في كتابه "النار والدم" يسرد الكاتب الأمريكي جورج آر آر مارتن تاريخ عائلة التارجاريان بداية من غزو آيجون الفاتح (الغازي في وجهات نظر أخرى) لقارة ويستروس وتوحيد ممالكها السبع إلى مملكة واحدة يرتدي هو تاجها، وحتى نهاية عصرهم عند الملك المجنون آيريس تارجاريان الثاني.
وكحيلةٍ سردية وليتجنب إلزام نفسه بأن يجري تعديلات أو أحداث في سلسلة رواياته "أغنية الجليد والنار" بناءً على ما قد يكتبه في "النار والدم"، ولأن هذا العمل قد قُدِر له من البداية أن يتحول إلى مسلسل تلفزيوني، قام جورج مارتن بسرد الكتاب كتأريخ لعائلة التارجاريان وليس كرواية. هو يحكي الأحداث التاريخية التي وقعت منذ البداية إلى النهاية باختصار واقتضاب، دون مقومات الرواية الأساسية من حبكة صراع ورسم شخصيات وخلق عمق للشخصيات، وذلك ليسهل على صناع العمل الدرامي الإضافة والتغيير.
تُحكى الأحداث كلها من قِبل الآرك مايستر جيلداين (راوٍ واحد) ونراه طوال الكتاب يقول "قال البعض كذا" و"هناك من قالوا كذا" و"هذا غير مؤكد". كما أننا نقدر على استشفاف شخصيته وميوله ودوافعه وقيمه الأخلاقية مثل تحفظه تجاه الميول الجنسية المختلفة، أو ولائه الشديد لآل التارجاريان ومهاجمة معارضيهم.
علاوة على ذلك، فقد أضاف هو بعض الروايات من أناس لم يحضروا الأحداث نفسها وكانوا يروونها بتطرف واضح لكل من يرى. وهو ما جعل الكتاب يخرج كتأريخ غير موثق لعائلة التارجاريان.
غزوات، فتوحات، انقلابات، صراعات، حروب، خلافات عائلية على الحكم، حروب أهلية... كل هذا يسرده الآرك مايستر جيلداين من وجهة نظره ونتعامل نحن معه على أنه تأريخ عائلة التارجاريان
غزوات (فتوحات)، انقلابات، صراعات، حروب، خلافات عائلية على الحكم، حروب أهلية، إلخ، كل هذا يسرده الآرك مايستر جيلداين من وجهة نظره ونتعامل نحن معه على أنه تأريخ عائلة التارجاريان، وينشب الصراع عندما يصدر الموسم الأول من مسلسل "آل التنين" بين محبي الكتاب ومشاهدي المسلسل على "الانحراف" الذي ذهب إليه المسلسل في سرد تاريخ عائلة التارجاريان.
"ظلت مسألة بقاء رينيس تارجريان على قيد الحياة بعد سقوطها وتنينها مسألة شك. قال البعض إنها سقطت من فوقه وهو يسقط وماتت من فورها، وقال البعض الآخر إنها تحطمت تحت ميراكسيس في باحة القلعة. وحكى القليل من الناس أنها عاشت بعدما سقطت هي وتنينها، وماتت موتاً بطيئاً جراء التعذيب في الأبراج المحصنة لأولريس. من المحتمل ألا تُعرف الظروف الحقيقة لوفاتها قط، لكن رينيس تارجريان، أخت الملك آيجون الأول وزوجته، هلكت في هيلهولت في دورن، في العام العاشر من بعد الفتح".
الطريقة المثلى للتأريخ
الفقرة السابقة هي فقرة من كتاب "النار والدم"، يسرد فيها موت إحدى الملكات في الحرب. كلها معلوماتٍ غير مؤكدة، أو تفاصيل غير مؤكدة لنهاية واحدة. هل هذه هي الطريقة المثلى للتأريخ؟
ولنطرح سؤالًا آخر: تُرى ماذا يحدث إن حذفنا اسم "التارجاريان" أو موضوع الكتاب الذي نتحدث عنه في الفقرات السابقة؟ هل سنشعر بألفةٍ ما مع شيء آخر؟
ومصادفةً، عاش بعض الرواة وقالوا:
لو انتصر الآخرون على الآخرين
لكانت لتاريخنا البشريّ عناوينُ أُخرى
كان سرد جورج آر مارتن لكتاب "النار والدم" هو الطريقة المثلى لقراءة التاريخ. فالتاريخ مليء بالممكن والربما والمحتمل، ويسعى المحققون التاريخيون ومدققو الوثائق إلى إثبات ممكن من الممكنات أو تحويل إحدى الـ"ربما" إلى "قطعاً"
تلك الأبيات من رائعة درويش "لاعب النرد" تُلخص في رأيي كتابة التاريخ قديماً. رواة يروون أحداثاً من وجهة نظرهم، ربما كانوا منتصرين فسموا ما قاموا به فتحاً، أو منهزمين فسموا ما حدث غزواً أو استعماراً. الأمر دائماً وجهة نظر. ولكن السرد التأريخي عندنا لا يُخبرنا أنها وجهات نظر، بل يضفي على التأريخ قداسة تجعله هو الحق المطلق لا مراء فيه، رغم أنه ليس علماً بحتاً كالرياضيات أو الفيزياء، لا يمكن قياسه، ولكننا نتعامل كأن كل ما فيه مسلمات.
قراءة التاريخ
"لو انتصر الآخرون على الآخرين
لكانت لتاريخنا البشريّ عناوينُ أُخرى"... محمود درويش
لا شئ موثوقاً؛ نحن نرى التغيير الذي يحدث في سرد ما عِشناه في المدى القريب. بعض التغيير يكون في رأينا أكاذيب لتزييف واقع أو لخدمة غرض معين، لكن هل الأمر يكون هكذا دائماً؟ هل هو فعلاً تغيير أم أن من حكى القصة حكاها من وجهة نظره وكيف تلقاها هو في الأساس؟ هل تثق بأن ما تعرفه هو الحقيقة؟ وإن أتانا أحدهم بعدة مصادر ورواياتٍ مختلفة لنفس الحدث، فكيف سنعرف بمن نثق؟ أظن أن الأمر يتعلق بميلنا الشخصي لتصديق ما نريد تصديقه أو ما يتوافق مع ما نعتقده.
ربما كان سرد جورج آر آر مارتن لكتاب "النار والدم" هو الطريقة المثلى لقراءة التاريخ. فالتاريخ مليء بالممكن والربما والمحتمل، ويسعى المحققون التاريخيون ومدققو الوثائق إلى إثبات ممكن من الممكنات أو تحويل إحدى الـ"ربما" إلى "قطعاً" وهو مسعى لا يواجه إلا بالتقدير الشديد. لكن حتى إن تأكدنا من أن المخطوط حقيقي غير زائف، وإن تأكدنا من نزاهة وأمانة كاتبه، فهل نثق في أنه قد سرد ما حدث كما حدث وليس كما يراه هو؟ أظن أن هذا أمر يكاد يرتقي للمستحيل، ولذلك فالحل هو أن نفتح آفاقنا ولا نتعصب لشيء ونقرأ التاريخ واضعين في اعتبارنا احتمال الخطأ رغم افتراض نزاهة الراوي.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...