يا زاير سطيف أهلاً بيك في بلاد الهضاب
عين الفوارة تروي العطشان واللي جاها ما غاب.
(الشاعر الجزائري الصادق غربي)
بعض الأشياء تتجاوز معانيها نطاقيها، وتتحول إلى نقاط تماس بين الأضداد، فتنسج الأساطير وتدور المعارك حول أفكار أبعد من حيزها، وصراعات تتجاوز محيطها...
تمثال المرأة العارية في عين الفوارة في الجزائر، والذي حاول رجل مخمور تدميره الأسبوع الماضي، مثال حي على ذلك.
حباً بالجمال أم كرهاً بالصلاة؟
المتفق عليه، أن تمثال المرأة العارية المصنوع من المرمر، نحته الفنان الإيطالي فرنسيس فيدال، في تموز/ يوليو 1898، ليشارك به في احتفالية مرور قرن على بناء اللوفر.
لكن المختلف عليه، هو لماذا وصل ذلك التمثال إلى المدينة الجزائرية سطيف؟
تقول الرواية الأشهر، إنه في أثناء معرض مئوية اللوفر، شاهد الحاكم العسكري التمثال وفُتن به، فقرر حمله إلى سطيف "عاصمة الهضاب"، في الجزائر، لتزيين أهم ميادينها.
لكن على صعيد آخر، تبنّى "الإسلاميون" مؤخراً سرديةً أخرى يطغى عليها الطابع التآمري على الإسلام، فحواها أن اختيار ذلك التمثال، وتلك النقطة تحديداً، لوضعه لم يكن وليد الصدفة، وإنما أتى بقرار مدروس من الحاكم الفرنسي الذي أمر بنحت تمثال لامرأة عارية يوضع أمام المسجد العتيق فوق العين التي يتوضأ منها المسلمين، لإلهائهم عن الصلاة، وتشتيتهم عن إسباغ الوضوء.
اعتداءات لا تتوقف
مع تنامي المد الإسلامي، والنزعة المحافظة في الجزائر، بدأت سلسلة الاعتداءات على التمثال من قبل أناس يرونه فناً إباحياً يخالف شرع الله.
ففي عام 1997، وضعت جماعة مسلحة قنبلةً بجانبه، ليتم بعدها ترميمه، لكن المحاولات لم تتوقف لتشهد سنة 2006، محاولةً أخرى، ثم في 2017 سعى شخص -وُصف بأنه مختلّ عقلياً- إلى تدميره بمطرقة.
وأخيراً وليس آخراً، تعرض التمثال في الأيام الماضية لمحاولة تدمير جديدة، حين قام شاب وهو في حالة سكر بكسر أجزاء من يده اليسرى وثديه الأيسر، قبل أن يتدخل عدد من المواطنين وعناصر الأمن لإيقافه.
في الوقت الذي تنفتح فيه السعودية على الفن يوماً بعد يوم، تُدمَّر التماثيل في الجزائر انتصاراً للسلفية
بلد الهضاب
تُسمى سطيف بمدينة عين الفوارة، نسبةً إلى نافورة الماء التي تتوسط ساحة الاستقلال حيث يتجمع السياح والمواطنون للشرب أو الوضوء من ماء النافورة التي تعلوها منحوتة المرأة العارية.
الجدل حول هذه المنحوتة التي تشكل جزءاً من تراث المدينة الحضاري، استمر لسنوات إذ يرى البعض أن التمثال خادش لحياء المصلين، لأنه يحاذي المسجد العتيق في المدينة، كما طالب آخرون بإزالته لأنه صنم وشرك بالله.
بينما يرى البعض الآخر أن التمثال جزء من تاريخ المدينة، وهو معلم أثري يساهم في استقطاب السياح والزوار، فحسب مديرة حصن قصر رياس البحر، السيدة فايزة رياش: "سكان سطيف اعتادوا على وجود التمثال، فهو رمز ثقافي للمدينة، وهو تحفة فنية جميلة، ما لم يتقبّله البعض هو محاذاته للمسجد".
وتضيف رياش: "المخرّبون لا يمثّلون كل المجتمع الجزائري. يجب تغيير الذهنيات. هذه مجرد تماثيل لا نعبدها بل هي ممتلكات ثقافية وغنيمة حرب وتعبّر عن حقبة زمنية مرت على الجزائر، وجب الحفاظ عليها من خلال زرع الوعي لدى المجتمع بضرورة الحفاظ على الممتلكات الثقافية".
هل حان وقت نقل تمثال عين الفوارة إلى المتحف؟
على صفحات التواصل الاجتماعي دار النقاش كالعادة بين المؤيد والمعارض٫ وانتشر وسم #عين الفوارة حاملاً معه كل تناقضات المجتمع الجزائري، لتتعالى النداءات: "استروا تمثال عين الفوارة وأدخلوه إلى المتحف حمايةً له من المتحرشين"، و"ما الذي أعجبكم في تمثال امرأة عارية، إحنا دولة إسلامية".
مؤخراً، وبعد عقود من استقرار منحوتة عين الفوارة في مكانها، بدأت الأصوات تتعالى مطالبةً بوضع التمثال المرمري في المتحف بحجّة أنّه "يخدش الحياء العام"، كما نادت أصوات أخرى بتوفير أموال الخزينة العامة التي تخصَّص لترميمه في كل مرة.
وهو ما يعقب عليه الكاتب محمد حاجي، لرصيف22، بقوله: مِن المؤسف القول إنَّ المتحف قد يكونُ فعلاً أفضل مكانٍ له، ليس لحماية حياء الناس منه، بل لحمايته هو من الناس... ستكون تلك خسارةً كبيرةً للمدينة، لكنّ ذلك أهون من أن نحصل مع كلّ تخريب وترميمٍ على فزّاعة تقف وسط الشارع".
فيما يرى آخرون أن نقلها إلى المتحف، هو انتصار للمتعصبين، إذ يقول أستاذ علم الاجتماع في جامعة الجزائر زبير عروس، إن ما حدث هو شيء خطير جداً"، وصلنا إلى درجة كبيرة من التعصب والتطرف، وهذا يعكس نظرة المجتمع إلى المرأة، مضيفاً أن "هذا التعصب هو نتاج ما حدث في التسعينيات؛ قيم محلية مجتمعية يعطونها صبغةً دينيةً لا علاقة لها بفلسفة الدين"، مؤكداً أن الاستجابة لدعوات نقل التمثال إلى المتحف، انتصار للمتعصبين وخضوع لهم".
من جهته، صرح مدير الثقافة لولاية سطيف، وليد بن بريك، لوسيلة إعلام محلية: "إذا كان كل تمثال يتعرض للتخريب سندخله إلى المتحف، فلن يبقى أي معلم في شوارعنا".
غابت الثقافة في سطيف، فأصبح الناس لا يفرقون بين الحقيقة والمجاز
الثقافة تخاصم سطيف
تعاني مدينة سطيف، كغيرها من المدن الجزائرية، من غياب المنشآت الثقافية، كالمسارح ودور السينما، وكتب الشاعر الجزائري ديب يزيد، عن الحادثة قائلاً إن ما حدث ينم عن مشكلة ثقافية خطيرة في ظل الفراغ الثقافي الرهيب وغياب المسرح والسينما والموسيقى والمناقشات الفكرية والجلسات الأدبية التي ترفع المستوى وتحسن الذوق... أصبح الناس لا يفرقون بين الحقيقة والمجاز. لا بد من الاستثمار في الثقافة حمايةً للوطن.
من جانبها، ترى الأثرية فايزة رياش، "أن الحل في وضع سياج مرتفع لحماية التمثال من الهجمات والضربات، لكن أولاً يجب تربية جيل محب لتراثه، وهو من يحميه. يجب العمل على المجتمع المدني وتفعيل القانون 98/04 من أجل ردع المخربين.
بين مشرق عربي يعدو صوب الانفتاح والترحيب بالفن، ومغرب يتمسك أكثر بالمحافظة ويحارب الفن ويدمّر منحوتاته، يتأرجح عالمنا العربي، في تبدل مبهر للأدوار والأفكار، وتدفع منحوتة عين الفوارة الثمن.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...