المتجول في الأحياء الشعبية في القامشلي، خاصةً الفقيرة منها، يتفاجأ بنوعية "الأشْتِيَة" الغريبة والمدهشة؛ فهم يبدعون في اختراع أشياء جديدة لمواجهة موجات البرد المتتالية في منازلهم ومدينتهم، خاصةً في ظل الأزمة الاقتصادية الحادة، والكميات القليلة من الوقود الممنوح لهم "بالسعر المدعوم".
غطت عائلة أبو خالد (57 عاماً)، المقيم في ضواحي القامشلي، نوافذها من الخارج بمواد عازلة لمنع دخول الهواء والمطر عبر الزجاج المتضرر، الذي تم ترميمه بواسطة اللاصق السميك. يقول أبو خالد، لرصيف22: "لا يُمكنني تغيير الزجاج فسعره غالٍ جداً، جمعت قطع زجاج سميكة كادت أن تسقط على رؤوس أبنائي ورصفتها بعناية عبر مستعيناً باللاصق، وأعدتها إلى مكانها مجدداً، وأغلقت النوافذ جميعها بإحكام عبر النايلون السميك الذي يضمن حماية الغرفة من الهواء البارد، فلا قدرة لنا على شراء الأبجورات للنوافذ".
ودرجت العادة في الأحياء والبيوت الشعبية في القامشلي، أن يلجأ أصحابها إلى مثل هذه العادة، لكن المشكلة تكمن في عدم تمكّنهم من تغيير هواء الغرفة، فالنايلون محكم الإغلاق ولا يمكن فتحه وإعادة تركيبه مجدداً؛ فهي مثبّتة على ألواح خشبية مصفوفة بجانب النوافذ.
يروي الرجل الخمسيني: "نفتح أبواب الغرف والمنزل لبضع دقائق لتغيير أجواء المنزل، لكنها لا تكفي، إذ تنتشر الرطوبة والعفونة في أرجاء المنزل أغلب الشتاء، فالشمس لا تدخل الغرف إلا عبر النوافذ الموصدة تماماً".
ويتألف منزل أبي خالد، من غرفتين وصالون استقبال ومنتفعات، و"من الصعب وضع مدفئة مازوت في الحمام. نعتمد على الكهرباء في ظل انقطاعها لأكثر من 20 ساعةً أحياناً في اليوم، ولذلك نؤجل الاستحمام قدر الإمكان".
وبالرغم من اعتماد الأهالي على اشتراكات الكهرباء عبر المولدات، إلا أن تسخين الماء عبر الكهرباء يحتاج إلى قرابة "10 أمبيرات"، ومن الصعب أن يتمكن الفقراء من دفع إيجارها. "ندفع في الشهر قرابة 6 آلاف ليرة سورية لكل أمبير، والوضع المادي لا يسمح بأكثر من 4 أمبيرات، وهي كمية لا تكفي لتشغيل سخان المياه عبر الكهرباء في الحمام. أحياناً نقوم بتسخين المياه على الغاز، لكن محدودية كميات الغاز للمنازل تمنعنا من الإكثار منه"، يقولها أبو خالد بغضب وحزن شديدين.
نحن في كانون الثاني/ ديسمبر، ولم نضع المدفئة بعد، ببساطة وضعها يعني استعمالها، ولا نملك المازوت الكافي، ليست لدينا سوى 300 ليتر فقط، نتركهم لأيام الصقيع
تجلس أم خالد (33 عاماً)، والتي تبدو ملامحها أكبر من عمرها بكثير، وتقول: "نحن في كانون الثاني/ ديسمبر، ولم نضع المدفئة بعد، ببساطة وضعها يعني استعمالها، ولا نملك المازوت الكافي، ليست لدينا سوى 300 ليتر فقط".
وسبق أن قررت الإدارة الذاتية منح كل عائلة تلك الكمية فقط، وبسعر 110 ليرات، ولمرة واحدة فقط، "الأطفال لا يفهمون لماذا لا يوجد مازوت، ونخشى من أشهر أكثر برودةً من الآن. أضع الأغطية السميكة على أولادي الأربعة الذين تتراوح أعمارهم بين 4 و14 عاماً، وأجلس بجانبهم كي لا يشعروا بالحزن، خاصةً أن بعض رفاقهم في المدرسة يتحدثون لهم عن المدفئة وتسخين الخبز عليها، فأشعر بحزن شديد في كل مرة يتحدث أبنائي عن التدفئة".
وتضيف: "سنبدأ خلال الأسبوع المقبل بوضع المدافئ في الغرف. لدينا مدفأة جيدة خاصة للصالون، وأخرى متدنية الجودة قمنا بتغيير حوض النار فيها بدلاً من شراء أخرى جديدة، لأن أسعارها مرتفعة جداً، وسنضعها في غرفة الأولاد، أما غرفتي مع زوجي فسنضع سخانةً كهربائيةً فيها في انتظار التيار الكهرباء، ولن يكون بمقدورنا تشغيل المدفئتين معاً، سنجلس كلنا في الصالون، وقبل نوم أولادي بساعة واحدة فقط سأشغل مدفأتهم، أما المطبخ فلا أمل له أبداً، سأرتدي معطفي وكنزةً شتويةً سميكةً لأخفف من البرد".
أما الأولاد، فمعاناتهم تبدأ منذ الصباح الباكر. يروي خالد (14 عاماً)، عن يومه الطويل: "يبدأ الدوام في السابعة والنصف صباحاً. أمشي قرابة 25 دقيقةً في الصباح، ومثلها حين الانصراف من المدرسة، لذا أضطر إلى الخروج من المنزل قبل الساعة السابعة صباحاً. الجو بارد في الخارج، وأسوأ في داخل القاعة، إذ وضعت المدرسة مدفأةً، لكنها قديمة جداً ولا تكفي لتدفئة الغرفة".
في المنزل نستمر في ارتداء الجرابات ونتغطى بالبطانيات، خاصةً في أثناء الدراسة وكتابة الوظائف، ويستمر أبي في القول: قريباً جداً سنضع المدافئ، ولكن متى؟
ويُداوم خالد في إحدى المدارس في المربع الأمني، ودرجت العادة أن تكون المدافئ قديمةً ومهترئةً، ولا يتم إيقاد النار فيها إلا في الحصص الأولى فقط، وبعد أشهر من بداية العام الدراسي، يقول خالد: "البرد في الشارع، والبيت، والمدرسة، مع الوقت لم أعد أشعر به، لا يختلف حال منزلي عن وضع الصف المدرسي، فكلاهما بلا تدفئة، لحسن الحظ أنني أملك معطفاً سميكاً، وفي المنزل نستمر في ارتداء الجرابات ونتغطى بالبطانيات، خاصةً في أثناء الدراسة وكتابة الوظائف، ويستمر أبي في القول: قريباً جداً سنضع المدافئ، عند كل مرة استفسر فيها منه عنها".
يعتقد عدنان (55 عاماً)، والذي يسكن في الأحياء الشرقية من القامشلي، أن قصة التدفئة "أصبحت قضية رأي عام، كل من أعرفهم يعانون من المشكلة نفسها؛ المدفئة قديمة، تصليحها مكلف وسعرها أكثر كلفةً. عموماً وضعناها يوم أمس وفي انتظار أيام البرد القارس لكي نُشعلها".
تكفل شقيق عدنان المقيم في النمسا، بإرسال ثمن مدفئة جديدة للصالون وأخرى للحمام، "لولا مساعدة أخي لما استطعت شراء مدفأتين. حين جلبتهما إلى الحيّ كانت الأعين تراقبني، خجلت من نفسي كثيراً، فأغلبهم لا يتمكنون من شراء مثلهما، في النهاية ظننت أنني اشتريت سيارةً حديثة الموديل؛ لكثرة المباركات والتهاني التي انهالت علي".
تروي ربة المنزل، "إيمان" (39 عاماً)، وهي تقدّم لنا كوباً من الشاي، ما حصل قبل يوم، وتقول: "حدثت معركة يوم أمس في أثناء تركيب المدفأة والأنابيب، فهي ولكونها قديمةً جداً يصعب تركيبها داخل بعضها البعض، ودوماً ما يضع زوجي الحق عليّ أو على أبنائي، ولا يصدف أن يكون هو السبب في التركيب بطريقة خطأ".
تضيف: "جرح عدنان يده فشتم ابنه وضرب الآخر على رأسه"، تضحك الزوجة كثيراً ثم نادت أحد أبنائها في الخارج، فجاء يزن (12 عاماً). يقول: "دائماً يشتكي والدي من كثرة إشعال المدفأة، لماذا وضعناها إذاً؟ البارحة قال لنا بعد أن تم تركيبها إنه ممنوع إشعالها من دون إذنه".
ويتألف منزل عدنان من غرفتين وصالون وسط بناء مؤلف من أربعة طوابق، تم تزويد الأبواب والشبابيك بالأبجورات التي تقي من دخول البرد، وتضيف إيمان: "نتبع أساليب كثيرةً للتدفئة؛ نتغطى بالأحرمة السميكة، نفرش المنزل بالسجاد، ونغلق الأبواب والشبابيك بإحكام، ونرتدي كنزات سميكةً وجرابات، ونشرب الشاي دوماً، واشترينا سخانةً تعمل على الأمبيرات، تجعل جو الغرفة دافئاً بدرجة قليلة، لكن ما العمل؟... لا مجال لأكثر من ذلك".
دائماً يشتكي والدي من كثرة إشعال المدفأة، لماذا وضعناها إذاً؟ البارحة قال لنا بعد أن تم تركيبها إنه ممنوع إشعالها من دون إذنه
"اكتوينا من الأسعار"، يقولها المدرس المتقاعد نزار (52 عاماً)، وهو يتجول في أسواق القامشلي بحثاً عن مدفئة جديدة، ويضيف: "الأسعار سوبر سياحية، في كل محل أدخله لشراء واحدة أخرج وأنا أفكر في إلغاء الفكرة كلياً"، وتعج أسواق القامشلي بشتى أنواع وماركات المدافئ وبأسعار مختلفة، لكن "النوعيات المنخفضة الجودة يتجاوز سعرها الحد الأدنى من المردود المالي الشهري للفقراء ومحدودي الدخل"، وفقاً لنواف صاحب محل بيع المدافئ.
يقول نزار لرصيف22: "الوقود غالٍ وأسعار المدافئ غالية جداً، أحتاج إلى واحدة جديدة للصالون، الذي نقلت مدفئته إلى غرفة الأطفال لأن مدفأتهم أصبحت قديمةً وتم تصليح التنور-الحراق، ثلاث مرات في الشتاء الماضي، وأرغب في اقتناء واحدة جميلة لصالون الاستقبال، لكن أسعارها تبدأ من 70 دولاراً، وهو مبلغ كبير جداً يساوي راتبي لشهر كامل".
اللافت في الأمر أن الأهالي يعزفون عن شراء الماركات المعروفة في سوريا، مثل كوكب الشرق، الأصيل، والسلطان، والتي تتراوح أسعارها ما بين 170 إلى 420 ألف ليرة، وتحتاج بعض المدافئ الأخرى مثل أولمار أو غيرها، إلى كميات كبيرة من الوقود ويتجاوز سعرها 500 ألف ليرة سورية.
في المجمل، بقيت هذه المدافئ من دون إقبال يُذكر كما يقول أبو محمد (61 عاماً)، وهو صاحب محل بيع مدافئ لرصيف22، "سابقاً كنا نبيع في بداية فصل الشتاء قرابة 600 مدفأة، حالياً ونحن في كانون الثاني/ ديسمبر لم أبع سوى 70 مدفئةً، الناس تعزف عن شراء الجديد لارتفاع سعره، في مقابل تصليح قرابة 178 مدفئةً وبعضها صعب التصليح لكن إلحاح الأهالي يُجبرنا على ذلك أملاً بأن تخدمهم هذا الشتاء أيضاً".
وتشهد أسواق القامشلي كثافةً في المدافئ المصنعة في حلب ودمشق، بالإضافة إلى أنواع جديدة تستخدم الفحم والحطب وأغلبها تركي المصنع، في ظل غياب أي صناعة للمدافئ في البلد، وهو ما سيساهم في تخفيض أسعارها، خاصةً من ناحية مراعاة فروقات أسعار الشحن والتحميل.
• تمنّى المتحدثون في المقال، عدم ذكر أسمائهم كاملةً، حوفاً من التنمّر عليهم في بيئتهم.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...