شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
عبد الله بن سبأ وحكاية المثقف العربي قديماً وحديثاً

عبد الله بن سبأ وحكاية المثقف العربي قديماً وحديثاً

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الثلاثاء 20 ديسمبر 202204:21 م

عبد الله بن سبأ من اليمن يكنى بابن السوداء لأن أمه حبشية، اعتنق الإسلام في عهد الخليفة الثالث عثمان، وتوفي سنة 40 للهجرة، ويُقال مات حرقاً، وهو مؤسس مذهب السبئية الذي بقي مستمراً عبر القرون بعد وفاته. تعرض للنفي من قبل عثمان وعلي بن أبي طالب ومعاوية، ولكنه استمر في دعوته وكسب كثيراً من الأنصار والأتباع في مصر والشام والعراق.

الخلاف حول ابن سبأ

اختلف الناس حول عبد الله بن سبأ؛ بعضهم عده أسطورةً ووهماً ليس له وجود، وبعضهم عدّه حقيقةً مرّت في المجتمع العربي الإسلامي وتركت أثراً واضحاً. وآخر قال إنه عمار بن ياسر نفسه، وغيره أكد أنه مغالٍ ألّه علي بن أبي طالب، كما أن هناك من عدّه دساساً جاء ليهدم الإسلام، وقالوا إنه دخل الإسلام لا حبّاً بالرسالة الجديدة، إنما ليخرّب ويقوّض ويزرع الفتنة أينما حلّ. فقد شارك في الفتنة بين علي وعائشة وأوصلها إلى حد التطاحن والاقتتال، كما زرع في أبي ذرّ الغفاري أفكاراً جديدةً ناوأ من خلالها الخلافة الأموية ومن قبلها الخليفة عثمان بن عفان.

غير أن هناك جماعة اعتبرته صاحب رسالةٍ اجتماعيةٍ حملت أفكاراً اشتراكيةً في العدل وتقليل الهوة أو ردمها بين الفقراء والأغنياء، وذلك بمحاربة الأغنياء الذين يعدون غاصبين للثروة ومخالفين شرع الإسلام، وبذلك التقت أفكاره مع أفكار أبي ذرّ وتوجهات علي بن أبي طالب في عدائهما لتركُّز الثروة بيدِ حفنةٍ من المسلمين، وخاصة من بني أمية قرابة عثمان بن عفان.

من أين استمد أفكاره؟

أفكاره الاشتراكية قد استمدها ابن سبأ من الإسلام ومن الديانات القديمة مثل المانوية والمزدكية والزرادشتية وغيرها كما يذكر شوقي ضيف في "تاريخ الأدب العربي" (العصر العباسي الأول). وتلك الأفكار كانت تدعو إلى الاشتراكية والعدالة الاجتماعية، فماني مؤسس الديانة التي نسبت إليه، نظرَ في الكون والمجتمع، ورأى أن أصل الشرور الملكية هو المال والنساء، فدعا إلى مشاعية الملكية والنساء.

اختلف الناس حوله؛ بعضهم عدّه أسطورة ووهماً ليس له وجود، وبعضهم عده حقيقةً مرت في المجتمع العربي الإسلامي وتركت أثراً واضحاً... عبد الله بن سبأ، دسّاس جاء ليهدم الإسلام أم صاحب رسالةٍ اجتماعيةٍ حملت أفكاراً اشتراكيةً في العدل؟

كما أنه استمدها من الواقع الاجتماعي للمسلمين في ذلك الوقت، حيث الأغنياء يزدادون غنىً والفقراء يزدادون عدداً وفقراً، وجديرٌ بنا أن نستذكر ما قاله سعيد بن العاص والي معاوية على الكوفة: "إنّ أرض السواد بستانٌ لقريش" (نقلاً عن "خلفاء الرسول" لمؤلفه خالد محمد خالد)، وهذا يعني أنّ خيرات العراق لقبيلة قريش وحدها وليست لعامة المسلمين.

موقف السلطة منه ومن المتنورين قديماً وحديثاً

الطبقة الحاكمة في بعض الأحيان وفي كل الأماكن قديماً وحديثاً، ترجم من يخالفها وتسفه من يناقضها ويدعو إلى التجديد والثورة على القائم الذي يكون عادةً ظالماً.

الحاكم من مصلحته ومصلحة حاشيته أن يسود الأمن والاستقرار المجتمعَ، وأن ينقاد الناس ويخضعوا لما يريده هذا الحاكم ولما يحفظ له الاستمرار دون منغصات وخلافات ومشاحنات، غير أن الثورة والغليان والأفكار الجديدة لا بد لها أن تتحرك داخل المجتمع وأن تجد لها طريقاً تشقه نحو غاياتها.

هذه الأفكار تظهر وتنضج أكثر عندما يعم الفساد والظلم المجتمع ويرهق كاهل الإنسان بشتى صنوف التعديات والإعاقات المادية والمعنوية، وتحاول الطبقة الحاكمة جاهدةً وبكل ما تملك استئصال شأفة النقمة وإرادة التغيير التي لابد عاجلاً أم آجلاً أن تصل إلى نهاياتها ومبتغاها.

فهي تسعى لأن تستميل المثقف إلى جانبها بكل محاولات الترغيب والترهيب. تضيق عليه في كل شيء وتجابهه عند كل حين وبكل ما أوتيت من قوة. فالمثقف إما أن يقنط ويستسلم ويكتب ما تريده السلطة وإما أن يداهن ويصانع ويخادع ما استطاع إلى ذلك سبيلاً من أجل تمرير أفكاره، وإن كانت بثوبٍ آخر وهيئة أخرى أو أنه يعلن مجابهته وحرباً لا مهادنة فيها ولا مراء متقبلاً من أجلها ما يمكن أن تجلبه السلطة من نقمٍة واستفزازاتٍ قد تصل إلى حد الإخفاء القسري وخسران الحياة.

ويمكن أن تكال الاتهامات الظالمة والمقصودة في أغلب الأحيان ضد المثقف الذي يريد تغييراً، بل يمكن أن نقول إن الاتهامات قد تكون جاهزةً ومعلبةً تنتظر الفرصة المناسبة لتلصق بصاحب الأفكار المناوئة، التي تهدد عيش السلطة وأمن الطبقة الحاكمة.

ألم يُتهم المعري بالإلحاد لمجرد أنه فكّر، لمجرد أنه بحث عن الحقيقة أو رأى الحقيقة ونظر إليها بعينٍ سليمة؟ وفي وقتنا الراهن ألم تتهم الطبقةُ الدينية المتنفذة المفكرَ والباحث السوري نبيل فياض بأنه ليس مسلماً،  فقط لأنه عارض المألوف ودق ناقوس الخطر؟

ألم يُتهم المعري بالإلحاد لمجرد أنه فكر، لمجرد أنه سبح ضد التيار، ولمجرد أنه بحث عن الحقيقة أو رأى الحقيقة ونظر إليها بعينٍ ليست رمداء ولا حولاء، بل بعينٍ سليمةٍ معافاةٍ، ولمجرد أنه نقد المجتمع العباسي الذي كثر فيه التملق والكذب وتقييد الناس لتحقيق مآرب شخصية بحتةٍ؟ وفي وقتنا الراهن ألم تتهم الطبقة الدينية المتنفذة المفكرَ والباحث السوري نبيل فياض بأنه ليس مسلماً بل هو مسيحي، وإن كانت هذه التهمة ساذجةً ومكشوفةً لا تخفى على ذي عينين، فقط لأنه عارض المألوف ودق ناقوس الخطر في السنوات الأولى لهذا القرن قبل أن تقع الكارثة وتدور الدوائر في سوريا؟

الأمثلة كثيرة والقائمة تطول قديماً وحديثاً، ولكن في كثيرٍ من الأوقات تعمل الطبقة الحاكمة من خلال مثقفيها على جميع الصعد، لإخفاء الحقيقة وتمويهها وحرفها وعرضها لأنها غير حقيقية ومعادية لقيم الشعب وأخلاقياته المقدسة التي لا محيد عنها.

ومن هنا تفعل الطبقة الحاكمة فعلتها المنكرة والخبيثة والمقصودة في تسفيه أصحاب الأفكار الجديدة وعدّهم عملاء للآخرين والأجانب، وأنهم مدسوسون من قبل هؤلاء لتخريب الأمة وزرع البلبلة في جسد المجتمع الذي تصوره السلطة بكافة أنواعها أنه سليم ومعافى ومتماسك، وهو في الحقيقة غير ذلك تماماً، وهذا ما حدث لابن سبأ وغيره من المتنورين الثائرين.


أي تحديث في الفكر وفي المجتمع يجابه ويحارب على أنه بدعة وأنه طارئ ولقيط، وهو تنفيذ لسياسة خارجية استعمارية أو غير استعمارية هدفها تقويض المجتمع وهدم أسسه وتلويث أخلاقياته وزعزعة مسلماته والرجوع به إلى ما وراء الوراء.

ونحن نسأل ولسنا بعيدين لا في الزمان ولا في المكان عندما جدد الرحابنة في الموسيقى والغناء العربيين، ألم يتهموا بالارتباط بالاستعمار وخيانة التراث؟! ولكن بعد أن أصبح غناء وموسيقى الرحابنة من التراث محلَّ تقدير -إذا لم نقل محلّ تقديس- ماذا نقول في هذه الاتهامات؟ وكيف نرد عليها؟

لماذا نعيد قراءة قصة ابن سبأ في أيامنا هذه؟

في النهاية ذهب ابن سبأ وذهبت عصور وعصور وغابت الحقيقة المادية، وبقينا نحن نخاف الفتنة ونعانيها، لأننا عقلية متحجرة لا يمكن لها أن تعترف بالآخر وإن كان مختلفاً عنها ومناقضاً لها لا يمكنها أن ترى التعدد إلا فتنةً (وكلمة فتنة ليس المقصود منها الجمال والسحر الأخاذ ولو أنه يجب أن يكون هو المقصود) وشقاقاً وانقساماً وتسمماً ومرضاً يحيل في النهاية إلى الموت، والآخر المختلف لا ننظر إليه إلا كعدو ومهدد. لماذا لا ننظر إلى الاختلاف على أنه رحمة ونعمة وليس نقمة كما نظر بعض المتنورين اللبنانيين إلى الطوائف في لبنان (زهور متنوعة تكسب لبنان مهابة وجمال وثراء).

العودة إلى ابن سبأ وعصره ليس الغرض منهما الفتنة، وإنما الغرض ألا نكرر أخطاء الماضي وألا تكون هذه الأخطاء ناراً تحرقنا وسيوفاً نغمدها في صدورنا

لماذا لا أتفق مع المخالف وأقرّ له حق الاختلاف وأستعد للدفاع عنه حتى الموت ما دام معترفاً بي، ومنفتحاً عليّ رغم خلافي معه.

كيف لنا أن نعيش ويكتب لنا وطن ونحن في عقلية "يا أهل الشقاق والنفاق"، وعقلية "إني أرى رؤوساً قد أينعت وحان قطافها". لا نريد أن نعيد مرارة "قفا نبكِ"، بل نريد أن نحيا بسلام وتعيش أجيالنا وهي لا تحمل لعنةً مضمرةً أو صريحةً علينا.

نريد أن تعيش أجيالنا بعقلية "ولستُ بأحسنكم"، "كلكم راعٍ وكلكم مسؤولٌ عن رعيته" و " اختلاف أمتي رحمة".

وأخيراً عندما نستظهر ابن سبأ وغيره ونعود للماضي، لا نريد إلا الاستفادة والعبرة، الدرس والاعتراف بالآخر واعتباره مكملاً لنا داقاً ناقوسنا ومؤذناً في مساجدنا وجامعاً لنثير عقدنا وليس مبضعاً للتناحر والتناكر وإيقاظاً لمواجد أحقاد وضغائن لا تغني ولا تسمن من جوع -إذا لم نقل إنها الجوع ذاته-.

زبدة القول إنّ العودة إلى ابن سبأ وعصر ابن سبأ ليس الغرض منهما الفتنة، وإنما الغرض والعبرة ألا نكرر أخطاء الماضي وألا تكون هذه الأخطاء ناراً تحرقنا وسيوفاً نغمدها في صدورنا.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image