المفاهيم
وحش عملاق يبتلعني
وحش عملاق يركض خلفي، أجري كعدّاءة أمامه. لا أستطيع الهرب منه. يطاردني من كل الزوايا. منظره مخيف. له فم واسع وأنياب طويلة. كأنه سيبلعني في ثوان. الأكثر غرابة لما توقفت فجأة عن الجري توقف هو الآخر. استجمعتُ شجاعتي وحدقتُ في عينيه مباشرة دون خوف، نظر إلى الأرض بخجل، وانكمش على نفسه. تحولت الضخامة إلى صغر، والجبروت إلى ضعف.
استغليتُ الموقف، صرخت في وجهه، فأخذ يصغر ثم يصغر حتى أصبح أصغر مني، بالشكل الذي قد يُمكنني حمله كحقيبة يد، وهكذا استطعت ترويض العمل الذي طالما ابتلعني بلقمة واحدة دون رحمة.
غربة أنوثتي في ألف سجن
آخر خمس سنوات حولني العمل إلى آلة، إلى الدرجة التي بت أنسى نفسي وأنوثتي بسببه. أنوثتي! تبدو الكلمة غريبة على مسامعي. فلا أحب التصنيف الجندري، يشعرني بالعنصرية، أحب استبدال ذكر بإنسان، وأنثى بإنسانة، لكن في الحقيقة لابد أن أذكّر نفسي بها، لأن الحياة والعمل والضغوطات تنسيني إياها كثيراً.
أنا أنثى، أعتز بأنوثتي، أمتلك وجهاً بشوشاً أبيض، لي غمازتان تطلان من كل خد، تظهران عندما أبتسم أو أضحك من قلبي، فيكون أول تعليق لمن يراني. لي شعر أسود طويل منسدل ناعم، خارج البيت أتخيله طيراً محبوساً في قفص، يريد الهواء، والتنفس، لكنني لن أقدر على فتح الباب له، لذلك يتمرّد أحياناً، وتطل بعض خصلاته من طرحتي، فأسارع بدسّها حتى لا أشعر بالذنب. أعتني به في منزلي؛ لأعوضه عن حبستي له. أنا أنثى ذات جسد متوازن بين النحافة والبدانة، أنظر كل يوم لنفسي في المرآة، وأسأل نفسي بصدق: بأي نسبة تشعرين إنكِ أنثى؟
للأجساد صوت ولغة
في بعض الأيام، لكثرة المهمات والأنشطة والأعمال أشعر أنني رجل، وأيام أخرى أستسلم لاحتياجي للراحة، أغنّج نفسي، أهتم بشعري، أعمل الباديكير والمانيكير، أذهب إلى صالات الجيم لحجز الزومبا، وعيادات الأسنان لتنظيف أسناني، وقتها أنظر لجسدي كطفل، أحن عليه بأمومة نابعة من شعوري بتعبه واحتياجاته التي تجاهلتها طويلاً.
رحمي مصنع الرحمة، صدري منبع الأمومة، وحضني منشأ الحنان. تخلق طاقتي الأنثوية في لحظة تلامس جسدي وروحي آلاف المعجزات التي تشبه الميلاد الأول، أنين، دموع، عرق، حُمرة، ضربات قلب سريعة، ثم هدوء، راحة، أمان، توحد، سعادة، شعور بالخفة... مجاز
كثير منا لا يهتم بسماع صوت جسده، الأجساد لها صوت ولغة، تخبرنا كل يوم مئات الرسائل، لكن نصم آذاننا عنها، نتجاهلها، الأمر يشبه طفلاً كثير البكاء والالحاح كل يوم، بينما قرّرت الأم تجاهله ليصمت من نفسه بعدما يملّ، لكنه لا يملّ، بل يضرب بقوة إن وجد التجاهل عظيماً، لذلك قد نصحو ذات يوم لنجد كدمات زرقاء في أجزاء متفرقة من أجسادنا، أو دور انفلونزا مفاجئ يستلزم راحة إجبارية، أو مرضاً مزمناً لا علاج له. إنه ينبهنا أننا في خطر، وأنه لن يسأم حتى يصل إلى احتياجاته.
استراق السمع لكل تنهيدة
عندما يروق البال في لحظات نادرة، أنظر إلى نفسي في المرآة، أدقق النظر على كل تفصيلة فيه، النهدان، الخصر، الوجه، العينان، الأنف، الشعر، التناسق العام لملابسي وهندامي. أقولها بصوت مرتفع: "جسد جميل، وأنا جميلة".
لا أنتظر عبارات الثناء من أحد منذ دربت نفسي على الحصول على الثقة والحب والدعم مني، منذ أدركت ضرورة التواصل مع الطفلة الداخلية التي تعيش فيِّ، وأنا أتكلم معها كل يوم قبل النوم. أسألها بوضوح: هل أنتِ سعيدة، هل تشعرين بحزن، ضعف، خذلان، انكسار؟ ماذا بكِ؟ احكِ لي، أسمعها جيداً، كل تفصيلة، تنهيدة، دمعة، أحتوي الحزن وأواسيها، أهوّن عليها كل ما لاقته، الأهم ألا أحقر من أي شيء أحزنها، ولو كان بسيطاً، ثم أحرص بعدها على إسعادها.
لا أنتظر عبارات الثناء من أحد. دربت نفسي على الحصول على الثقة والحب والدعم مني. أتكلم مع الطفلة بداخلي كل يوم قبل النوم. أسألها بوضوح: هل أنتِ سعيدة، هل تشعرين بحزن، ضعف، خذلان، انكسار؟.. مجاز
عشيق متنكر في تفاحة جدي
الغناء عشيقي المُتنكر في تفاحة جدي. أحياناً أتأمل هذه التفاحة التي تستقر داخلها أحبالي الصوتية، ثروتي المدفونة، كنزي الذي لا يعلم عنه أحد، أجيد تخبئته جيداً، كي أسرق من الدنيا لحظات من الصفاء الروحي وحدي. أقف أمام المرآة وأغني، تبدأ النغمات الموسيقية في الخروج من فمي كفراشات هائمة، تشكل دوائر، تلف حول بعضها وتصنع طاقة من النور. أشعر بأن قدمي لا تلامس الأرض، تبدأ في الارتفاع رويداً رويداً حتى أشعر بالطيران. أما أثناء العمل فأشعر باغتراب ووحشة، وأظل أردّد تلك القصيدة بصوت غير مسموع:
ماذا لو صرخت حنجرتي غناءً
فانفجرت منها المقامات
وتحولت كرات دمي لكرات موسيقى وشعر
تجري في عروقي
لأتنفس الفن وآكل محبته
وأشرب من بحر الإبداع
لأعود به لظمأي الأول
وقتها سيهدم صوتي الأحزان المسلحة
ويعيد بناءها ناطحات فرحٍ
تعانق السماء
فتخلع روحي رداء جسدي الرث
لترتدي جناحي يمامة
ترفرف حباً وحرية.
من رحمي تولد الحياة
أنا حواء، من رحمي تولد الحياة. استخدمه الله لتعمير الكون بمليارات البشر، بدونه ينقرضون، وبدوني يشقى آدم، تتحوّل حياته إلى بؤس وجفاء وشقاء، فأنا الطرف الناعم الحنون العطوف الرقيق في المعادلة.
رحمي مصنع الرحمة، صدري منبع الأمومة، وحضني منشأ الحنان. تخلق طاقتي الأنثوية في لحظة تلامس جسدي وروحي آلاف المعجزات، تتجلى كل المشاعر الإنسانية في تلك اللحظة التي تشبه الميلاد الأول، أنين، دموع، عرق، حُمرة، عدم قدرة على التحكم، استرخاء، شهيق، زفير، ضربات قلب سريعة، ثم هدوء، راحة، أمان، انسجام، تلاحم، توحد، سعادة، شعور بالخفة، ثم أطير؛ لأعود إلى الجنة التي طُردنا منها أنا وآدم.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 18 ساعةرائع
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.