شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
داليا السوداء، قلبها مغلف بالجليد وتسير متشحة بالسواد

داليا السوداء، قلبها مغلف بالجليد وتسير متشحة بالسواد

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مجاز

السبت 3 ديسمبر 202212:32 م

حياكة الكلام



كتبت قصيدة "برلين" وأعجبتها ولم تفهم المغزى منها، قم بتسجيلها بصوتي لعل المشاعر تصل، ولكنها لم تعِ ما أقول. شرحت لي بعدها أنها لا تحب برلين وتفضل المدن الأقل صخباً في ألمانيا. كتمت ما أود أن أقوله وقمت بتغيير الموضوع. ظلت تثرثر عن مديرتها السويدية التي تزعجها في العمل وتريد أن تستغلّها لكي تعمل جليسة أطفال لابنتها، وعندما رفضت ظلت تضايقها وتتصيّد لها الأخطاء، ثم قرأت لي رسالة بريد إلكتروني طويلة باللغة الألمانية لم تعجب مديرتها، وطلبت منها تعديلها مرات ومرات.

ظلت تثرثر باللغة الألمانية والعربية لمدة ساعة كاملة. داليا السوداء قلبها أبيض وتتشح بالسواد وأنا أحبها.

ستة أمتار تفصلنا بينما نسير في شوارع موسكو. تحب أن تلعب بينما نسير، في كل مرة تخترع فكرة جديدة. أسير خلفها وهي تسبقني، وأسرق نظرات خفية إلى جسدها. لا تلاحظ، وتلتفت لي مبتسمة ببلاهة، ثم تخلع حذاءها وأرى قدميها للمرة الأولى: سمراء، مقاس 37 على الأكثر، تترك آثارها على جليد موسكو. تضحك بفتنة قاتلة، متلذذة بالصقيع الذي يقتل خلايا أقدامها ويلدغ قلبي أنا.

أرسلت لي صوراً مؤسفة من فرانكفورت لساقها اليسرى، وقد كسرتها وهي تركض في الشارع خلف صديقتها السورية. خرجتُ عن كل آداب الحشمة واللياقة وتغزلتُ بيني وبين نفسي بصورة ساقها المكسورة داخل الجبيرة، وبدلاً من أن أعبر عن فتنتي بها: "ساقك جميلة"، أرسلت لها قائلاً: "تقومي بالسلامة".

كانت لحظة إفطار صباحية جميلة عندما لمست غوايتها الأولى قلبي. قليل من الجبن المصري والفول بالزيت والليمون و الطعمية. تجلس أمامي تأكل كأي فتاة مصرية، تلعق بقايا الجبن من على أطراف أناملها في تلذذ ولامبالاة بمن حولها. أحاول التركيز في لقمة الفول التي أرفعها إلى فمي وأنظر إلى الطبق: نحن في شركة خاصة وأنا مديرها، ولا ينبغي أن تفلت مني نظرة ذكورية طويلة إلى لسانها وفمها، مهما بلغت فتنة مرؤوستي التي تكاد تحطم عشر سنوات من الاحترافية والحفاظ على أخلاق العمل المهنية!

ستة أمتار تفصلنا بينما نسير في شوارع موسكو. أسير خلفها وهي تسبقني، وأسرق نظرات خفية إلى جسدها. تخلع حذاءها وأرى قدميها للمرة الأولى: سمراء، مقاس 37 على الأكثر، تترك آثارها على جليد موسكو. تضحك بفتنة قاتلة، متلذذة بالصقيع الذي يقتل خلايا أقدامها ويلدغ قلبي أنا... مجاز

تأخذني إلى الخارج وتشتكي لي من زميلة في العمل، وتكاد تبكي لأنها شعرت بأن الأخرى تنتقص من قدراتها في العمل. كانت "سوداء" هذا اليوم أيضاً، ترتدي جينز أسود و "هاي كول" أسود وتضع كحلاً أسود، سال بعضه على الخد لسبب أراه تافهاً. أريد أن أمسحه عنها والاحترافية تمنعني، وأريد ان أدخل لأحطم رأس الزميلة التي أسالت كُحل عينيها ولكني مديرهما معاً.

أكتفي بنظرة عميقة إلى نني عينيها الأسود الكاحل العميق المنكسر الحالم المُلهم وأبحر معه للحظات وأنا أركض خلفها في روما، وأجلس بجوارها في متحف باريسي نراقب لوحة تعبيرية، أو أقرأ لها أشعاري في فينسيا!

"سوف أتحدث مع هايدي في الأمر".

تبوح لي بسر عظيم بينما أقتادها من المطار إلى منزلها في القاهرة: "إن أنجبت بنتاً سوف أطلق عليها جاذبية، تيمناً بجاذبية سري... هل تعرفها؟".

داليا السوداء، قصيدة لا تزال في مراحل الكتابة الأولى. داليا السوداء، جريمة قتل غامضة في القرن السابق. داليا السوداء، رواية لا يزال مؤلفها مجهول الاسم

أضحك رغماً عني، وتلكزني في كتفي، وأشرح لها أن الفنانة التشكيلية العظيمة لم تعش في عصر يتنمّر فيه الأطفال على بعضهم البعض كما يشربون الماء.

تعارضني: "تخيّل جاذبية رامي". أسأل: "من رامي؟". وترد بأنه مثال، "جاذبية حسام"، تكمل: "ما رأيك؟".

أصمت وأنظر لها كالصنم. "شوفت… جاذبية حسام". أكاد اصطدم بسيارة جيب أمامي من حلاوة نطقها للاسم. اقترن اسم طفلتها المستقبلية باسمي. "إجازتي ستة أيام ، أريد أن أراك فيهم بشكل يومي"، قالت لي وهي تغادر السيارة.

ستة أيام وأقابلها مرة أخرى في فرانكفورت. قامت بحجز تذكرتين لحفل موسيقي لفرقة عربية في زيارة للولاية لكي نذهب معاً. مرت سنوات عديدة قبل أن ألمح طيفها. أحبّت الموسيقى مني، عندما كنت أحادثها عن الفروق بين الروك والجاز، وأسماء الفرق العربية المستقلة. أحب الحماس الذي يشعّ من لمعان عينيها عندما أُسمعها موسيقى جديدة.

تذكرني بذلك كله ونحن نقف متكاتفين وسط الحفلة المقامة في ملعب مفتوح. "لا أتخيل عدم وجودَك في حياتي"، تتحدث ببساطة وقد غطت اللكنة الألمانية بعض حروفها العربية، "صاحبي اللي عمري ما هالاقي زيه". تحرص على أن تباغتني بصدمة إطار الصداقة الذي تضعني فيه. أعرفها منذ ست سنوات، ولا تنفك تكرّرها. هذه المرة سوف أتظاهر بعدم السمع وأترك كتفي في كتفها لمدة أطول، تضع رأسها على ذراعي مع دخول أغنية "راحت يا خال" للفريق الأردني الذي سمعت عنه لأول مرة مني: "أوتوستراد". "حلو أوي".

تجيد هي تنغيم صوت الحروف المتحركة فتمد "حلووووو أوي ي ي ي"، بينما تأكل كورن فليكس باللبن في كافيتريا الشركة قبل خمس سنوات. "تقصدين اسم الفريق أم الكورن فليكس؟". "هما الإتنين علشان منك".

أرسلت لي صوراً مؤسفة من فرانكفورت لساقها اليسرى، وقد كسرتها وهي تركض في الشارع خلف صديقتها السورية. خرجتُ عن كل آداب الحشمة واللياقة وتغزلتُ بيني وبين نفسي بصورة ساقها المكسورة، وبدلاً من أن أعبر عن فتنتي بها: "ساقك جميلة"، أرسلت لها قائلاً: "تقومي بالسلامة"... مجاز

كانت قد طلبت مني هذا النوع من الكورن فليكس تحديداً، شاكية انها لا تجده في مصر كلها، ما تركت مكاناً إلا وسألت فيه حتى وجدته. نوع خاص جداً للحمية الغذائية التي تتبعها، خالٍ من الجلوتين، وكانت المرة الأولى التي أفهم فيها هذا الأمر! وضعت في أذنيها سماعات الأذن وقمت بتشغيل أغنية "راحت يا خال". تأكل بتلذذ وتستمتع بجميع حواسها:

راحت يا خال…

قالت لي روح…

لا الناس يشوفونا…

والخبر يفوح….

تغني بصوت عال بينما نسير في الطريق لمنزلها الذي يبعد عن مكان الحفل ستة كيلومترات في درجة حرارة 3 مئوية. برودة سيبيريا لا تعني لي شيئاً مادامت بجواري، بل برودة العالم، دفء يسري في عروقي مبعثه لهيب ذراعها الذي يتأبطني!

"أسير وحدي في هذا الشارع بدون صحبة، أنت الصحبة والصاحب. له طعم مختلف وأنت معي. هل تذكر أول إفطار لنا معاً؟ لقد افتقدت الفول والشمس!".

تقف هناك بفستان صيفي قصير يكشف ساقيها في يوم من أيام شهر أغسطس في منطقة الساحل الشمالي، كانت في إجازة بمصر وسافرت مع أهلها للمصيف وكنت هناك بالصدفة البحتة. كانت بصحبة أهلها وكنت بصحبة أهلي، قبل يوم الحفلة بحوالي عامين.

أمسكت بيدي وعرّفتني على أهلها. تشبه الأب أكثر، تحبه وتدين له بالكثير، أشعر أنه يشبهني بشكل ما، اللون الأسمر والرأس الصغير والصمت. أريد ان أقول له "أحبها". كم أحسده لأنه يقولها لها ببساطة. أشعر بالغيرة. هذا هو الوقت الأنسب لكي أحدثه عن حبي لها. أسير عدة أمتار وأدعو أبي وأمي للتعارف وأتقدم لها بشكل رسمي! أطرد الهاجس، لا أضمن رد فعلها، ولكني أشعر بالألفة هنا، نادراً ما أشعر بالوطن داخل الوطن. هي الوطن، أم هي الغربة؟

أمها تختلس النظر إلي من وقت لآخر، والمفتون قد يكون مفضوحاً أمام السيدة الوقورة الخبيرة بالأمور، والمتيّم عشقاً يظهر من عينيه، ما بالك وأنا أجاهد لكي أتحاشى النظر إلى عينيها وساقيها وشعرها! هل حكت للأم شيئاً؟

"لقد أخبرت أمي عنه". أصمت للحظات بينما تحدثني من فرانكفورت عبر فيسبوك بشكل طارئ لتحكي على عن علاقة جديدة مع شاب عربي، وتريد نصيحتي. داليا ملأت قلبي بحبر أسود، وغمرتني بالدموع.

أقول لها أن تتريث قليلاً حتى تتأكد منه، وتطلب مني ألا أكتب لها أي رسائل مباشرة أو غير مباشرة على وسائل التواصل كما اعتدت أن أفعل. داليا السوداء ذات قلب أبيض كالجليد. لن أكتب شيئاً بحبرك الأسود!

تبكي بشدة في آخر يوم لها داخل الشركة وهي تودعنا. المدير المحترف لا يبكي لفراق أحد، يتعلم ذلك في غياهب سجون الشركات الدولية. لا يقف العمل على شخص، ولكن قلبي يكاد يتوقف. لا تسمع هي النبض، وتهديني لوحة فخمة مكتوبة بالخط الفارسي "روح". تنظر في عيني وتقول: "أنت جميل الروح". تشكرني بحرارة على خطاب التوصية الذي حرّرته بنفسي لكي ترسله إلى أحد جامعات فرانكفورت لدراسة الفنون الجميلة. هممت بأن أرد: "أنت جميلة"، ولكن اكتفيت بنظرة إلى رموشها السوداء الطويلة.

تبكي بحرقة مرة أخرى وهي تجلس معي في أحد المراكز التجارية بالقاهرة، تغالب الحروف وتغالبها ولا تغادر اللكنة الألمانية حروفها: "هل تركني لأني قبيحة؟ هل أنا قبيحة؟ غبية؟". كنت قد غادرت الشركة ولم أعد مديرها. لا لوم إن احتضنتها الآن بعد ست ساعات من صحبتنا، ولكن داليا السوداء الحزينة لا تريد حبيباً. لست أنا ولن أكون.

ست رسائل لم أرد عليها، وستة أشهر من القطيعة، وست سنوات من الحب اليتيم، وستة وعود بالمقابلة خلفتها أنا كلها.

داليا السوداء، قصيدة لا تزال في مراحل الكتابة الأولى

داليا السوداء، جريمة قتل غامضة في القرن السابق*

داليا السوداء، رواية لا يزال مؤلفها مجهول الاسم

داليا السوداء، قبّلتني في الحلم فقط

داليا السوداء، لم ترتد الأسود منذ فارقتها وفارقتني.

* مقتل ممثلة أمريكية مغمورة في الخمسينيات لقبها "داليا السوداء" وقد قيدت القضية ضد مجهول.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image