هذا التقرير أُنتج ضمن مشروع "المدافعات عن حقوق المرأة"، بدعم من منظمة Civil Rights Defenders.
تضطر سلمى (51 عاماً) وهو اسم مستعار لأم وربة منزل في عمّان أن تمزق الملابس القديمة والخرق، وتقسمها إلى أجزاء لاستخدامها بديلاً عن الفوط الصحية، حيث علمت بناتها اليافعات الثلاث كيفية استخدامها، بسبب عجز الأب الذي يعمل في أحد المطاعم عن تحمل تكاليف الاحتياجات الأنثوية الأساسية لبناته.
لم تعد محاولات سلمى مجدية في إقناع بناتها أن تلك البدائل أفضل لهن من الفوط الصحية، بعد أن تغيبت ابنتها الوسطى، أسبوعاً كاملاً عن المدرسة؛ لتعرضها للتنمر في أيام دورتها الشهرية، بسبب تلطخ ملابسها، لذلك رضخت سلمى لمطالب بناتها بشراء الفوط الصحية، شريطة أن يتم استخدامها حين الخروج من المنزل فقط.
فقر الدورة الشهرية
تقول آمنة لرصيف22 وهو اسم مستعار لمعلمة في إحدى المدارس الحكومية في محافظة معان جنوب الأردن: "كنا نراقب الحمامات فنجد شرائطاً مهترئة، أو ملابساً ملطخة في سلة المهملات... وفي مرة اشتكت الطالبات والمعلمات من رائحة إحدى الفتيات في الفصل، ولما أخدتها المرشدة إلى مكتبها لتدردش معها عن النظافة الشخصية، قالت لها الفتاة إنها تستخدم نفس الفوطة الصحية منذ ثلاثة أيام"... (ما عندي غيرها، هاي كانت آخر حبة عندي يا مس)".
تضطر سلمى أن تمزق الملابس القديمة والخرق، وتقسمها إلى أجزاء لاستخدامها بديلاً عن الفوط الصحية، حيث علّمت بناتها كيفية استخدامها، بسبب عجز الأب عن تحمل تكاليف الاحتياجات الأنثوية الأساسية لبناته
لاحظت مديرة المدرسة والمعلمات تفاقم المشكلة، والتي تعزيها آمنة لقلة الوعي والفقر، فقمن بتأمين الفوط الصحية للطالبات على نفقتهن الخاصة، لكن وعلى الرغم من توفر مستلزمات الدورة الشهرية في المقصف مجاناً، إلا أن العديد من الطالبات يخجلن من الحصول عليها.
تشترك جميع الإناث حول العالم بالدورة الشهرية، حيث تقضي النساء في المتوسط أربعين عاماً من حياتهن وهن يحضن، إلا أن ما يقارب 500 مليون امرأة وفتاة منهن 107 مليون عربية يعانين من فقر الدروة الشهرية، الأمر الذي يجعلها تجربة مختلفة لكل أنثى باختلاف العوامل الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئة.
بعد جائحة كورونا، تم تسليط الضوء بشكل متزايد على أهمية التحديات المتعلقة بقضية فقر الدورة الشهرية التي تواجهها الإناث على نطاق عالمي، لما لها من عواقب وخيمة على تعليمهن وصحتهن وطبعاً كرامتهن، والأردن ليس استثناءً بأي حال من الأحوال، حيث تبلغ نسبة الفقر فيه 14.4% بحسب أرقام قديمة، إذ لم يتم تجديد رقم خط الفقر منذ سنوات طويلة.
تقول المديرة التنفيذية لـ"تقاطعات - مجموعة نسوية أردنية" بنان أبو زيد: "ما زال مفهوم فقر الدورة الشهرية حديثاً، لذا لا توجد دراسات محلية وإحصائيات وبيانات حديثة، لكننا قمنا بإصدار ورقة سياسات بالتعاون مع صندوق الأمم المتحدة للسكان، بعنوان (فقر الدورة الشهرية: الوصول إلى المنتجات والمعلومات والخدمات الصحية في الاردن)".
وتضيف في تصريحها لرصيف22: "نأمل أن تتفاعل مؤسسات الدولة والمجتمع المحلي معنا لعمل دراسات كميّة موسعة، ولنتمكن من تحديد طبيعة هذه الإشكالية وأبعادها وحجمها في الأردن".
فقر الدورة الشهرية مصطلح يشير إلى عدم القدرة على الحصول على المعلومات والمنتجات والخدمات والمرافق الخاصة بالنظافة الشخصية وطرق إدارة النفايات خلال فترة الحيض.
تعاني العديد من اليافعات الأردنيات خلال حياتهن من عوز أو فقر الدورة الشهرية، هو مصطلح يشير إلى عدم قدرتهن على الوصول أو الحصول على المعلومات والمنتجات الصحية الآمنة والمناسبة، والخدمات الصحية المرتبطة بفترة الدورة الشهرية، والمرافق الخاصة بالنظافة الشخصية، والتثقيف الصحي، وطرق إدارة النفايات.
يتراوح سعر المنتجات الصحية للدورة الشهرية في الأردن من دينار إلى دينارين أي (من 1.4 إلى 3 دولارات) للعلبة الواحدة، وتحتاج الأنثى في المتوسط من علبة ونصف إلى علبتين شهرياً، لكن الحصول على الفوط الصحية وغيرها من المستلزمات قد يشكل عبئاً مادياً على الأسر التي تقع دون خط الفقر، وخط الفقر المدقع، تحديداً عند وجود أكثر من فتاة في سن البلوغ في نفس الأسرة، لذا تلجأ بعض النساء والفتيات أحياناً إلى بدائل غير صحية بدائية، أو إلى منتجات ذات جودة أقل بأسعار منخفضة.
مخاطر صحية ونفسية
مشكلة الخيارات البديلة ليست في نقص الرفاهية، بل في كونها في معظم الأوقات غير صحية وغير آمنة، ولها الكثير من التأثيرات السلبية على الصحة الجنسية والإنجابية للنساء والمراهقات، إذ قد تعرضهن لخطر الإصابة بعدوى الجهاز التناسلي والتهاب المسالك البولية ما لم يتم أخذ الرعاية المناسبة بعين الاعتبار، وهي مشاكل قد تؤدي لاحقاً إلى أمراض مثل التهاب الحوض أو العقم بحسب الرأي الطبي.
من جهتها تؤكد الأخصائية الاجتماعية في اتحاد المرأة الأردنية، رشا ضمرة، أن "الضرر لا يتوقف على الانعكاسات الجسدية للفتيات بل قد يؤدي إلى انعكاسات نفسية سلبية".
فوفقاً لدراسة أجرتها "لازوردي" بالتعاون مع "إنجاز" على 346 من النساء والفتيات البالغات في محافظة المفرق الواقعة في شمال شرق الأردن، عبرت 91% من العينة عن مرورهن بمشاعر سلبية في فترة الدورة الشهرية تتفاوت بين الغضب والنفور والاشمئزاز.
تضيف ضمرة لرصيف22: "هذه المخاطر الصحية والنفسية لها آثار وخيمة على التحصيل العلمي للفتيات، لكن أحداً لا يهتم لمعاناة النساء، فعادةً ما يتم تهميش حاجات المرأة وتسخيفها، بالذات في خضم مواجهة القضايا المعيشية، فيصبح الحديث عن الفوط الصحية أمام من يبحث عن لقمة العيش شكلاً من أشكال الرفاهية".
وصمة عار ونجاسة
تقول مها (16 عاماً) لرصيف22 وهو اسم مستعار لطالبة في المرحلة الثانوية في إحدى مدارس مدينة الزرقاء التي تقع شمال شرق العاصمة عمّان: "لا أنسى كيف وصفت لنا المعلمة، الحيض في الصف السادس، نجاسة... الحيض نجاسة وعلى المرأة التطهّر بعد أن تنتهي منه، علمتنا خطوات الغُسل، لم أعد أذكرها، ولكن أذكر جيداً أنها قالت لنا إنه لا يجوز للمرأة الاستحمام خلال حيضها".
تعلق ضمرة على الحديث السابق: "بقدر ما هي عملية بيولوجية طبيعية، فإن الدورة الشهرية موصومة بالعار في جميع أنحاء العالم، تتحرج الفتيات من دورتهن الشهرية لارتباطها بالنجاسة، فيشعرن بعقدة الذني وبالخجل والاشمئزاز من أنفسهن، لذا يظل الحديث عنها من المحرمات، وكأنهن بسكوتهن يُبعدن تهمة العار عن أنفسهن. فتتحرج الفتيات من التصريح شهرياً أمام عائلاتهن عن مرورهن بالدورة الشهرية، ويتحرجن من طلب شراء مستلزماتها، كما يتحرجن من شراء الفوط من المتاجر بأنفسهن".
مها (16 عاماً): "لن أنسى كيف وصفت لنا المعلمة الحيض في الصف السادس، نجاسة... الحيض نجاسة وعلى المرأة التطهّر بعد أن تنتهي منه. علمتنا المعلمة خطوات الغُسل، وأذكر جيداً قولها بإنه لا يجوز للمرأة الاستحمام خلال حيضها"
هذا الخوف من التحدث بالأمر شكّل عائقاً أمام اليافعات من الوصول إلى المعلومات العلمية الدقيقة، وحرمهن من الحصول على المنتجات والخدمات الصحية المناسبة وذات الجودة، ومن فرصة التعرف على أجسادهن وتطوير عاداتهن الصحية، فقد أجابــت 50%مــن المشــاركات في ورقة "تقاطعات" بأن الأمهات لا يناقشن هـذه المواضيــع مع بناتهن لأنهــن يشــعرن بالخجــل بسبب المحظورات والخرافات والمعتقدات المغلوطة المتوارثة دون تصويب، فتتحول مشكلة وهمية إلى حقيقة ثابتة في أذهانهن، وبحسب دراسة "لازوردي" فإن "58.1% من عينة الدراسة لم يحصلن على أية معلومات عن الدورة الشهرية من مصدر موثوق".
تقول مها: "أشعر أنني أُعاقَب في فترتي الشهرية، استخدمتُ كل ما يمكن استخدامه؛ ألبسة قديمة، ورق تواليت، محارم، وأحياناً أتغيب عن المدرسة. في الحقيقة أفضّل التغيب على أن أقضي اليوم مذعورة وأنا أتلفت خلفي، وأسأل صديقاتي إذا في شي على مريولي من ورا، هنالك عدم راحة وقلة ثقة تلازمانني طوال اليوم، لذلك أفضل الغياب".
وتختم حديثها معنا: "أنا البنت الوحيدة في البيت، فأمي مطلقة، لذلك أخجل أن أطلب من أبي وأخوتي مستلزمات الدورة الشهرية".
معاناة كبيرة على عمر صغير
لكن هناك معاناة أخرى تواجهها الفتيات في عمر صغير وفي بدايات تعرفهن على الدورة الشهرية وعلى أنفسهن كبالغات بحسب ورقة سياسات التي أصدرتها مجموعة "تقاطعات"، وهي عـدم نظافـة دورات الميـاه العامة نتيجـة الاكتظـاظ وكثـرة الاسـتخدام، وهي حاجة أساسية وضرورية لتتمكن الفتيات من إدارة فترة الدورة الشهرية، إذ يمكن للمرافق غير الملائمة أن تؤثر على تجربة الفتيات في المدرسة، مما يتسبب في تغيبهن عن الدوام.
اللافت أن نســبة المشــاركات اللواتــي عبرن عن عدم تفضيلهن اســتخدام دورات الميــاه العامــة أو التي في المدارس كانت 100%.
دراسة: نســبة المشــاركات اللواتــي عبّرن عن عدم تفضيلهن اســتخدام دورات الميــاه العامــة أو التي في المدارس كانت 100%.
مجمل ما سبق يعني أن الدورة الشهرية تشكل عقبة كبيرة أمام الطالبات في المدارس الحكومية، سيما بنات العائلات ذات الدخل المحدود.
الحلول غير صعبة
تقول الباحثة في فريق "تقاطعات" ريم الخشمان: "الدورة الشهرية ليست خياراً بل واقعاً بيولوجياً، والقدرة على الوصول إلى المنتجات والمعلومات والخدمات الصحية في هذه الفترة هي جزء من حقوق الإنسان وتحديداً المرأة؛ جزء لا يمكن انتقاصه من الحق في العيش بكرامة، والحق في الصحة، والحق في الاستقلال الجسدي. يبدأ الحل حين تعتبر الدولة أن حاجات النساء ولا سيما مستلزمات الدورة الشهرية أولوية لا تقبل التفاوض، لا رفاهية وكماليات أنثوية".
من جهتها تقول أبو زيد: "لا يمكننا أن نطرح حلولاً قبل أن نعرف حجم المشكلة، وفي أي سياق هي موجودة في الأردن، ولكن بالتأكيد الحل ليس بيد جهة واحدة، لا بد من أن يكون هناك تكاتف جهود من الدولة والمجتمع ومؤسسات المجتمع المحلي والمنظمات الدولية."
أما ضمرة فترى أن علينا كسر المحرمات وتناول قضية فقر الدورة الشهرية بشكل علني لنتمكن من رفع التوعية، كخطوة أولى، دون الخوف من أن يتم إسكاتنا بحجج مثل العيب ووصمة العار والموروثات المغلوطة، أيضاً لا بد من إضفاء الطابع المؤسساتي وتضمين الصحة الإنجابية والجنسية في المناهج المدرسية بشكل علمي ولكلا الجنسين.
على الدولة إلغاء الضرائب على المنتجات الصحية للدورة الشهرية، ودعمها كغيرها من السلع الأساسية، وتوفيرها مجاناً لطالبات المدارس
بينما ترى الخشمان أن من واجب الدولة أن تجد حلاً مستداماً، تقول: "لا يمكن لمنظمات المجتمع المدني أن تستمر بتوزيع الفوط الصحية، لا يمكننا أن نحل محل الدولة، بداية على الدولة إلغاء الضرائب على المنتجات الصحية للدورة الشهرية، ودعمها كغيرها من السلع الأساسية، وتوفيرها مجاناً لطالبات المدارس."
وتختم: "نحن نعلم أن فقر الدورة الشهرية مشكلة معقدة، لا يتعلق الأمر ببساطة توفير المستلزمات من دورات مياه أو منتجات، بل أيضاً بتغيير الأعراف والعادات المجتمعية، إنها رحلة طويلة، والطريقة الوحيدة لتحقيقها هي من خلال سلسلة من الخطوات الصغيرة".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...