عندما نستمع إلى أغنياته نحار في الكلمات، نتساءل أي لهجة تلك؟ نستمع ونظن أنها اللهجة القاهرية العادية، وفجأة نجد كلماتٍ ذات وقع بدوي، مع كلمات أخرى ذات صدى صعيدي. مزيج ساحر تتآلف فيه الكلمات من كل اللهجات المصرية لتشكل لغة شعرية خاصة به، تُميزه عن غيره، إلى جانب تميزه في المواضيع المطروحة في الأغنية، وكذلك زوايا الطرح.
في مقابلة مع الراحل عصام عبدالله أجراها الكاتبان الصحافيان، إبراهيم عيسى وعبدالله كمال، نُشِرت في كتاب "الأغنية البديلة"، وعبرت عن روح أغانيه، نقرأ تلك الأسطر: "فكرتي ليست محدودة، وإنما هي البحث عن لغةٍ وفق ما يرضاه الناس... أغلب الممارسات الفنية حالياً غير جذابة... أقصد هنا بالجاذبية النوع العالي منها، الذي يؤدي إلى تفكير مفيد وتعميق لتفكير جيد، وكل الموجود على الساحة الآن ليس به هذا".
تكشف تلك الكلمات عمّا كان يريده عصام عبدالله، ذلك الفيومي المولود في تشرين الأول/أكتوبر عام 1955، وبدأ في كتابة الأغنية في أواخر السبعينيات، في وقتٍ كان الشعر الغنائي مترهلًا مكررًا، لا يتحدث سوى عن الحب والهجر، أو شعبيًا مثل إنتاج أحمد عدوية، مما جعله يبحث عن صوته هو، عن ثورةٍ تُوقظ الأغنية المصرية، فاستغل ترحاله ودراسته للّهجات المصرية وأساليب التحدث عند كل فئات المجتمع في تخزين حصيلة مفردات لا تنضب، واستثمر موهبته الفذة في المزج بين كل تلك اللهجات والمفردات على نحو لا يجعلك تشعر بالغربة، وأنت تجد كلمات صعيدية وبدوية وفلاحية في نفس المقطع.
ربما كان من حظ عصام عبدالله، ومن حظ محبي الأغاني والتجديد هو تزامن ظهوره مع الثورة الموسيقية، التي قامت لكسر التقليدية وتشكلت في فرق ما يُسمى الآن بالـ"أندرغراوند" مثل المصريين "هاني شنودة" و"الفور إم" (عزت أبوعوف وأخواته) و"طيبة" (مودي وحسين الإمام)، وصار عصام أحد رواد تلك الثورة، وتمرد على ألوان الشعر التقليدية وكسر الأنماط، وركز على التصوير على حساب التفعيل والوزن، وكسر الحدود بين الفصحى والعامية بلهجاتها فكان من المشاركين الرئيسين في تجارب كل تلك الفرق وغيرها بأغانٍ ذائعة مثل عرفتيني و يابوليس وفرجت وعايزين نعيش وودعي المكان.
تزامن ظهوره مع الثورة الموسيقية، التي قامت لكسر التقليدية وتشكلت في فرق ما يُسمى الآن بالـ"أندرغراوند" مثل المصريين "هاني شنودة" و"الفور إم" (عزت أبوعوف وأخواته) و"طيبة" (مودي وحسين الإمام)، وصار عصام أحد رواد تلك الثورة
كما تواكب وجود عصام مع تجارب غنائية متميزة وقتها، تجارب شابة تبحث عن الجديد والشغف وإثبات الذات بما هو مختلف، لا يرغبون في الاتباع، مثل علي الحجار. تعتبر تجربة عصام عبدالله معه أهم التجارب الشعرية في حياته، حيث بدأها بأغنية ألوان الناس التي لم تُطرح للأسف والتي يقول عنها صلاح جاهين في أحد تسجيلاته "فيها جرأة غريبة جدًا في استخدام الألفاظ"، ويجب أن نستوعب جيدًا أن من يتحدث عن تلك الجرأة هو صلاح جاهين، ثم تلاها أغنية لحظة ممكنة التي لحنها ووزعها عزت أبوعوف في ألبوم ولد وبنت، ثم أغنية كان إحساسي صحيح التي كسر فيها القالب التقليدي للشعر. ثم درة تاج تجاربه مع علي الحجار، اللوحة العبقرية التي رسمها عصام عبدالله، ولونها مودي الإمام، وسردها علينا إحساس علي الحجار "في قلب الليل"، إحدى أجمل الأغاني العربية على الإطلاق. قصة رمزية تحمل الكثير والكثير من المعاني والصور والأحاسيس كتبها عصام في أغنية بطريقة معجزة.
"وصهل المهر لم افهم/أخوف منى أم اتعاجب/سألت المهر لم يفهم/كلام منى ولا جاوب/وكان ف عنيه برىق ننى/كأنه كان بيسألنى/ وقفت انظر له ينظر لى/وانظر له وينظر لى/ولما صار كما خلى/فتحنا أبواب حكاوينا/وتوهنا فى أغانينا/في قلب الليل".
قصة قصيرة رمزية تحمل معاني الحب والحرية والحياة والهجر والخذلان والحزن، سردت في قالب غنائي بديع، لم أر له مثيلاً حتى الآن. وفي نفس الألبوم أتحفنا عصام بأغنية أخرى وهي "روحي فيكي تروح".
ولا يمكن أن نتخيل أن مثل هذا المتمرد لن يتعاون مع المتمرد الأكبر محمد منير، في أغان مثل حتى حتى ولو بطلنا نحلم نموت والطول واللون والحرية، وعمرو دياب في "أشوف عينيكي" وغيرها، وأنغام في "وحدانية" و"بقيت وحدك" و"من بعيد"، إلى جانب عدة مطربين آخرين.
"قالي يام رشرش حرير شنكله أحمر/والشعر خيلي سواده ليلي طويل مضفر/والقصة حاردة على حواجب من اللي تسحر/خايلة لحديت فوق راسك يا عيوقية".
حتى مجال أغاني الأطفال أضاف فيه لمسته البديعة في عدة أغاني مثل جدو علي. وكتب أغاني أفلام مجنونة مثل أنياب والحب في الثلاجة وخلافه.
بدأ في كتابة الأغنية في أواخر السبعينيات، في وقتٍ كان الشعر الغنائي مترهلاً مكرراً، لا يتحدث سوى عن الحب والهجر، أو شعبياً مثل إنتاج أحمد عدوية، مما جعله يبحث عن صوته هو، عن ثورةٍ تُوقظ الأغنية المصرية... عن تجربة غنائية فريدة أجهضتها الأغنية التجارية في مصر
بالإضافة إلى تجربة ساخرة فانتازية مع سمير غانم. ومرثية عزيزي الضيف أحمد التي كتبها وألقاها سمير أيضاً بصوته.
ونأتي للتساؤل: لا شك أننا نعرف جميعًا أن تلك الثورة تم وأدها بفعل الاغنية التجارية واتجاه السوق للأغنية السطحية الخفيفة ذات الموسيقى المختلفة، ولم يصمد من أفرادها ربما سوى محمد منير.
وفي 2010 شاهدنا ثورة موسيقية عن طريق فرق الـ"أندرغراوند" أيضاً، وربما بدأت قبل ذلك بفترة مع فرقة "وسط البلد"، وصار عندنا "مسار إجباري"، و"كايروكي"، وكل فريق يحاول خلق موسيقى تشبهه ولا تشبه ما حولها، في تميز طال انتظاره. ولو افترضنا وجود عصام عبدالله في هذا الوقت، بمزيج لهجاته وتمرده على المألوف، هل يمكن أن نتخيل الإنتاجات التي قد تصدر بعد التعاون المحتمل بينه وبين هذه الفرق؟
ربما هناك بعض الأسماء الجيدة الآن في الشعر الغنائي مثل مصطفى إبراهيم ودعاء عبدالوهاب. هل يمكننا أن نرى انفجارهم يوماً ليكونوا منعطفاً مهماً في الأغنية المصرية مثلما كان عصام عبدالله، ومن قبله بيرم التونسي وحسين السيد ومأمون الشناوي وبديع خيري وصلاح جاهين؟
ربما ستتم الإجابة عن هذا السؤال بعد زمن قليل أو طويل، وربما لن تتم يوماً.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ 3 ساعات??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 23 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون