شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!
لا تلفزيون في الدار ولا كتاب... صبيٌّ دخل السينما عام 1980 ولم يخرج

لا تلفزيون في الدار ولا كتاب... صبيٌّ دخل السينما عام 1980 ولم يخرج

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الخميس 6 أكتوبر 202201:58 م

الصبي الذي ضحّى بالعيدية، في صيف 1980، وقرر دخول السينما مدفوعاً بالفضول، سحرته أطيافُها فلم يغادرها. عقد اتفاقاً على أن يتتبعها ويتقصّاها. كان العيدُ الصغير، عيد الفطر بعد صيام قاسٍ، مصحوبٌ بأشغال يومية شاقة في الغيط. للمصادفة وحدها فضّل هذا الاختيار. كان ممكناً أن تتبدّد العيدية، ولا يجد أجرةَ السفر إلى مدينة المحلة الكبرى في زحمة أتوبيس النقل العام، ويتأجل الحلم إلى العيد الكبير، وربما إلى أجلٍ لا يعرف مداه.

لا تلفزيون في الدار ولا كتاب

ولم يتوقع اللصوصُ الدائمون في زحمة الأتوبيسات، والموسميون أمام دور العرض في الأعياد، أن في سيّالة جلباب هذا الصبي شيئاً. أفلتت العيدية من فخّ السرقة، وكانت جواز سفرٍ إلى السينما. لا يهم عنوان الفيلم لصبيٍّ لم يشاهد فيلماً ولو في التلفزيون. لا تلفزيون في الدار ولا كتاب. ولا يعرف أن الدنيا واسعة، وأن البشرية وضعت ملامحَ الفنون الستة، وبدلاً من الاستقرار والاطمئنان هبّت عاصفة السينما، عصا موسى، فنّاً "يلقف" ثمار الفنون السابقة ويضيف إليها. ويحتفظ الفن السابع لنفسه باسم يستعصي على الترجمة إلى لغات الشعوب. ظلت السينما "سينما"، كلمة واحدة دخلت كلَّ اللغات تقريباً، واستقرّت باعتبارها "سينما".

الصبي، الذي فتحت له السينما أبواباً على عوالم بلا ضفاف، أضافت الأفلام إلى عمره أعماراً، وأطلعته على بعض السرّ، ورأى اسمه ونسبه في شجرة عائلة يزيد أفرادها كلما صُنع فيلم يستحق المشاهدة، وظلت السينما تثري روحه، متاهة تفوق "ألف ليلة وليلة" خيالاً ومتعةً

الصبي، الذي فتحت له السينما أبواباً على عوالم بلا ضفاف، أضافت الأفلام إلى عمره أعماراً، وأطلعته على بعض السرّ، ورأى اسمه ونسبه في شجرة عائلة يزيد أفرادها كلما صُنع فيلم يستحق المشاهدة، وظلت السينما تثري روحه، متاهة تفوق "ألف ليلة وليلة" خيالاً ومتعةً. كان فيلم العيد، عام 1980، متواضعاً، فلم يحاول أن يشاهده مرةً أخرى. قبل بدء "امرأة بلا قيد" لهنري بركات عُرضت مشاهد إعلانية، سيعرف الصبي أن اسمها "تريلر" لفيلم "الجحيم" لمحمد راضي. وليس في وسع الصبيّ أن يحضر فيلمين بعيدية متواضعة، وعليه الانتظار إلى العيد الكبير ليشاهد "الجحيم".


كاد ضيق ذات اليد يفسد استقبالَ الفرحة بفيلم "امرأة بلا قيد"، بسبب التوحّد مع عادل إمام بطل "الجحيم"، والصبي يشعر بالوحدة، وسط مجموعات من الأصدقاء المحتفلين بالعيد، من المحلة ومن القرى القريبة والبعيدة. لا أحد بمفرده إلا الصبي الذي يلملم في الإظلام المفاجئ جلبابَه، خوفاً على بقايا قروش يشتري بها ساندوتش فول من محل "البغل"، وكوب عصير قصب. والأهم من الفلوس هو الجلباب الجديد في مقاعد الدرجة الثالثة، "الترسو" المشتعل بالتصفيق والتصفير كلما ضرب البطل غرماءَه. ويستمتع الأشقياء الساديون بإطفاء السجائر في ثياب الجالس أمامهم، والصبي عرقان، محموم بنشوة داهمة تشعلها "امرأة بلا قيد"، كارمن المصرية. غجرية تجسدها الممثلة نيللي في ذروة أنوثتها.


العالم بعيون المخرجين

الصبي الذي استجاب لنداهة السينما رأى العالم بعيون المخرجين، واكتشف أن كل إبداع يؤدي إلى السينما، وأن لكل مبدع في السينما نصيباً، أيّاً كان الفن الذي يجيده. وانجذب الصبي إلى أرباب الخيال ولو من غير السينمائيين. سوف يقابل يحيى حقي ونجيب محفوظ ويوسف إدريس وأدونيس وسعدي يوسف ومحمود درويش وكمال الشيخ وصلاح أبو سيف ويوسف شاهين، ويحضر لقاءً حاشداً لمارتن سكورسيزي في مكتبة الإسكندرية. سوف يكتشف ألا توجد له صورةٌ مع أيٍّ منهم، باستثناء نجيب محفوظ، فالأضواء تربكه، وهو مصاب بفوبيا الميكروفون، ويحسد جسورين يُفنون أعمارهم في صحبة الكاميرا.

الصبي الذي استجاب لنداهة السينما رأى العالم بعيون المخرجين، واكتشف أن كل إبداع يؤدي إلى السينما، وأن لكل مبدع في السينما نصيباً، أيّاً كان الفن الذي يجيده

الصبي الذي سحره تريلر فيلم "الجحيم" لم يشاهده في السينما. وبعد أكثر من ثلاثين عاماً جمعته في أبو ظبي مصادفةٌ بمدير تصويره ماهر راضي، وحكى له واقعة فيلم العيد والتريلر. شرح مدير التصوير دلالةَ استخدامِ ألوانٍ بعينها في الإضاءة والديكور. وعزف الشاب عن مشاهدة فيلم كان يلائم أشواقَ صبيٍّ حافَظَ على جلبابه من حروق السجائر. وقرأ رواية "الطريق" لنجيب محفوظ، وشاهد معالجتين سينمائيتين واقعيتين دون المستوى الفلسفي للرواية.

محفوظ هزم حسام الدين مصطفى مخرج "الطريق"، وأشرف فهمي مخرج "وصمة عار". وحين قرأ رواية جيمس كين "ساعي البريد يدق الباب مرتين" نزّه نجيب محفوظ عن احتمال اقتباس روح رواية جيمس كين. لكن صديقه الفلسطيني أحمد عمر شاهين، مترجم الرواية، عزّز الشك.

الصبي الذي سحرته الأفلام أقرّ بهذا الأسر المختار، ولا يودّ الشفاء. وإذا اضطرّ إلى المشاهدة عبر شاشة أليفة، لا شاشة السينما، استعد بما يليق بجهدِ صناعِ هذه الأفلام؛ فلا يمتهنها، وإنما يجهز ما يشبه الخلوة، ويبدأ المشاهدة عادة بعد منتصف الليل، ولا يهمه متى ينتهي.

حدث مرة، أيام أشرطة الفيديو، أن شاهد "جسور ماديسون"، ولم يشبع من طيف ميريل ستريب، فأدار فيلماً يشاهده للمرة الأولى، عنوانه "الوقوع في الحب". اختار الفيلم الثاني على شرف السيدة ميريل، وكافأه الفيلمُ بوجود روبرت دي نيرو. وكانت الشمس قد أشرقت، ولا يستطيع النوم بعد جرعة مكثّفة، فبدأ يوماً جديداً بكامل نشاطه.

الخلوة بشكل آخر فرضها فيروس كورونا في عزّ سطوته، فقرأ سيرة إنغمار برغمان، وقرر مشاهدتَه مجتمعاً، وكذلك أبرز أعمال دي نيرو، منذ البدايات، وخصوصاً مع سكورسيزي. دخل متاهةً جديدة، يشاهد "The Mission"، فيحيله إلى فيلم آخر لمخرجه رولاند جوفي، فيستأذن دي نيرو ليشاهد "The Killing Fields". يحدث هذا أيضاً إذا تصادف احتياجه إلى مراجعة فيلم شاهده منذ سنين. يشاهد "1900" لبيرتولوتشي، فيترك دي نيرو، ويذهب إلى "التانغو الأخير في باريس". من أجل عيون براندو لا يستأذن أحداً.

الصبي الذي تسلل ودخل السينما وحيداً يتورط ولا يعتبر ما يشاهده أفلاماً، ينسى نفسه بحضور ضياء الشريط، وقد دمعت عيناه مراتٍ أثناء المشاهدة. بعض هذه النوبات وهو يشاهد أفلاماً للمرة الثانية أو الثالثة. أبكته سعاد حسني في إحدى مرات مشاهدة "الزوجة الثانية"، وهي تنبه زوجَها إلى سقوط أمّه، في رحلة الهروب ليلاً من الطاغية: "أبو العلا، الْحَقْ، أمك وقعت". أبكاه نداءٌ من قلب فردوس محمد، في فيلم "ابن النيل"، وهي تنادي ابنها وتحذره وقد جاء الفيضان. وكذلك مع الاعتراف غير الصادق لريم التركي، في إجابتها عن سؤال محقق إسرائيلي، في فيلم "باب الشمس".

الصبي الذي دخل السينما في صيف 1980 لم يخرج. غادر عتمة القاعة إلى شمس العيد، وتناول الساندوتش وعصير القصب. واستقر الطيف في لا وعيه، واستجاب إلى "الندّاهة". من وقت إلى آخر يسعى إلى ردّ الجميل بالكتابة، ويفاجئه البعض أحياناً بوضع صفة "الناقد السينمائي"، فيعجب، ويظن المقصود شخصاً آخر، ويكاد يصرخ: لستُ ناقداً ولا سينمائياً. أنا ذلك الصبي. ذلك الصبيُّ هو أنا.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard