توقفتُ مطولاً عند مشهد بيانو محطم مقلوب على ظهره ومسنود على جدار بيت قديم في زقاق بغدادي أقدم. تساءلتُ مع نفسي ما حكايته؟ مَن الذي حمله إلى هنا؟ هل هو قطعة أخرى من روح بغداد وهي تتحطم؟ هل هو جزء من مقتنيات عائلة من تلك التي اعتادت الانفتاح الثقافي من عوائل الطبقة المتوسطة البغدادية وضاقت ذرعاً بدوائر العنف والخراب والألم والجهل وقررت الإفلات من مصير أضيق من "فرضة" البندقية و"شعيرتها"؟
حملتُ تساؤلاتي إلى صاحب الصورة (ناشرها)، الصديق صباح السعدي الذي نذر نفسه لحراسة الإرث الحضاري الشعبي البغدادي بخاصة والعراقي بعامة، فأجابني على عجل: "هذا بيانو كان في صالة استقبال فندق الرشيد تحطم أثناء قصف أميركي على بغداد عام 1993".
استعدتُ على الفور حكاية البيانو هذا، والحدث بأكمله حين كنت في المكان ذاته بعد القصف للاطمئنان على ثلاثة صحافيين جزائريين كانوا في مهمة لتغطية حال العراق بعد "عاصفة الصحراء"، والتقيتهم في حوار لمجلة عراقية.
لا وقت للبيانو في زمن منهوب للحرب بالكامل، غير أن حالمين كانوا يفعلون ذلك في عام الحطام ذاته، بل كان أحدهم (العازف البارع سلطان الخطيب) يشاركني والعازف والمؤلف القدير نصير شمّة تقديم برنامج موسيقي عبر شاشة "تلفزيون بغداد"، حَمَل عنوان "موسيقى موسيقى".
الخطيب كان يقدّم معرفة عالية عن الموسيقى الغربية الكلاسيكية وشمّة كان يقدّم خلاصة روحية خلّاقة في تقديمه أفانين النغم الشرقي والعربي، بينما أوكلت إليّ مهمة التعريف باتجاهات الموسيقى العالمية الحديثة. لكن الحالمين الثلاثة ما لبثت أن ضاقت بهم الأرض التي آخت العنف، فقضى الخطيب فترة عصيبة في السجن قبل أن يغادر بغداد إلى الخليج، وطار شمّة إلى تونس بينما غادر صاحب السطور إلى عمّان ومنها إلى أميركا.
"بيانو محطم آخر وهذه المرة بفعل ضربات الطائرات والصورايخ أثناء الغزو الأميركي 2003، بيانو أبيض بين الركام يجلس قربه أحد العابرين وهو يحاول الضرب على مفاتيحه البيض والسود"
إلى أميركا أيضاً، وفي الفترة ذاتها (النصف الأول من تسعينيات القرن الماضي)، هاجَرَت مَن كانت أفضل عازفة بيانو عراقية، بياتريس أوهانسيان. بيانو أوهانسيان لطالما كان أثيرها الفاعل في تعزيز الموسيقى الكلاسيكية الغربية في العراق. تقول: "في الموسيقى الكلاسيكية الغربية، كنتُ أول موسيقي عراقي يواجه الأوروبيين بطريقة محترفة"، وكانت محقةً تماماً في قولها، خاصة عندما نعلم أن بياتريس وُلدت فيما كان العراق قد بدأ للتو يشهد اهتماماً عميقاً بفنون العالم الغربي وثقافته، وكانت في المدرسة الابتدائية عندما أنشئ معهد الفنون الجميلة في العام 1936، وتقدَّمَت بطلب للانضمام إليه في وقت لاحق، ورُفض طلبها لأنها كانت صغيرة جداً: "كانت شروط القبول في المعهد تقضي بأن يكون الطالب حائزاً على شهادة الدراسة الابتدائية، وأن لا يقل عمره عن 13 سنة".
بيانو أوهانسيان تعالى بصوت عجيب في العام 1980، عندما كتَبَت أول مقطوعة موسيقية غربية بتأثير الحرب العراقية الإيرانية التي كانت قد اندلعت طبولها الصاخبة للتو. كتبت عملها وعزفته على ضوء الشموع بسبب فرض التعتيم ليلاً في الأشهر الستة الأولى من الحرب. تآلفت بياتريس مع الرقصات الخفية التي تمارسها أضواء الشموع، وما إنْ اكتملت المقطوعة، حتى وزّعتها الأوركسترا السيمفونية العراقية، وعُزفت، وبُثّت عبر التلفزيون.
البيانو في زمن الحرب طبع سبعة أعمال أخرى لها بين عاميْ 1990 و1994، حين ضاقت الحياة بسبب صواريخ "عاصفة الصحراء" والهجمات اللاحقة، ما دفعها هي وشقيقتها سيتا إلى مغادرة البلاد. بيانو أوهانسيان وصديقها المخلص بيانو كبير من نوع "شتاينواي"، أودعته عند أناس تثق بهم في بغداد على أمل استعادته يوماً ما.
"بيانو بغداد حكاية بل حكايات عن جمال روحي "قصفته" حروب البلاد وعنفها بلا هوادة، حدّ أنه صار بمفاتيحه مثل روح الوحيد في سجنه يعاين محنته وصبره وما تبقى له من آمال"
في أميركا، خبرت أناملها مفاتيح بيانوهات كثيرة، إلا أن الأشواق لم تخفت للبيانو خاصتها، وبدأت اتصالات مع أميركيين وعراقيين بعد العام 2003 كي يسمحوا لها بنقل حياتها العراقية التي اختُصرت في بيانو مودع عند أصدقاء. طالت الاتصالات وتعددت الاعتراضات، إلى أن بدأ البيانو، الذي كانت قديسة الموسيقى الرفيعة في بغداد قد أبدعت عليه أحلى الأنغام، رحلة خروج بطيئة تنقله من صمته وتُفرحه ثانية بالأصابع الندية التي أغوته وداعبته كثيراً.
وفيما كنت أقول في حفل أقامته في واشنطن مؤسسات أميركية وعراقية بعد أيام على وفاة العازفة والمؤلفة الموسيقية، عام 2008: "بياتريس... لإيمانك إلى الأبد بالعراق، لاستعدادك العالي بالتضحية، أرقدي بسلام فأنت كنز وطني للعراق، وكتب التاريخ والموسيقى العراقية ستخلدك"، أبلغني القنصل الثقافي في السفارة العراقية في واشنطن د. هادي الخليلي بأن بيانو بياتريس أوهانسيان وصل من بغداد قبل أيام!
بيانو محطم آخر وهذه المرة بفعل ضربات الطائرات والصورايخ أثناء الغزو الأميركي 2003، بيانو أبيض بين الركام يجلس قربه أحد العابرين وهو يحاول الضرب على مفاتيحه البيض والسود.
يكشف لاحقاً عازف البيانو والمؤلف القدير ترافليان ساكو أن الآلة هي خاصته وقد باعها إلى أحد تجار المقتنيات الثمينة في بغداد قبل رحيله إلى عمّان ومنها إلى كندا حيث يقيم اليوم، ليكون قصة نجاح أخرى لموسيقيين عراقيين ضاقت بهم بلادهم، وتوزعوا، منذ عقود، أرجاء المعمورة في نشيد متصل بحثاً عن "ميسوبوتاميا" أقرب إلى الضائعة.
بيانو بغداد حكاية بل حكايات عن جمال روحي "قصفته" حروب البلاد وعنفها بلا هوادة، حدّ أنه صار بمفاتيحه مثل روح الوحيد في سجنه يعاين محنته وصبره وما تبقى له من آمال.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Mohammed Liswi -
منذ 14 ساعةأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.
Eslam Abuelgasim (اسلام ابوالقاسم) -
منذ 20 ساعةحمدالله على السلامة يا أستاذة
سلامة قلبك ❤️ و سلامة معدتك
و سلامك الداخلي ??
مستخدم مجهول -
منذ يومينمتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ 3 أيامtester.whitebeard@gmail.com