شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!
حفل

حفل "أورنينا" في برلين... حين تصبح الموسيقى تذكرة عودة إلى البلد

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

هل النوستالجيا هي التي دفعتني لشراء بطاقة لحضور حفل الأوركسترا السورية “أورنينا” في برلين؟

أورنينا هي امتداد لفرقة صغيرة أسسها المايسترو السوري، شفيع بدر الدين، عند قدومه إلى فرنسا عام 2002 اسمها تقاسيم، وفي عام 2016 عند تزايد أعداد الموسيقيين السوريين في أوروبا، وجد شفيع فرصة مناسبة لتأسيس فرقة أكثر احترافية فكانت أورنينا أول فرقة سورية تنشأ بشكل قانوني، ومرخصة كمؤسسة غير ربحية. 

المايسترو شفيع بدر الدين في حفل فرقة أورنينا في برلين، تصوير عروة الشيباني

أما عن اسمها فهو يعود لأورنينا مغنية المعبد في حضارة ماري التي تعود إلى 3000 عام ما قبل الميلاد، وموسيقى مملكة ماري هي أول موسيقى معروفة في التاريخ القديم والتي كان لديها شيء يشبه الأوركسترا التي تضم حوالي 26 عازفاً.

برلين المكان الأكثر دفئاً

كلما شعرنا بأسنان الغربة تهرسنا، زحفنا نحو برلين، نمشي في شوارعها، نتابع أحداثها الثقافية، نجلس في المقاهي التي تشبهنا وتشبه ما نحنُ إليه في بلادنا.

ربما ما يميز برلين عن غيرها أنها استطاعت أن تجمع كل الأشياء التي نتمنى ونحب في البلاد التي اسمها بلادنا. تستحضر برلين شارعك القديم، أصدقاءك القدامى وتعيدك لذاكرتك الأولى، تمشي في شارع العرب وترفع يدك من نحو الرصيف المقابل لترمي السلام على صديق تلمحه مصادفة في الطريق. تماماً كما كنتَ تصادفه في "البلد".

كلما شعرنا بأسنان الغربة تهرسنا، زحفنا نحو برلين، نمشي في شوارعها، نتابع أحداثها الثقافية، نجلس في المقاهي التي تشبهنا وتشبه ما نحِنُ إليه في بلادنا.

في الثامن من أكتوبر/ تشرين الثاني صدح مسرح الفِلهارموني في برلين بموسيقى بلاد الشام، حيث كنّا كجمهور نجلس وقد وضعنا أرواحنا في آذاننا، لنقترب أكثر من الحنين، ولنتحدى أنفسنا أننا ما زلنا نشعر ونحب وتحركنا الموسيقى. 

استمر الحفل ساعتين كاملتين، لم أشعر بمرورهما. لست ناقدة فنية، وقد أكون لا أفقه بالموسيقى أكثر من أنّ هذه المقطوعة أعجبتني وتلك لا، هذه المقطوعة حركت روحي وتلك لا.
لكنني كنت أرى بلادي خلف المايكرفون حاضرة جلية، على مسرح يمتلئ من جهاته الأربع بالمصابين بالحنين مثلي.
لا أفقه بالموسيقى شيئاً لكنني كنت أسبح مع يدي المايسترو شفيع، أرتفع معهما ويهبط قلبي عندما تهبطان. 

ترأس المايسترو شفيع بدر الدين الفرقة، ليأخذنا والفرقة في رحلة فوق السحاب، وكأننا في منطقة معزولة عن المصائب، كما لو أننا خارج البقعة الجغرافية المحاطة بالحروب والثورات والموت، منطقة معزولة عن صخب العالم الخارجي. يحرك شفيع يديه، فنغرق نحنُ بالجمال والأمنيات، الأمنيات التي تتلخص بأننا نغني للحرية في دار أوبرا دمشق بلا سفاح.

فرقة أورنينا في حفل برلين، تصوير عروة الشيباني

يا إلهي، كيف يمكن لمايسترو أن يحمل الجمهور بيديه نحو غيمة؟!

 "كيف يمكن لمايسترو أن يحمل الجمهور بيديه نحو غيمة؟!"

افتتح الحفل بظهور رشا رزق وهي ترتدي فستاناً برّاقاً، كنجمة سورية سقطت من سماء طفولتنا، بخفة العصفور تنتقل من ذاكرة لأخرى، رشا التي ترتبط بذاكرتنا الجمعية في أغاني محطة سبيستون المخصصة للأطفال، وتعود بنا إلى أيام كنا فيها نتربص أمام الشاشة لنسمعها، نعرف صوتها لا وجهها، حيث كنا نعود من المدرسة ونرمي حقائبنا عند الباب وننتظر فيلمنا الكرتوني المفضل الذي تفتتحه رشا رزق.

فرقة أورنينا في حفل برلين، تصوير عروة الشيباني

أعادتني إلى هناك، طفلة صغيرة بجديلتين تحفظ أغانيها، ولم أفهم كيف كبرنا وبقيت رشا هي نفسها رشا طفولتنا.

غنت "ابني" من كلمات الشاعر فؤاد شلعين وألحان شفيع بدر الدين، فأخذت تحفر فينا الحزن والفرح بطريقة لا نفهمها.

تبعتها "لبانة قنطار"، تغني أو لا أعرف حقيقة إن كانت تغني، فقد كان بالنسبة إلي شيئاً أعظم من الغناء، شيئاً بين الصلاة والغناء والطرب والوجع، غنت لبانة قصيدة "شام" للشاعر فادي جومر. 

"وإنت عم تلم البرد وتقول لسا شام 

تصب القصايد عالورد وتصيب حزن ال نام"

ثم خرج إلينا "أبو غابي" بحنجرته التي تغني في روحك...

شيء سحري يدغدغ حواسك الخمس عندما يغني قصيدة من كلمات الشاعر عاشور سليمان "ملى الكاسات"

بالنسبة لي، كان حضور "أبوغابي" ذاكرة مضاعفة، فلم تحضر فقط البلاد في صوته، بل جلب مخيم اليرموك الفلسطيني معه من دمشق، بكامل تناقضاته وجماله ووجعه، فكنت أحدّث من يجلس جانبي وأقول: "شوفو هاض من عنا...من اليرموك" 

بالنسبة لي، كان حضور "أبوغابي" ذاكرة مضاعفة، فلم تحضر فقط البلاد في صوته، بل جلب مخيم اليرموك الفلسطيني معه من دمشق

ثم صعد إلى خشبة المسرح كل من رشا ولبانة وأبو غابي تتوسطهم "بسمة جبر" بخفتها وخصلات شعرها السوداء المتناثرة على كتفيها. غنّوا معاً "دجلة" فأطربوا من به صمم!

لم نفهم لماذا لم تخرج بسمة بأغنية منفصلة بداية، وخرجت ضمن أغنية مشتركة مع الفرقة، لكن هذا لم يطفئ بريقها وعفويتها وجمالها، حضرت البلاد على المسرح وصارت البلاد نغمة، ثم رقصة، وموالاً ودمعة بهذه البساطة كنا ننتقل من حلم وابتسامة لذكرى ودمعة.

بدأت تتحرك نظرات الجمهور نحو باب الكواليس تنتظر "شادي علي" ليقابل جمهوره، ظهر شادي وغنى "الريان"

ثم انضمت بسمة وغنيا معاً من تراث الدبكة.
أرقصانا وأبكيانا وأضحكانا وأخذانا معهما إلى أماكن كنّا نعتقد أننا فقدناها في دواخلنا، لكنهما استطاعا أن يرجعاها.

فرقة أورنينا في حفل برلين، تصوير عروة الشيباني

"لم نشبع". قالها الجمهور.

 "نريد المزيد". لكن المايسترو شفيع وضح أن الفرقة أمضت ساعتين على المسرح وهذا ما يعتبر وقتاً طويلاً ومرهقاً للفرقة... لكننا كجماهير آنسها الطرب، لم نشعر بمضي الزمن.

فقد مضت الساعتان كخمس دقائق، كرمشة عين، أو رجفة قلب!

 مضت ساعتا الحفل كخمس دقائق، كرمشة عين، أو رجفة قلب!

ولأننا عطشى للقاء الأصدقاء القدامى، والفنانين الذين نحب، تجمهرنا بعد انتهاء الحفل عند باب الكواليس. 

نتحدث ونتصور ونناقش مشاعرنا.

خرجت بسمة جبر من باب الكواليس، هي التي كانت تهدهد أغانيها على كتفي في خيام نزوحي، بسمة وأغنية "شباكك مطفي" التي دندنتُها في أشد أيامي ظلمة لتتخفف عني، تقف أمامي مشعّة حرّة، لأول مرّة في حياتي أرى امرأة على شكل نغمة موسيقية.

اجتمع الجمهور مع فرقته أمام باب الفِلهارموني، فأمضينا في البرد أكثر من ساعتين أيضاً، نتصور ونتناقش وننتقد ونضحك، ترتجف أجسدنا من البرد ولا أحد منا يريد أن يغادر، شيء من ألفة العائلة والأصدقاء كان يريدنا أن نبقى أكثر.

أعادتنا أورنينا للبدايات، حيث كنّا نكتب الأغاني على ظهر الكتب، وعلى قصاصات الورق والدفاتر، حين كنا نحفر كلمات الأغاني على مقاعد الحدائق وطاولات المقاهي في "ساروجا" و"باب توما" في دمشق. 

شكراً "أورنينا" لأنكم تمكنتم وسط الخراب المحيط بنا، أن تخلقوا في دواخلنا أعشاشاً دافئة لعصافير تغرد وتطير وترقص.

أعادت ثقتنا بأننا ما زلنا رغم كل الخراب قادرين على تذوق الفن وملاحقته في وقت تتصدر فيه فنانات المقاصف الليلية مساحات المشاهدة على مواقع التواصل الاجتماعي، وراديوهات الحكومات العربية، أعادتنا أورنينا إلى اكتشافاتنا القديمة عن الفن البديل، عندما لم يكن يفهم أهلنا لماذا نستمع إلي هؤلاء الفنانين.

اليوم أريد أن أجلب أبي وأقول له:  "اسمع، هؤلاء من كنت أسمع". 

شكراً أورنينا لأنكم تمكنتم وسط الخراب المحيط بنا، أن تخلقوا في دواخلنا أعشاشاً دافئة لعصافير تغرد وتطير وترقص.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

قد لا توافق على كل كلمة ننشرها…

لكن رصيف22، هو صوت الشعوب المضطهدة، وصوت الشجعان والمغامرين. لا نخاف من كشف الحقيقة، مهما كانت قبيحةً، أو قاسيةً، أو غير مريحة. ليست لدينا أي أجندات سياسية أو اقتصادية. نحن هنا لنكون صوتكم الحرّ.

قد لا توافق على كل كلمة ننشرها، ولكنك بضمّك صوتك إلينا، ستكون جزءاً من التغيير الذي ترغب في رؤيته في العالم.

في "ناس رصيف"، لن تستمتع بموقعنا من دون إعلانات فحسب، بل سيكون لصوتك ورأيك الأولوية في فعالياتنا، وفي ورش العمل التي ننظمها، وفي النقاشات مع فريق التحرير، وستتمكن من المساهمة في تشكيل رؤيتنا للتغيير ومهمتنا لتحدّي الوضع الحالي.

شاركنا رحلتنا من خلال انضمامك إلى "ناسنا"، لنواجه الرقابة والترهيب السياسي والديني والمجتمعي، ونخوض في القضايا التي لا يجرؤ أحد على الخوض فيها.

Website by WhiteBeard