- تصوير: محمود الخوَّاص
مع تفاقم الأزمة الاقتصادية التي تعانيها مصر، والتي بدأت نذرها في نوفمبر/ تشرين الثاني من العام الماضي، ارتفعت الأصوات المطالبة بالتوسع في الاعتماد على التصنيع والتصدير أملاً في تقليل عجز الميزان التجاري المصري، والذي يميل إلى كفة الواردات التي تستنزف ما يفوق حصيلة مصر الحالية من العملات الأجنبية، في وقت تتواضع فيه الصادرات وتكاد تقتصر على المشتقات البترولية.
ولما كانت قيود الاستيراد التي فرضها البنك المركزي المصري نتيجة شُح العملات الأجنبية لا تزال حاضرة؛ تستمر فكرة التصنيع والتوسع فيه بغرض كفاية الطلب المحلي أو التصدير فكرة صعبة التنفيذ، لكن رغم ذلك، فإن الدولة ومعها المستثمرين المصريين وجدوا أنفسهم مضطرين للبحث في دفاتر الأفكار المنسية لاستثمار الموارد المحلية، وعادت فكرة إنتاج السكر الصحي من التمور التي تتفوق مصر في إنتاجها، لغرض التصدير لتكون ضمن الأفكار المطروحة على طاولة الاستثمار.
كيف استطاعت تجربة شاركت فيها أكاديمية البحث العلمي المصرية في تحويل بلح مستخدم في علف الماشية إلى مصدر للعملة الصعبة؟
في 8 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، أعلن تميم الضوي رئيس المجلس التصديري للصناعات الغذائية (كيان حكومي - مدني استثماري) عن بدء الترتيبات لتصنيع السكر من البلح بغرض التصدير.
وأضاف مدير المجلس التصديري في تصريحات صحافية، أن الشركات المصرية العاملة في الصناعات الغذائية، تتجه لتصنيع "بودر السكر" المستخلص من التمور المصرية، كبديل للسكر التقليدي، بهدف تصديره للخارج، والمنافسة مع الشركات العالمية المصنعة لهذا النوع من السكر.
وبحسب تصريحات سابقة للدكتور أمجد القاضي، مدير مركز تكنولوجيا الصناعات الغذائية بوزارة التجارة الصناعة، فإن مصر "من أكبر الدول المنتجة للتمور في العالم"، و28% من إجمالي إنتاج التمور من أصناف بذرية مجهولة "غير مصنفة في أطلس التمور المصرية، معظمها في محافظة أسوان". مبيناً أن معظم هذه الأصناف من التمور تكون جافة وليس لها قيمة تسويقية، درجة أن بعض المزارعين يتركوها بدون حصاد أو يجعلوها علف للمواشي، هذه التمور يمكن الاستفادة منها في تصنيع بودرة السكر بغرض التصدير.
إنتاج غزير
تتصدر مصر رأس قائمة الدول المنتجة للتمور على مستوى العالم، وتليها السعودية التي تسعى لتعظيم إنتاجها، والتي تتفوق على مصر في التصنيع القائم على المنتجات الزراعية.
ويبلغ إنتاج مصر من البلح والتمر نحو 1.7 مليون طن في العام، ما يعادل نحو 18% من الإنتاج العالمي. ويتوزع الإنتاج بين سيوة، والواحات البحرية، والوادي الجديد، وأسوان.
يعتمد المشروع على استغلال 28 صنفاً من التمور المجهولة ذات القيمة الاقتصادية المحدودة، وتحويلها إلى مصدر لتحقيق الاكتفاء الذاتي من السكر المستخدم في التصنيع داخل مصر، إلى جانب تصدير منتجات السكر الصحي، ورفع الدخل من تصدير منتجات البلح إلى 100 مليون دولار
ويضم أطلس التمور المصرية نحو 82 صنفاً من التمور، بخلاف "التمور المجهولة" التي تتواجد في أسوان والوادي الجديد وسيوة ومناطق أخرى. ويوجد منها أصناف عالية الجودة مثل "ملكاوي" و"تلمودة".
يقول الدكتور أمجد القاضي، مدير مركز تكنولوجيا الصناعات الغذائية التابع لوزارة الزراعة، أن المركز يتجه إلى تسجيل تلك الأصناف والتوسع في إنتاجها، وتوعية المزارعين للتوجه نحو زراعة هذه الأصناف على صورة نصف جافة وليس جافة، حتى يمكن استخدامها في المشروعات التصنيعية الجديدة التي تستهدف التصدير.
وأصدرت منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة "الفاو"، أطلس للنخيل في مصر في العام 2015، بهدف الاستفادة منه في تطوير زراعة وإنتاج التمور، باعتبارها ثروة قومية اقتصادية واجتماعية وصحية يجب الحفاظ عليها وتنميتها، خاصة أنها تدر دخلاً يزيد على 10 مليارات جنيه سنوياً.
سكر البلح
يوضح القاضي لرصيف22، إنه تم انتقاء عدة أصناف من التمور ذات القيمة التسويقية المنخفضة، وإجراء عدة أبحاث بالتعاون مع أكاديمية البحث العلمي لتمويل إنتاج مسحوق التمور المجففة من هذه الأصناف المجهولة. كما تم إنشاء خط تجريبي للمشروع في مقر معهد بحوث تكنولوجيا الأغذية.
يتضمن خط التصنيع تنظيف جاف وتجفيف ونزع نواة وطحن وتنعيم، وكذلك تم تجريب المنتج "المسحوق" أيضاً في خطوط إنتاج عدد من مصانع البسكويت والحلوى.
ويوضح القاضي في حديثه لرصيف22، أن بديل السكر المستخلص من البلح سيتم استخدامه كمنتج وسيط في صناعات أخرى كبديل للسكر التقليدي، ما يخفض من فاتورة استيراد السكر لأغراض التصنيع ويعظم من دخل مصر من التصدير حال اكتمال المشروع.
تكلفة قليلة ومكسب كبير
أكد القاضي أن تكلفة المشروع لن تمثل عبئاً كبيراً على الدولة ولا على المستثمرين الراغبين في خوض الاستثمار في هذه الفكرة: "تكلفة إنتاج السكر من طن البلح بلغت 6 آلاف جنيه (244 دولاراً) شاملة تكلفة التحميل والشحن من أسوان إلى القاهرة".
بحسب رئيس مركز بحوث تكنولوجيا الزراعة، يتم استخلاص نحو 60% من الطن، أي ما يعادل 600 كيلو من مسحوق البلح "السكر" لكل طن، مشيراً إلى أنه إذا تم إنشاء المصانع في أسوان تنخفض التكلفة إلى النصف لأن تكلفة التحميل والشحن إلى القاهرة مرتفعة، موضحاً أن "هناك تحدي لاستخراج السكر من البلح بسعر أقل من السكر التقليدي".
وأوضح، إنه جاري البحث بالتعاون مع عدة جهات للاستثمار في إنشاء مصانع لإنتاج بديل السكر من التمر، يكون مقره في أسوان لتوافر المادة الخام "التمور المجهولة عالية الجودة" وكذلك توافر الأيدي العاملة، وظروف الأجواء واستغلال وسطوع الشمس لفترات طويلة بشكل يضمن الإنتاج عبر الطاقة النظيفة.
موضحاً أنه يجرى التخطيط لإنشاء أكثر من مصنع للتمور في مناطق متفرقة بأسوان تضم خطوط إنتاج خاصة بالتمور المجففة، بحيث يصبح في كل منطقة من المناطق المتباعدة التي توجد بها هذه الأصناف مصنع خاص لإنتاج مسحوق التمور. ومن المتوقع أن يتم إنشاء أول مصنع في أسوان خلال عام.
تكلفة تحويل طن من البلح إلى 600 ألف كيلوغرام من السكر، لا تتخطى 6 آلاف جنيه مصري (244 دولار) تنخفض إلى النصف إذا أقيمت المصانع في أسوان والوادي الجديد وغيرها من مناطق زراعة التمور المجهولة
من المنتظر أن يوفر هذا المشروع قدراً كبيراً من احتياجات مصر من السكر المخصص للتصنيع، والذي يدخل في المنتجات الغذائية. وتستورد مصر عادة بين 800 ألف إلى مليون طن من السكر سنوياً، لكفاية الاستهلاك المحلي للأفراد والمنشآت الاستثمارية "التصنيع"، ويتوقع من مشروع سكر التمور المجهولة أن يحقق كفاية حاجة التصنيع من السكر لخفض الفاتورة الكلية لاستيراد السكر أو توقفها نهائياً، إضافة إلى تحقيق أرباح بالعملة الصعبة من التصدير.
يضاف إلى هذا قدرة هذا المشروع على توفير فرص عمل للشباب، بعد إنشاء المصانع، وزيادة دخل المزارعين، خاصة أصحاب المزارع التي كانت غير مستغلة، ورفع القيمة المضافة لهذه الأصناف غير المستغلة استثمارياً.
وتنتج مصر نحو 25% من التمور ذات الأصناف المجهولة من إجمالي إنتاج التمور الذي يبلغ 1.7 مليون طن سنويا، بما يعادل 400 ألف طن سنوياً.
احتياجات مصر من السكر
يتوقع تقرير صادر عن وزارة الزراعة الأمريكية أن يرتفع إنتاج مصر من السكر بنسبة 2.5% ليبلغ 3.2 مليون طن خلال الموسم الجديد 2022/ 2023.
وبحسب التقرير فإن نحو 1.8 مليون طن ستأتي من بنجر السكر، فيما سيبلغ إنتاج قصب السكر نحو 1.4 مليون طن، لترتفع الكميات المنتجة مقارنة بالموسم الماضي.
وتزرع مصر بنجر السكر في شهري أغسطس/ آب، وسبتمبر/ أيلول، وتحصده في شهري مارس/ آذار وأبريل/ نيسان، فيما يزرع قصب السكر في فصلي الربيع والخريف، وتستغرق زراعته 12 شهراً قبل الحصاد.
100 مليون دولار
يوضح تميم الضوي نائب المدير التنفيذي للمجلس التصديري للصناعات الغذائية لرصيف22، أن حجم الصادرات من منتجات التمور بلغ 50 مليون دولار خلال العام الحالي (2022)، وأن 90% من صادرات التمور موزعة على 3 دول المغرب وإندونيسيا وماليزيا.
مضيفا أنه من المستهدف الوصول بصادرات مصر من مصنعات التمور إلى ١٠٠ مليون دولار بنهاية عام 2023، وذلك من خلال العمل على التوسع في مصنعات التمور بالتنسيق مع جائزة خليفة الدولية لنخيل التمر، لتحديد الصناعات القائمة على التمور وتكون من مدخلات إنتاج قائمة من السوق المحلي ، وفقا لطبيعة الإنتاج والخامات، ومنها سكر التمور.
فيما يتوقع القاضي، أن يحقق هذا المنتج رواجاً واسعاً في دول أوروبا، خاصة أنه سيتم تسجيل التمور في الأمم المتحدة كمنتج صحي" healthy food"، موضحا أن الدول المتقدمة تبحث عن المنتجات الغذائية الصحية، وهناك إقبال شديد عليها، كما أن السوق العالمي للتمور يتزايد بنسبة 10% سنوياً.
مشيراً إلى أن صناعة إنتاج السكر من التمور ليست جديدة، وهي متواجدة في دول الخليج والجزائر، كما أنها متواجدة في مصر بصورة مصغرة في صورة صناعة يدوية، والمشروع القائم يعتمد على ميكنتها والتوسع الاستثماري فيها.
وفي عام 2015، أصدرت الحكومة استراتيجية تطوير قطاع النخيل والتمور، تضمنت 6 محاور للاستراتيجية الجديدة، تتمثل في "محور إنتاج وجودة التمور، والتسويق المحلى للتمور، وتصنيع وتعبئة التمور، وتصدير التمور، ومحور الاستفادة من مخلفات التمور، والبحوث والتطوير"، بحسب ما يذكره القاضي الذي أكد أن الحكومة "حريصة على تأهيل المصانع القائمة وإنشاء المصانع الحديثة التي تعمل على تعظيم القيمة المضافة والاستفادة بفائض التمور"، حيث يصل عدد المنشآت الصناعية العاملة في مجال تصنيع وتعبئة التمور كنشاط رئيسي نحو 140 مصنعاً قائماً، كما يصل عدد مصدري التمور نحو 24 مُصدراً.
قال الدكتور نادر نور الدين، أستاذ بكلية الزراعة جامعة القاهرة، إن البلح مادة سكرية، ويعتبر غذاء متكامل، ويدخل في صناعة الوقود الحيوي "بديل للبنزين". و"لكن استخدامه كبديل للسكر يتوقف على نوعية التمر وسعره"، موضحاً أن استخلاص السكر من التمر يتوقف على الجدوى الاقتصادية ونسبة السكر في البلح، ضاربا المثل باستخراج الذهب في مصر "عندنا تواجد للدهب في أماكن متعددة، لكن استخلاصه غير اقتصادي، وكذلك هناك أماكن لاستخلاص الفوسفات ولكن استخلاصها غير اقتصادي".
وفيما يتعلق بصناعة السكر التقليدي، أكد نورالدين، إن القصب هو المصدر الرئيسي لصناعة السكر منذ العصور القديمة، كما أن استخلاص السكر من القصب بشكل مميكن عبر التصنيع المؤسسي انتشرت في مصر في عصر عبود باشا الذي أدخله في مصر عام 1930، أي منذ ما يقرب من 100 عام.
ويليه البنجر الذي يعد المصدر الثاني لإنتاج السكر، وهو محصول المناطق الباردة ودخلت زراعته في مصر خلال فترة الثمانينيات والتسعينيات، ولا يتعدى عمره في مصر 40 عاماً، ويتم زراعته في الوجه البحري، وينتج الثلثين من احتياجات البلاد.
وحققت مصر ، اكتفاء ذاتي من السكر بنسبة 90% خلال العام الجاري، بعدما كان إنتاجنا من السكر يغطي 67 % فقط من الاحتياج قبل عامين، حيث تنتج مصر مليون طن من السكر في حين أنها تحتل إلى مليون و200 ألف طن.
وبحسب نور الدين، تتبع الدولة المصرية سياسة التوسع في زراعة مساحات إضافية من محصول بنجر السكر، على حساب القصب الذي يستهلك كميات كبيرة من المياه، بلغت 12 ألف متر مكعب ميه للفدان في السنة، بينما يستهلك البنجر نحو ثلث هذا الكم.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين