حياكة الكلام
بدا أن أحدهم يشرح على الجانب الآخر من الهاتف تفاصيل العنوان؛ بينما يسأله الشاب الجالس خلفي بالمقعد الأخير بنبرة متحرج: "إنت متأكد يا باشمهندس؟ دي أول مرة أسافر القاهرة، معلش تعبتك معايا".
- "البوابة التالتة لو سمحت".
العجوز، بالمقعد الأول خلف السائق، مدّت نصف ساقها على الكرسي واتكأت بظهرها على زجاج الشباك. رمقت من بالخلف بسأم. كانت صامتة بوجهٍ عارٍ إلا من طرحة سوداء شفافة تلامس تجاعيد جبينها. قبل أن يغادر الميكروباص موقف المدينة الساحلية، انتبهتُ إلى شابة خارج الزجاج تلوّح لها. مدّت ذراعها الأيسر خارج الشباك، فغرزت فيه حقنة الأنسولين، وقالت: "يا ماه، إنتِي صاحبة عيا، حطي الكمامة طول الطريق".
- "بوابة تلاتة لو سمحت يا أسطى".
على فترات متقطعة ينادي الشاب بصوت خجول من خلف كمّامة زرقاء مثبتة بدقة ما بين أنفه وذقنه، والسائق لا ينتبه. راكب الكرسي القلاب يؤكّد له بنبرة باردة أنها لا تزال بعيدة، ولا داعي للقلق. يخفّ ضغط الحذاء الجديد حول قدمي، فيما يغط محترفو السفر الطويل في النوم دون أن تميل رؤوسهم على صدورهم. لا شيء هنا يحرّض على الصحو. تحاصرنا رمال الصحراوي الخالية من الحياة.
المسافرون الجدد والأطفال وحدهم الذين لا تغفوا أعينهم. أشياء غامضة تؤرقهم، وتلوّن توقعاتهم عن رحلة ذهاب قد لا يتبعها عودة. يراقبون الوقت بابتسامات خافتة تستحي أن تطلب ود الفضفضة بطريق سفر طويل.
الفتاة التي تجلس بجواري تفرك أصابعها وتطرق رأسها خجلاً، ويحمرّ خداها كلما سمعت الشاب ينادي السائق برقة، والجالس بجواره يبتسم بخبث. يظنه مثلياً، ويهمس بأذن جاره، بأن صوت أخته الصغيرة "أرجل مِنه"... مجاز
فجأة اكتشفت أن الفتاة الجالسة بجواري تشبهنني كتوأم. هل يمكنني أن أستغلّ درجة الشبه الكبيرة، لأسألها عن مقاس قدميها؟!
(اللعنة على محلات الديب للأحذية)
لماذا لا تضع العجوز كمامتها؟ الشاب الجالس بجوارها لا يكف عن وضع إصبعه بأنفه، وهرش رأسه كل خمس دقائق.
صوت الراديو أصبح مُزعجاً حينما قرّر الشيخ الجالس بجوارنا ترديد الآيات نفسها بصوتٍ عال.
- "بوابة تلاتة معاك يا أسطى".
هل تكتم الكمامات أصواتنا؟ لماذا يبدو الشاب هادئاً هكذا؟ ألم يعلّمه أبواه كيف يغضب لو تعمد آخر تجاهله، كيف يأخذ حقه بعد استنفاد كل الطرق المشروعة؟ نطلب الأشياء بأدب، لكن للأدب حدود، وللصبر أيضاً، الذوق ليس مبرراً، والفتاة التي تجلس بجواري تفرك أصابعها وتطرق رأسها خجلاً، ويحمرّ خداها كلما سمعته وهو ينادي السائق برقة، والجالس بجواره يبتسم بخبث، يظنه مثلياً، ويهمس بأذن جاره، بأن صوت أخته الصغيرة "أرجل مِنه".
لا أعرف الحل، ما أعرفه أن كل المسائل لا يمكن حلّها بنفس الطريقة. ماذا لو استبدلنا الأماكن، ليجلس هو بجوار الفتاة التي تشبهني، ربما تكون فرصة جيدة لشدّ انتباه سائق يهزّ رأسه في المرآة الأمامية، بإيماءة عمياء باردة لا يمكنها أن تؤكد أو تنفي أي شيء.
لو رفعت صوتي بالنداء بدلاً منه؛ سيظنّ البغل الذي يجلس بجواره أنني أحاول لفت نظره بحركة مصطنعة وربما تصور أنني سأمرّر له ِمنديلاً ورقياً مكتوب عليه رقم هاتفي، وأنا لا أحب نباح الكلاب بشارع أسير فيه، حتى وإن كنت لا أخشاهم.
"اللعنة على محلات الديب للأحذية، كيف سأكمل اليوم بحذاء ضيق؟".
قلت له ثلاث مرات إني أحتاج مقاساً أكبر، فابتسم كثعلب وهو يؤكد لي بأنها "بتوسع في المشي"، وبأنه طالما الكعب فوق الكعب فقدماي في "جزمة أمينة"، قبل أن يشهد زميله بأنها "هتاكل من رجلي حتة"... مجاز
الشاب الخجول مُشكلته تخصّه وعليه حلها. لماذا أشغل رأسي الآن فأنا متورطة؛ هو مشواري الأول للقاهرة، أخيراً سأصبح صحفية، ولو بجريدة مغمورة ناشئة لا يعرفها سوى رئيس تحريرها وثلاثة آخرون ليس من بينهم عم رزق بائع الجرائد بشارعنا.
لم أكن سلبية، لقد حاولت. قلت له ثلاث مرات إني أحتاج مقاساً أكبر، فابتسم كثعلب وهو يؤكد لي بأنها "بتوسع في المشي"، وبأنه طالما الكعب فوق الكعب فقدماي في "جزمة أمينة"، قبل أن يشهد زميله بأنها "هتاكل من رجلي حتّة".
- "البوابة التالتة يا أسطى معلش متنساش".
قالها بخجل للمرة الرابعة، قبل أن نسمع صوتها: "بوابة تلاته، عمو بيقولك!".
بحروف متقطعة نطقتها الصغيرة التي تجلس على قدمي أمها، بجوار السائق، لكزته بكتفه مرّتين لتتأكد من انتباهه، قبل أن تعاود مداعبة الهواء بكفين طائرين، وابتسامة كبيرة ملأت المرآة الأمامية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...