين واحد". وجاء في أسبابه الموجبة ضرورة "الحيلولة دون الفرز السكاني الطائفي وضرب صيغة لبنان، بلد الحوار والتعايش بين المسيحية والإسلام".
في الفترة نفسها، اقترح التيار الوطني الحر، أكبر الأحزاب المسيحية حينها، مقاربة جديدة لموضوع بيع الأراضي، عبر وضع مجلس النواب اللبناني والبلديات المختصة معايير تحدّ من عمليات بيع أراضي المسيحيين لغيرهم.
أيضاً، عَقَدت البطريركية المارونية لقاءً مارونياً موسعاً، في حزيران/ يونيو 2011، شارك فيه كل قيادات الموارنة الموالين والمعارضين، لبحث "الواقع المسيحي في لبنان ومخاطر هجرة كثير من المسيحيين وبيع أراضيهم إلى غير المسيحيين"، وصدر عنهم بيان يدعو إلى "المحافظة على الأرض اللبنانية كوسيلة لترسيخ الوجود والهوية والحفاظ على خصوصية لبنان في تعدديته وتنوع مجتمعه ضمن الوحدة".
يبث القادة السياسيون المسيحيون مخاوف بشأن بيع الأراضي بين الطوائف، لكن الحلو تؤكد أن "عملها على الأرض يكشف بطلان هذا الخطاب لأن حركة بيع وشراء الأراضي في لبنان بين الطوائف تحكمها حاجات السوق والنمو السكاني"، نافيةً وجود مخطط لشراء أراضي المسيحيين ضمن مؤامرة ما ضدهم.
يسلّط النزاع الطائفي على الأراضي والعقارات الضوء على واقع التحفز الديموغرافي الدائم في لبنان، والذي تغذيه الأحزاب السياسية التي تنسب لنفسها تمثيل طوائفها.
يقول المؤرخ وأستاذ التاريخ في الجامعة اللبنانية الأمريكية والجامعة الأمريكية في بيروت شارل حايك لرصيف22: "الديموغرافيا بطبيعتها ليست ثابتة بل تتحول بشكل دائم، لكن الغريب أن زعماء الطوائف في لبنان يتعاملون معها على أنها ثابتة، أو يجب أن تكون ثابتة، فتراهم يهلعون كلّما رصدوا تغيرها".
ويشرح أن هؤلاء الزعماء "لا يملكون ما يقدّمونه للناس، من حقوق وخدمات، فيحدثونهم طوال الوقت بمسألة الهوية والخطر على الهوية، والمقصود بالهوية هنا الهوية الطائفية".
بابٌ للموارد الاقتصادية
يجعل النظام اللبناني من تغيّر الديموغرافيا هاجساً دائماً لدى الجماعات الدينية، بسبب طبيعته الطائفية، تقول الحلو، إذ إنه نشأ وقام على فكر طائفي يستند إلى الحجم العددي للطوائف: "الدولة تعطي الحقوق للطوائف بصفتها كينونات سياسية، وليس للأفراد بصفتهم مواطنين".
وتلفت إلى أنه "في الحالة الطبيعية، توزع الدولة الموارد على مواطنيها وفق المعطيات الاقتصادية ودراسة الحاجات"، لكن في النظام الطائفي اللبناني يتم ذلك "من خلال المحاصصة الطائفية، بحيث تتقاسم الأحزاب السياسية الطائفية موارد الدولة، بحسب قوّة كل فريق طائفي سياسياً".
"رفضوا تأجيري شقّة لأني مسلمة. قدّموا لي حججاً مثل التخوّف من أن أصحابي المسلمين سيقومون بزيارتي إذا سكنت هنا، ما يعني أن مزيداً من المسلمين سيأتون، فسألتهم: وهل نحمل أنا وأصدقائي مرضاً معدياً مثلاً؟"
يذكّر حايك بأثر الديموغرافيا على السياسة منذ ما قبل تشكّل لبنان الحديث. ففي نظام المتصرفية الذي تأسس عام 1860 ليسيّر شؤون منطقة جبل لبنان، وهي منطقة ذات أغلبية مسيحية درزية مختلطة، كانت السلطنة العثمانية تعيّن حاكماً أجنبياً مسيحياً، لأن الأغلبية السكانية كانت للموارنة، ويساعده مجلس إداري منتخب تتمثل فيه مختلف طوائف المنطقة.
ومع إعلان دولة لبنان الكبير، في ظل الانتداب الفرنسي، عام 1920، ارتفع عدد المسلمين من سنّة وشيعة في الكيان الجديد بعد ضم أقضية جديدة ذات أغلبية سنّية وشيعية، وانتقل الثقل الديموغرافي اللبناني من طائفتين كبيرتين هما الموارنة والدروز، إلى ثلاث طوائف كبرى هي الموارنة والسنّة والشيعة.
وكان التمثيل السياسي على أساس طائفي حاضراً منذ بدايات الكيان الوليد، ولعبت نتائج إحصاء عام 1932، وهو آخر إحصاء رسمي لسكّان لبنان، دوراً في تكريس بعض الأعراف والقواعد، ومنها عرف أن رئاسة الجمهورية للموارنة، لأن الموارنة وقتها كانوا أكبر طائفة، ومنها قاعدة توزيع الوظائف العامة بمعدّل 6 للمسيحيين مقابل 5 للمسلمين، وهي قاعدة استمرت حتى تعديل الدستور عام 1990.
وحين استقل لبنان عن فرنسا، عام 1943، وعلى ضوء "الميثاق الوطني"، وهو اتفاق غير مكتوب جرى بين رئيس الجمهورية وقت الاستقلال بشارة الخوري ورئيس الحكومة حينذاك رياض الصلح، بدأ عرف تخصيص رئاسة الجمهورية للموارنة ورئاسة الحكومة للسنّة، ولم يمرّ وقت طويل حتى حجز الشيعة حصتهم في رئاسة مجلس النوّاب، منذ عام 1947.
بين استقلال لبنان، وبين تعديل الدستور الأخير، على ضوء اتفاق الطائف (1989) الذي أنهى الحرب الأهلية اللبنانية (1975-1990)، كان الواقع الديموغرافي في تغيّر مستمر لصالح المسلمين. وظهرت آثار هذا الأمر في محطات عدة كانت ترتفع فيها مطالب إسلامية بتغيير النظام الذي يمنح المسيحيين امتيازات وسلطات تفوق حجمهم العددي، وهو ما يُعرَف بـ"خطاب العَدّ"، أي إعادة ترتيب السلطة بموجب إحصاء سكاني جديد.
رغم ذلك، نصّت المادة 95 المعدّلة على انتخاب مجلس النواب "على أساس المناصفة بين المسلمين والمسيحيين" وعلى "تمثيل الطوائف بصورة عادلة في تشكيل الوزارة"، وعلى المناصفة في وظائف الفئة الأولى (الوظائف العليا) وما يعادلها، كما سحب الدستور المعدل معظم صلاحيات الرئيس الماروني، وأعطاها لمجلس الوزراء مجتمعاً.
لكن اتفاق الطائف ومن ثم تعديل الدستور ليصير "أكثر توازناً في تقسيم السلطة بين الطوائف"، بحسب وصف الأستاذ الجامعي المتخصّص في القانون الدستوري وتاريخ الفكر السياسي في جامعة القديس يوسف في بيروت وسام اللحام، لم يكن كافياً لإيقاف خطاب العَدّ في البلد.
يطل هذا الخطاب برأسه عند كل مفصل سياسي يستدعي شدّ العصب الطائفي، يقول اللحام لرصيف22، مشيراً إلى أن "الدستور اللبناني جمّد العد حينما كرس مناصفة مؤسساتية بين المسلمين والمسيحيين، بغض النظر عن أعدادهم على الأرض، فلم يعد من قيمة للوزن الديموغرافي لكل طائفة"، وهو ما عبّر عنه رئيس الحكومة الراحل رفيق الحريري مرّة، بعد زيارته البطريرك الماروني الراحل مار نصر الله بطرس صفير في بكركي، بقوله: "أوقفنا العد"، في ردّ على تصريحات لقادة مسلمين طالبت وقتها بالديمقراطية العددية، وصولاً إلى طرح بعضهم قضية الاستفتاء الشعبي، وهو ما يرفضه المسيحيون بطبيعة الحال لأنه ليس لصالحهم.
أبرز فصول "الكباش" الديموغرافي شهده عام 2012. فخلال إحيائه ذكرى وفاة مؤسس الجمهورية الإسلامية في إيران روح الله الخميني، دعا نصر الله إلى مؤتمر تأسيسي جديد في لبنان، وقال إنه "يمكن أن ننتخب مؤتمراً تأسيسياً، ليس على أساس طائفي بل على أساس شرائح ونسب مئوية، لديه مهلة 6 أشهر أو سنة، لمناقشة كل الخيارات"، مطالباً بضرورة تغيير النظام السياسي في الدولة من أجل التغلب على الثغرات والأزمات الموجودة.
دعوة نصر الله تلك رأى فيها زعماء الأحزاب المسيحية استهدافاً للمناصفة التي أرساها الطائف، وهو ما عبّر عنه رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع، حينما رد على نصر الله بأن "الدعوة إلى مؤتمر تأسيسي هو أمر خطير جداً وحذار التلاعب بالطائف".
ومن آخر فصول "خطاب العدّ" السجال الذي ظهر في 14 شباط/ فبراير 2021، في خضم صراع على الحصص في الحكومة بين رئيس الجمهورية ميشال عون ومن خلفه التيار الوطني الحر، والرئيس المكلف بتشكيل الحكومة حينها سعد الحريري، ومن خلفه تيار المستقبل. وقتها ذكّر الحريري عون بموقف والده، وقال: "أوقفنا العد، فليس لسعد رفيق الحريري تهمة الاعتداء على حقوق المسيحيين"، ما استدعى ردوداً نارية من التيار الوطني الحر، إذ اعتبر مستشار رئيس الجمهورية سليم جريصاتي أنه "ليس لأحد أن يمنّن النصارى بأنه ضمانتهم".
برأي اللحام، "الزعماء الطائفيون الذين هم أنفسهم زعماء ميليشيات الحرب الأهلية، يستعملون التحريض العددي لشد العصب والسيطرة على الشارع".
وبعد انتهاء الحرب الأهلية، ومع إجراء أول انتخابات برلمانية عام 1992، سيطرت الميليشيات السابقة على مقاعد البرلمان، وخلع زعماؤها الرداء العسكري ولبسوا بدلة وربطة عنق، وصاروا يديرون سياسات البلد في البرلمان والحكومة.
"بعد الحرب اللبنانية الأهلية، بات الموارنة يعيشون هاجس ألا يخسروا المزيد، وفي المقابل، يعيش السنّة هاجس عدم الرجوع إلى الوراء، بعد المكاسب التي حققوها، فيما يتحرك الشيعة انطلاقاً من هاجس ألا يُعاد إخراجهم من المعادلة"
يرى اللحام أن "الديموغرافيا باتت ورقة بيد الزعماء لتخويف أتباعهم من الآخرين، فيما الشعب هو خائف بالفعل لأنه يعرف أن هؤلاء الزعماء قد يعودون إلى العنف وإلى حرب أهلية جديدة في أي لحظة".
وتقول الحلو إنه "بعد الحرب الأهلية، وفي ظل اتفاق الطائف، باتت المجموعة الطائفية المارونية تعيش هاجس ألا تخسر المزيد، وفي المقابل، تعيش المجموعة الطائفية السنّية هاجس عدم الرجوع إلى الوراء، بعد المكاسب التي حققتها، فيما تتحرك المجموعة الطائفية الشيعية انطلاقاً من هاجس ألا يُعاد إخراجها من المعادلة"، مضيفةً أن "الهاجس المسيحي الأكبر" هو الانتقال من المناصفة في الحكم بين المسلمين والمسيحيين إلى المثالثة بين السنّة والشيعة والمسيحيين، "مع تراجع نسبة المسيحيين من نصف إلى ثلث السكان بحسب قوائم الشطب الانتخابية والإحصاءات غير الرسمية الحديثة".
وفق إحصاء غير رسمي أجرته "الشركة الدولية للمعلومات" في أواسط عام 2019، يظهر أن نسبة المسيحيين انخفضت إلى 30.6% من اللبنانيين، بينما ارتفعت نسبة المسلمين إلى 69.4%. ووفق الإحصاء نفسه، حلّت الطائفة الشيعية في المرتبة الأولى من حيث العدد وشكلت نسبة 31.6% من اللبنانيين وجاء السنّة في مرتبة متقاربة وشكّلوا نسبة 31.3%، بينما حل الموارنة في المرتبة الثالثة بنسبة 16.96% من اللبنانيين.
مقابل التفاخر بالعدد والتلويح به من قِبل قيادات مسلمة، يردّ بعض الوجوه السياسية المسيحية بخطاب عنصري عن "النوع"، متحدثين عن أفضلية المسيحيين على المسلمين، ومن أبرز رافعي هذا الخطاب اليوم التيار الوطني الحر.
هذا هو الأساس الذي ينطلق منه شخص مثل رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل ليقول مثلاً إن "المسيحيين هم الأصل والوصل والفصل في منطقتنا"، و"بغيابنا (أي المسيحيين) ستكون هناك أحادية وظلامية تنتقل من هذه المنطقة وتتمدد إلى العالم". والغريب أنه قال ما قاله بصفته وزيراً للخارجية والمغتربين، وذلك في كلمة ألقاها عام 2015 في "مؤتمر المسيحيين المشرقيين".
من الصعب أن يتجاوز الزعماء اللبنانيون هذه السجالات لأن أساسها صار موجوداً في الدستور البناني الذي تنص مادته رقم 95 على "إلغاء الطائفية السياسية"، وتعتبر أن كل ما يعيشه لبنان قبل تحقق هذا الهدف هو "مرحلة انتقالية".
عام 2009، وبالتزامن مع العيد السادس والستين لاستقلال لبنان، خرج رئيس مجلس النواب ورئيس حركة أمل نبيه بري باقتراح طغى على أي نقاش آخر في البلد، معلناً عزمه إنشاء "الهيئة العليا لإلغاء الطائفية السياسية"، وهي هيئة نصت المادة 95 من الدستور على تشكيها، يرأسها رئیس الجمهوریة، وتضم رئیس مجلس النواب ورئیس مجلس الوزراء و"شخصیات سیاسیة وفكریة واجتماعیة"، ومهمتها "دراسة واقتراح الطرق الكفیلة بإلغاء الطائفیة وتقدیمها إلى مجلسي النواب والوزراء".
طرح بري جاء في لحظة سياسية كان يستعر فيها الخلاف على بند "سلاح المقاومة" (سلاح حزب الله) في البيان الوزاري للحكومة الجديدة.
حينها، أيّد الفكرة الزعيم الأبرز للدروز وليد جنبلاط، فيما اعترضت القوات اللبنانية عليها بقوة واعتبر عضو اللجنة التنفيذية فيها جو سركيس أنها تشكّل "استفزازاً للمسيحيين"، معتبراً أن "إلغاء الطائفية بوجود السلاح بيد الطائفة الشيعية يخلق هواجس وقلقاً لدى معظم اللبنانيين من مسيحيين ومسلمين"، و"سيشجع على تهجير المسيحيين، وكأنما يقال لهم أنتم ستذوبون كلياً هنا، ولا وجود لكم. كل هذا تحت عنوان: اللاطائفية". كذلك، اعترض عليها حزب الكتائب والتيار الوطني الحر، وبالتالي توحّد الأفرقاء المسيحيون على الرفض.
يشير وسام اللحام إلى أن طرح إلغاء الطائفية السياسية مطلب للأحزاب العلمانية والتغييرية المعارضة، وتبنّته تاريخياً الحركة الوطنية بزعامة كمال جنبلاط في سبعينيات القرن الماضي، "لأن الأخير كان يرى أن النظام اللبناني يحدّ من دوره ولا يلبي طموحاته، ويقزّمه إلى مستوى زعيم طائفي درزي، ويمنع عنه المناصب الرفيعة في الدولة، بينما هو كان يؤمن بأنه زعيم عربي، ويطمح لتولي رئاسة الجمهورية أو رئاسة الحكومة".
ويرى اللحام أن برّي يستعمل إلغاء الطائفية اليوم لتخويف الأحزاب المسيحية، لافتاً إلى أن الأطراف المسيحية، أي الأحزاب ومعها البطريركية المارونية، يتخوفون من إلغاء الطائفية لأن هذا يعني الذهاب إلى الديمقراطية العددية التي يرون أنها لصالح المسلمين، بحكم حجمهم العددي الأكبر.
ويلفت أيضاً إلى أن المسيحيين الذين لا يوالون أحزاب طوائفهم يتخوّفون بدورهم من إلغاء الطائفية، خوفاً من سيطرة الزعماء الذين يستأثرون حالياً بتمثيل السنّة والشيعة على الدولة.
تاريخياً، يثير مصطلح إلغاء الطائفية "الدستوري" حساسية المسيحيين لأنه يحرمهم من مكاسب تحققها لهم قاعدة المناصفة، ويردّون عليه بطرح تبنّي العلمانية، وهو طرح تكتيكي، لأن العلمنة تعني علمنة الأحوال الشخصية كقوانين الزواج والإرث مثلاً ومنع تطبيق الأحكام الدينية بشكل تام فيها، وهي "طرح لا يتحمّله المسلمون"، لأن رجال الدين المسلمين يرفضونه، يقول اللحام، مستدركاً: "ولا يقبل به حتى البطريرك الماروني وترفضه الكنيسة، لكنه مطلب يوضَع لتكبير الحَجَر، وبالتالي ضرب مطلب إلغاء الطائفية".
ويلخص الأستاذ الجامعي المسألة بقوله: تعرف الأحزاب الإسلامية أن الأحزاب المسيحية لن توافق على إلغاء الطائفية، وفي المقابل، تعرف الأحزاب المسيحية أن الأحزاب الإسلامية تعجز عن قبول العلمنة الشاملة.
الميثاقية لتعطيل الديمقراطية
رغم هذه السجالات، تبدي الأحزاب السياسية الإسلامية والمسيحية تمسكاً بفكرة "الميثاقية"، المستمدة من الفقرة "ي" من مقدمة الدستور اللبناني، التي تقول إن "لا شرعية لأي سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك".
ترى الأحزاب الأكثر تمثيلاً داخل طوائفها أنها هي الممثلة للطوائف، فيصير حزب الله وحركة أمل ممثلين حصريين للطائفة الشيعية، وتيار المستقبل وحلفاؤه ممثلين حصريين للطائفة السنّية، والتيار الوطني الحر والقوات اللبنانية بشكل رئيسي ممثلين حصريين للمسيحيين. وفق هذه القراءة، ومع إسقاط مقدمة الدستور على هذه المعادلة، تقول الحلو، يصير وكأنّ لا شرعية لأي حكومة لا تتمثل فيها هذه الأحزاب، بل ولا شرعية لأي قوانين يصدرها البرلمان، ما لم توافق عليها هذه الأحزاب.
هكذا، "انتفى مفهوم الموالاة والمعارضة في لبنان"، تضيف الحلو، و"لم يعد من قيمة لأي أكثرية نيابية تفرزها الانتخابات، وسقطت بالتالي الديمقراطية"، وذلك عبر "بدعة الديمقراطية التوافقية التي تلغي الديمقراطية بشكل تام، أو تعطلها، فالديمقراطية تقتضي وجود أكثرية تحكم وأقلية تعارض، وهذا المفهوم الأساسي للحكم الديمقراطي غير موجود في لبنان".
تكاتف الديموغرافيا والذكورية
ميرنا الصباغ، سيدة لبنانية من سكان مدينة صيدا، أولادها يُعتبرون، كوالدهم، لاجئين فلسطينيين بحسب القوانين اللبنانية، رغم أنهم وُلدوا وتربّوا في لبنان، ولأم لبنانية.
هم يعيشون في وطن أمهم كلاجئين، ويُحرمون من كامل حقوقهم المدنية والسياسية، كما يحرمون من حقهم بالاستقرار والعمل، فضلاً عن التعلم والاستشفاء وسائر التقديمات التي يحصل عليها اللبنانيون، على تردّيها.
تقول ميرنا التي تنشط في مجال المطالبة بحق المرأة في منح الجنسية لأسرتها إن الأخطر من الحرمان من الحقوق هو "الشعور الدائم بالظلم لديّ ولدى أولادي".
وتضيف لرصيف22: "يشعر أولادي بأزمة هوية، فهم يشعرون بأنهم لبنانيون، مرتبطون بهذا البلد برابط الأمومة، الذي هو أقوى من كل شيء، لكن هذا البلد يرفض الاعتراف بهم كمواطنين"، وتتابع: "أولادي انتماؤهم للبنان، وليس القانون ما يحدد هذا الانتماء، لكن على هذا القانون أن يتغير، كي يشعر أولادي أن هذا الوطن يحترمهم، ويعطيهم حقوقهم".
ترفض ميرنا كل الحجج الطائفية والديموغرافية: "أرفض حتى النقاش بجنسية أو دين زوجي، لأن حق منح الجنسية هو حقي، بغض النظر عن جنسية أو دين مَن أقرر الزواج منه".
وتشير إلى مفارقة هي أن "الأطراف التي تمنع إعطائي الجنسية لأولادي، بزعم أن معظم أزواج اللبنانيات الأجانب هم مسلمون، تطالب باستعادة أبناء أحفاد المغتربين الذين تركوا لبنان قبل عقود للجنسية اللبنانية، لأنهم يظنون أن أغلب هؤلاء من المسيحيين".
ولطالما كان حق المرأة اللبنانية في منح جنسيتها لأسرتها على رأس قائمة النشاط النسوي في لبنان، ولطالما اصطدم هذا المطلب بجدار صلب ترفعه الأحزاب المسيحية خصوصاً، تتشابك في أساساته هواجس الديموغرافيا مع الذكورية، إذ يبقى الرجل سيّد جنسيته ويحق له نقلها لزوجته الأجنبية وأولاده.
"أغلبية الداعمين لاغتصاب حق المرأة اللبنانية بمنح جنسيتها لأسرتها لديهم وهم بأن هذا الحق يراد منه التأثير على الديموغرافيا الحالية. وحينما يتم استثمار الوهم سياسياً، يصبح هاجساً"
في 21 آذار/ مارس 2018، أراد رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل "إهداء الأم اللبنانية هدية في عيدها"، فما كان منه إلا أن تقدّم بمشروع قرار إلى مجلس النواب يقضي بمنح المرأة اللبنانية حق إعطاء جنسيتها لأبنائها "مع استثناء المتزوجات من دول الجوار للبنان"، وهي بطبيعة الحال سوريا وفلسطين، حيث الأغلبية مسلمة.
لكن إحصاء الفلسطينيين في لبنان عام 2016 بيّن وجود 3754 أسرة فقط من أب فلسطيني وأم لبنانية. وبحسب بيانات حصلت عليها منظمة "هيومن رايتس ووتش" من الأمن العام اللبناني، عام 2018، حصل 21796 من الأطفال وأزواج اللبنانيات غير المواطنين على إقامة قانونية عام 2017، إذ يحتاج الأبناء والبنات والأزواج غير اللبنانيين أن يجددوا أوراق إقامتهم في لبنان دورياً. تبدو هذه الأرقام شديدة التواضع إذا ما قيست بعدد حاملي الجنسية اللبنانية الذي يقارب الـ5.5 ملايين نسمة.
تقول مديرة مكتب بيروت في "هيومن رايتس ووتش" لما فقيه لرصيف22 إن هذه الأرقام "التي نادراً ما نتمكن من الحصول عليها تثبت أن الحجج الديموغرافية التي يقدّمها المسؤولون السياسيون لعدم تغيير قانون الجنسية هي باطلة"، مشيرةً إلى أن السبب سياسي، لكن الديموغرافيا والتوازن الطائفي حجة.
وتضيف أن "الديموغرافيا هي عذر مرفوض أساساً، فحق المرأة بمنح جنسيتها هو حق مكفول في القوانين الدولية بغض النظر عن أي اعتبارات أخرى".
بدورها، تعتبر منسّقة حملة جنسيتي حق لي ولأسرتي، الناشطة القانونية كريمة شبو، أن ما يعرقل وصول المرأة اللبنانية إلى حقوقها الكاملة، ورفع التمييز تجاه مجموعات كبيرة تضم النساء والأطفال وحتى الرجال الأجانب المتزوجين من لبنانيات، "هي المنظومة السياسية الطائفية التي، ورغم خلافاتها، تجتمع على إعاقة تحقيق القوانين الهادفة إلى تمكين المرأة من حقها".
وتقول شبو لرصيف22 إن "العقلية الذكورية التي تنتقص من المرأة تستغل حرمانها من حقوقها لخلق معارك وهمية تحت شعار حماية الطائفة".
وتشرح أن حرمان المرأة اللبنانية من حق منح جنسيتها لأسرتها "يتم استناداً على قانون عام 1925 البالي والعفن"، والذي ينص على أن اللبناني هو مَن وُلد لأب لبناني فقط، "فتُمنع أسر اللبنانيات ليس فقط من حمل الجنسية، بل ومن الوصول إلى كافة الحقوق الأخرى التي هي حقوق أساسية وطبيعية"، ولهذا تداعيات "تؤرق حياة النساء والأُسَر يومياً، وتضاعف وطأة الأزمات التي يعاني منها أصلاً اللبنانيون، كما تنتهك التزامات لبنان الدولية تجاه حقوق الإنسان وحقوق النساء وحقوق الطفل".
يعيد المؤسس المشارك ورئيس المركز اللبناني لحقوق الإنسان CLDH، وديع الأسمر، الإشكالية إلى النظرة للمواطنة، التي تُعَرَّف "من خلال الارتباط الطائفي بالجماعة، ومن خلال رابط الدم الأبوي"، إذ أن "هناك منظومة قانونية مبنيّة على أساس أن لبنان ليس بلد مواطنة لجميع أبنائه، بل بلد طائفي زبائني وذكوري".
ينطلق الأسمر من حرمان المرأة من حقها في منح الجنسية لأسرتها، ليقول إن "أغلبية الداعمين لاغتصاب هذا الحق، لديهم وهم بأن هذا الحق يراد منه التأثير على الديموغرافيا الحالية"، ويتابع أنه "حينما يتم استثمار الوهم سياسياً، يصبح هاجساً".
الحقوق بند مفقود
الخوف الديموغرافي كثيراً ما يكون مجرد أداة في يد السلطة السياسية، لخدمة مصالحها الخاصة، يقول الأسمر لرصيف22، ضارباً المثل بتعطيل خفض سن الاقتراع إلى 18 عاماً، وإبقائه عند 21 عاماً، بحجة أن عدد المسلمين بين 18 و21 عاماً هو أعلى من عدد المسيحيين.
يشير إلى مدى بطلان هذه الحجة "لأن هؤلاء سيصوتون في الدورة الانتخابية التالية بعد أربع سنوات على كل حال". ويرى أن هذا "نموذجٌ لاستغلال السلطة السياسية الدينية للخوف الديموغرافي من أجل تثبيت سيطرتها على الحكم، فالطبقة السياسية لا تخشى الأثر الديموغرافي لخفض سن الاقتراع، بل ما تخشاه هو أن الشباب والشابات في هذا العمر يكون تصويتهم لا يزال حراً، فهم يكونون خارج سيطرة الزعيم، باعتبار أنهم خارج سوق العمل، ولا يحتاجون زعيماً ليوظفهم، ولا يمكن السيطرة عليهم من خلال نظام الزبائنية القائم في البلد".
ويُحكم الزعماء السياسيون قبضتهم من خلال قوانين أحوال شخصية طائفية، تهدف إلى تطييف المجتمع، وربطه بحبل الدين في كافة معاملاته، كالزواج والطلاق وحضانة الأطفال وقوانين الميراث، ما يجعل السلطة الحقيقية في يد رجال الدين الذين يتبعون بدورهم لرجال السياسة، بحسب الأسمر، الذي يرى أن الحقوق الوطنية وحقوق الإنسان هي حالياً بنود مفقودة على أجندة زعماء الطوائف، تعنيهم بقدر ما تخدم مصالحهم، حيث يصبح لبنان بلداً يتمحور حول صلاحيات الطوائف بدل أن يتمحور حول حقوق المواطنين.
تجاوز الدستور لتثبيت الزبائنية
تقدّمت الشابة ملاك شبشول عام 2017 لمباراة أجراها مجلس الخدمة المدنية، لملء شغور 30 وظيفة أمين صندوق في وزارة الاتصالات، ونجحت، إلا أن مرسوم تعيينها مع زملائها معطل منذ خمس سنوات بسبب غلبة عدد المسلمين الناجحين.
تقول الشابة البالغة من العمر 32 عاماً لرصيف22 إن هذه السنوات الخمس "كانت أصعب سنوات عمري"، حيث "كان علينا أن نركض من باب زعيم إلى باب زعيم آخر، لنطالب بحقنا أو بحفظه"، أي بألا يسقط مع مرور الزمن، و"الكل يقول لنا: انتظروا حتى نهاية عهد الرئيس الحالي".
ويرفض رئيس الجمهورية توقيع 13 مرسوماً لتعيين 938 ناجحاً عبر مباريات مجلس الخدمة المدنية، بسبب "غياب التوازن الطائفي"، رغم أن المادة 95 من الدستور تنص بوضوح على أن قاعدة التمثيل الطائفي لا تنطبق إلا على وظائف الفئة الأولى وما يعادلها.
أماني الحجيري (31 عاماً) هي ضحية أخرى. نجحت في مباراة أجراها مجلس الخدمة المدنية لوظيفة في وزارة المالية، وشعرت بالحماس إلا أن "تعطيل المراسيم لأسباب طائفية أصابني بالإحباط، فهذا التعطيل هو فساد"، تقول لرصيف22.
يكشف رئيس قسم التحرير والدراسات في المرصد اللبناني لحقوق العمال والموظفين في لبنان أسعد سمور لرصيف22 أنه في مقابل الآلية القانونية للتوظيف في إدارات الدولة، عبر مباريات يجريها مجلس الخدمة المدنية، أوجد الزعماء في لبنان نظام توظيف بصيغة المياومة والتعاقد على الساعة، و"بات كل وزير جديد يوظف مجموعة كبيرة من المياومين، وبات لكل طائفة مجموعة من الموظفين المياومين داخل كل وزارة، وهو وضع غير قانوني يعزز الزبائنية ويهدر حقوق هؤلاء المياومين ويربط عملهم بالولاء السياسي ويحرمهم من مكتسباتهم".
تقاسم الجغرافيا
إلى جانب تقاسم الأحزاب الطائفية لمؤسسات الدولة، "هناك صراعات تدور على الأرض لتقاسم الجغرافيا، وتعزيز إمساكها في نقاطها الإستراتيجية، انطلاقاً من عقلية أمنية عسكرية طائفية تتحضر باستمرار للحرب الأهلية المقبلة"، بحسب ما تقول الباحثة اللبنانية هبة أبو عكر لرصيف22.
ترى مؤلفة كتاب "في انتظار الحرب المقبلة/ تخطيط بيروت وضواحيها"، أن الأحزاب السياسية المسيطرة تسعى باستمرار إلى توسيع مساحة نفوذها في العاصمة وأطرافها من خلال التخطيط العمراني، وهي "لا تتعاطى مع أطراف بيروت على أنها مجرد مساحات للنمو الحضري، بل على أنها أيضاً حدود للحروب المستقبلية".
تحلل أبو عكر في كتابها التخوم الجنوبية الشرقية للعاصمة بيروت، وتركز على منطقتيْ "حي ماضي" و"صحراء الشويفات". في حي ماضي، وهي منطقة تُعَدّ ضمن حدود الضاحية الجنوبية للعاصمة، وسكانها اليوم شيعة، اشترت الكنيسة المارونية أراضي وعقارات من أصحابها المسيحيين، بعد نهاية الحرب، للحؤول دون بيعها للشيعة، دون أن تخصص أموالاً لإعادة ترميمها. "الهدف هنا كان واضحاً: فرض سدّ في وجه تمدد الشيعة، وليس تطوير المنطقة بعد 15 عاماً من الحرب الأهلية"، بحسب أبو عكر.
أما في صحراء الشويفات، وهي منطقة تسكنها اليوم أغلبية شيعية أيضاً، وكانت في سبعينيات القرن الماضي سهل زيتون كبير يعود لأهالي بلدة الشويفات الدروز، فتشتد المنافسة بين الأحزاب لتقاسمها، ورغم الصعوبات البيروقراطية التي تعترض إعادة تصنيف الأراضي في لبنان، إلا أن أراضي المنطقة عُدّل تصنيفها، بين سكنية وصناعية وزراعية، ثماني مرات خلال 12 عاماً، بين 1996 و2008.
تقول أبو عكر إنه "بعد الحرب الأهلية، رأى حزب الله في صحراء الشويفات امتداداً للضاحية الجنوبية، معقل الشيعة في بيروت الكبرى، لذا دفع نحو تصنيف الأراضي على أنها سكنية، وإقامة مشاريع سكنية لاستيعاب الكثافة السكانية التي تعاني منها الضاحية من جهة، وتوسيع حدودها بوصفها معقله الأهم. وفي المقابل، كان الحزب التقدمي الاشتراكي يضغط لإبقاء المنطقة صناعية وزراعية، كسد في وجه التوسع العمراني الشيعي داخل منطقة كانت مملوكة تاريخياً للدروز".
هذا الترسيم الطائفي للحدود بين المناطق، يقابله ترسيم غير منظور، في بيروت، حيث لا نقل عاماً مشتركاً، وإذا أردت استقلال سيارة أجرة من أحد مناطقها فإنها ستنقلك إلى نقطة ما من نقاط خط التماس السابق الذي كان يقسّم بيروت بين شرقية للمسيحيين وغربية للمسلمين خلال الحرب الأهلية، كالطيونة أو المتحف أو وسط البلد، لتستقل من هناك سيارة أجرة ثانية تنقلك إلى النصف الآخر من المدينة.
هذا الترسيم المذكور يتحدث عنه أستاذ الإعلام والاتصالات في الجامعة الدولية في بيروت حسن شوباصي ويرى فيه نموذجاً يُظهر كيف أن خط التماس "لا يزال موجوداً بين المناطق، وإنْ كنا لا نراه، فحتى سائق الأجرة، لا يتوقع أن عليه نقل الأشخاص من الشرقية إلى الغربية، بل يقف عند خط التماس، معتبراً أن مهمته تنتهي هنا".
يقول شوباصي لرصيف22 إنه "بعد عام 1992 توحدت بيروت وأزيلت خطوط التماس المادية، لكنها ما زالت موجودة في الذاكرة الجماعية لجميع سكانها وفي خلفية وعيهم"، وهذا الوضع يعود برأيه إلى أن "الوضع السياسي والاجتماعي لا يزال نفسه، والطائفية لا تزال قائمة، والتمييز الطبقي أكثر حدة من أي وقت مضى".
حاول شوباصي تجسيد هذا الواقع من خلال إطلاقه خريطة خطوط ومحطات شبكة مترو أنفاق متخيّلة لبيروت، خطوطها لا تلتقي، وتقف عند خطوط تماس الحرب الأهلية، ويلزمك تغيير المحطة، إذا أردت الانتقال من بيروت الشرقية، منطقة سيطرة المسيحيين خلال الحرب الأهلية، وتركزهم الديموغرافي اليوم بعد انتهائها، إلى بيروت الغربية، منطقة سيطرة المسلمين خلال الحرب الأهلية، وتركزهم الديموغرافي اليوم بعد انتهائها.
يشرح شوباصي أنه أراد من خلال هذه الخريطة أن ينقل الواقع المُعاش على الأرض، ليقول إن خطوط التنقل بين مناطق بيروت غير متصلة ببعضها، وإن الانقسامات الجغرافية المذهبية التي أفرزتها الحرب، لم يتم تجاوزها بعد.
برأيه إهمال إنشاء شبكة نقل عام تغطّي لبنان "مقصود وغير بريء، وإلا لماذا تم تنفيذ الكثير من المشاريع الاقتصادية الضخمة، بعشرات مليارات الدولارات التي تمت استدانتها، ولم يُنفَّذ مشروع واحد يساعد على جمع الناس وتذويب الحدود الديموغرافية؟"، مستنتجاً أن "هناك سياسة ممنهجة لعدم جمع الناس، لأن بقاء وسيطرة الأحزاب السياسية الحاكمة يقتضي أن يبقى الناس خائفين من بعضهم البعض".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmad Tanany -
منذ يومتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 3 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ 6 أيامأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه