في شتاء العام 2012 وبالتحديد في فبراير/ شباط منه، كانت المقاهي المنتشرة على ضفتي نهر الفرات بمدينة دير الزور السورية لا تزال تستقبل مرتاديها من الرجال والشبان. بالطبع قلّ عددهم عن الأشهر السابقة لهذا التاريخ إذ أن الأجواء الأمنية في المدينة كانت ضبابية آنذاك، تشم في الهواء رائحة خطر محدق ولكنك لا تعرف ما هو بعد؛ أو من أين سيهب.
كانت المدينة تسير نحو منعطفها الأكبر خلال الحرب. حينها كانت المناطق الخطرة لا تزال غير خطرة، والشوارع المدمرة واقفة بكل ما فيها. والموتى أحياء والمُهجرون أناس محليون.
خلال هذا، عرضت الشاشات في المقاهي المنتشرة على ضفة نهر الفرات بدير الزور، مباراة الدور قبل النهائي من منافسات كأس ملك إسبانيا بين برشلونة وفالنسيا.
نسينا أمر القنبلة واحتفلنا بالهدف
ضم المقهى الأشهر آنذاك والذي يطلق عليه الديريون اسم (الجرداق) عدداً لا بأس به من مشجعي برشلونة ومتابعي كرة القدم بشكل عام، دون استثناء لرجال قدموا للعب الـ"بوراكو" أو "البلوط".
وبينما برشلونة متقدم في النتيجة على الفريق المنافِس بهدف دون مقابل، كان مشجعوه يتنفسون الصعداء مع كل محاولة لتعديل النتيجة، قبل أن تسقط قنبلة صوتية في المقهى من مصدر مجهول. انقلبت الطاولات وتحطمت بعض الأراجيل ولطّخ الشاي الأرضية. مشهدٌ فاصل تزامن مع تسجيل "تشافي هيرنانديز" الهدف الثاني لبرشلونة في الدقيقة 81.
علت أصوات المشجعين في المقهى المذكور احتفالاً، ونسوا أمر القنبلة التي سقطت للتو بينهم، وعادوا يستكملون متابعة الدقائق الأخيرة من المباراة كأن شيئاً لم يكن، فيما قام شاب لم يتجاوز العشرين من العمر بتوضيب ما أحدثته القنبلة من تخريب وعينه على الشاشات المعلّقة.
بعيد ثلاثة أعوام، عاشتِ المدينة الحصار وفقد أهلها معظم الأساسيات بشكل نهائي، الكهرباء والماء وقطعاً الإنترنت. كانت أوروبا حينها تتطلع إلى هوية بطل نسخة دوري الأبطال للعام 2015. وللتمكن من مشاهدة مباريات نصف النهائي؛ صنع الديريون خيمة وسط حديقة وأعطوها صفة المقاهي.
يقول أسامة (23 عاماً) في حديثه لرصيف22، وهو شاب سوري من سكان وأهالي الدير: "كانت المدينة على كف عفريت إن صح القول، القذائف لا تتوقف لثانية، والخطر يجول المدينة كسائحٍ لا يتعب، اجتمعنا في حديقة حولوها بواسطة خيمة لمقهى صغير، وتابعنا نصف النهائي بين برشلونة وبايرن ميونيخ".
علت أصوات المشجعين ونسوا أمر القنبلة التي سقطت للتو بينهم، وعادوا يستكملون متابعة الدقائق الأخيرة من المباراة فيما قامم شاب عشريني بتوضيب ما أحدثته القنبلة من تخريب وعينه على الشاشات المعلّقة.
يضيف: "يعي مشجعو كرة القدم ما يعنيه تأهل فريقهم المفضل لنهائي الأبطال، كنت فرحاً جداً ومدركاً للمخاطرة الكبيرة التي عشتها حتى أتمكن من متابعة المباراة والاحتفال بفوز برشلونة".
أما عن النهائي الذي جمع ما بين يوفنتوس الإيطالي وبرشلونة، يقول: "وصلت المدينة في تلك الفترة إلى مرحلة انطفاء تام وتهديد دائم لكل ما يتحرك فيها، لم تكن هناك حياة على الإطلاق. مقهى واحد في المدينة كلها عرض المباراة النهائية ولم أستطع حجز كرسي فيه نظراً لصغر سني، فجلست خلف شبابيكه مع آخرين بمجموعات كبيرة نعوّل على حاسة السمع في تشكيل المشهد، كل من كان في المدينة آنذاك يذكر مقهى (الورود) ويذكر جيداً هذه التفاصيل، والمُلفت في الأمر أن المقهى لا يزال يخدم حتى الآن".
أما فراس وهو أيضاً من دير الزور، ويقيم في تركيا حالياً، فيعود بذاكرته إلى سنوات الحصار الأليم الذي عاشته المدينة، والقيود الكبيرة التي فرضها تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) على السكان، إلى حد منعهم عن أشياء ومحاسبتهم عند القيام بأفعال، وقد طالت هذه المحاسبات والمحاكمات متابعي كرة القدم.
فراس: "داعش منعوا عنا كل وسائل الحياة، ومن بينها التلفزيون. فكنا نقوم ليلاً بتركيب الدش لمتابعة المباريات ومن ثم إخفائه مع بزوغ الشمس".
يقول لرصيف22: "كنا نعيش تحت حصار اللي ما بيتسموا، وقد منعوا عنا كل وسائل الحياة من بينها التلفزيون. كنا نقوم ليلاً بتركيب الدش لمتابعة المباريات ومن ثم إخفائه مع بزوغ الشمس، كمن يحمل كفنه بين راحتيه كنا نقفز إلى هذه المخاطرة والحمد لله أننا كنا ننجو دوماً".
نخفف ضوء الهاتف حفاظاً على البطارية وعلى حياتنا
ترسم الذاكرة الماضية لمتابعي كرة القدم من مدينة دير الزور خطّاً مماثلاً لدى سكان وأهالي المدن السورية الأخرى.
فخلال حصار مخيم اليرموك سنة 2013، كان لا يزال هنالك عوائل وأفراد قد اختاروا ألا يكرروا أخطاء الماضي التي استمرت نتائجها لأكثر من 70 عاماً. فصمدوا لفترة زمنية قصيرة داخل المخيم الذي تحول بسرعة كبيرة إلى ساحة حرب، قبل أن يغادروه غير مُخيرين في ترك القضية، موتى أو أحياء.
يستذكر أحمد القديمي (25 عاماً) ويعمل كأمين صندوق في عمان آخر مباراة تابعها في المخيم، يقول لرصيف22: "في العام 2013 كنا قد اجتمعنا أنا وعدد من أصدقائي فوق سطح البناء الذي أسكنه لمتابعة كلاسيكو نهائي كأس الملك الإسباني، متخوفين من إصدار أي حركة أو ضوضاء قد تترصدها الأعين الساهرة، كانت بطارية الهاتف المحمول الوحيد الذي نملكه آنذاك تهدد بالنفاد ونحاول قدر الإمكان تخفيف سطوع الشاشة حفاظاً على حياتنا وعلى المباراة، لم يحالفنا الحظ سوى بمتابعة الشوط الأول فقط وأمضينا بقية الليل نخمّن هوية حامل اللقب ومن سجل في شباك من".
على الرغم من قبح تلك الأيام التي تدق على ذاكرة أحمد وغيره من سكان المخيم، إلا أنها لم تؤثر على حجم عاطفته وشغفه بمتابعة مباريات كرة القدم لا سيما حين يتعلق الأمر بناديه المُفضل، ريال مدريد.
لن يخبرك ساكن للمخيم عن مشهد اجتماعي عموماً، وكروي خصوصاً، دون أن يأتي على ذكر مقهى أبو الحشيش الذي يتوسّط ساحة أبو الحشيش، أو ساحة العيد والذي تعود تسميته لعائلة أبو الحشيش الفلسطينية.
هذا المقهى الذي ظل يخدم رواده حتى اللحظة الأخيرة قبيل إطلاق ما يسمى بـمعركة تحرير دمشق ووقوع المخيم تحت الحصار؛ لم تبق له أي صورة إلا في ذاكرة سكان المخيم أنفسهم، صورة قد تكون غير واضحة من حيث تقسيم المقهى أو وجه صاحبه أبو غسان، ولكنها لا تُخطئ أبداً في استحضار لحظات الراحة والسعادة التي كان رواده يعيشونها داخله، لا سيما خلال الأمسيات الكروية الشيقة.
صوت المعلّق أعلى من صوت الحرب
اعتياد الأحداث لدى السوريين، شكل في مرحلة ما من عمر الحرب السورية حالةً جديدة في تعاطيهم معها، تستند هذه الحالة بشكل أساسي إلى إبداء انفعالات أقل جدية حول ما يحدث حولهم.
أحمد: "فوق سطح البناء الذي أسكنه في مخيم اليرموك تابعنا الكلاسيكو على شاشة الموبايل أنا وأصدقائي، متخوفين من إصدار أي حركة أو ضوضاء قد تترصدها الأعين الساهرة وتتسبب بقتلنا"
يروي الصحافي والكاتب الرياضي هاني سكر لرصيف22 قصصه التي يصفها بالكوميدية من داخل مقاهي حي باب توما الدمشقي خلال عرض مباريات الدوريات الأوروبية، يقول: "كانتِ القذائف تستمر لأكثر من نصف ساعة، حينها كنا نطلب من نادل المقهى رفع صوت المعلق للاحتفاظ بتركيزنا على أحداث المباراة فقط".
أما ريم (26 عاماً) وهي طالبة في كلية الاقتصاد في جامعة تشرين، فتعود بذاكرتها إلى العام 2012 حين تم رصد سيارة مفخّخة بالقرب من البناء الذي تسكنه في مدينة حلب، على إثر ذلك تم إخلاء المبنى بشكل فوري إلا أنها أصرت على البقاء مع والدها في المنزل لمتابعة مباراة برشلونة، ضمن منافسات دوري أبطال أوروبا. تقول لرصيف22: "ما يؤلمني حقاً حين أستعيد هذه الذكرى؛ أن برشلونة خرج من البطولة حينها".
خلال ذروة الأحداث وفي أكثر سنوات الحرب نشاطاً من ناحية التفجيرات الإرهابية وسقوط القذائف ضمن الأحياء السكنية، وعلى الرغم من احتدام القتال على كافة الجبهات، توجه مشجعو بعض الفرق الأوروبية في سورية نحو تنظيم تجمعات ضمن المقاهي لمتابعة مباريات فريقهم المفضل، ولعل أشهرها رابطة مشجعي ريال مدريد في سورية التي تأسستْ عام 2013 وحصلتْ على الاعتراف الرسمي في العام 2015 ونشطتْ في معظم المحافظات السورية وقد وصل عدد الحضور في تلك التجمعات إلى المئات خلال المباريات الحاسمة للفريق ما كان يدفع المنظمين في كثير من الأحيان إلى البحث عن مقاهٍ بمساحات أكبر لاستيعاب العدد.
روبنهوديات الحرب... قرصنة البث كهدية للمشاهدين
تحايل السوريون في ابتداع البدائل لما فقدوه بسبب الحرب، وإذ كانت الجزيرة الرياضية تحكم قبضتها آنذاك على قلوب عشاق الكرة في العالم العربي من خلال ما كان يُعرف بـ"كرت الجزيرة"، ولاحقاً الاشتراك المدفوع باهظ الثمن في "بي إن سبورت" ظهرت "قناة هوا" الأرضية كمُنقذ لملايين المتابعين ضمن الجغرافية السورية، وكانت قد بدأت البث تزامناً مع انطلاق نسخة كأس العالم 2014.
هاني: "كانتِ القذائف تستمر لأكثر من نصف ساعة، حينها كنا نطلب من نادل المقهى رفع صوت المعلق للاحتفاظ بتركيزنا على أحداث المباراة فقط".
كل ما يحتاجه الراغب بالمتابعة عبر "قناة هوا"، هو تلفزيون قديم وهوائي "آنتين"، وبعض الصبر لتحديد التموضع الأنسب له بهدف الحصول على جودة عرض جيدة، وأيضاً قدرة على تحمّل إعلانات الشركات المحلية التي تغطي نصف الشاشة في بعض الأحيان.
استمرت "قناة هوا" بتقديم يد العون للطبقات الكادحة والفقيرة ومعظم شرائح المجتمع السوري لعدة سنوات من خلال سرقة أو قرصنة البث سواء لمباريات كأس العالم 2014 أو لاحقاً لمباريات الدوريات الخمس الكبرى ودوري أبطال أوروبا وغيرها، فأعادت للتلفزيون القديم مكانته وصار منزل مالكه وجهة لكل من يعرفه أو يقرب إليه.
يصف البعض العام 2014 من عمر الحرب السورية على أنه الأكثر الدموية. أُصيب مدنيون في منطقة باب شرقي في دمشق خلال بث إحدى مباريات كأس العالم على الشاشات المُعلقة في مقاهي الحي القديم المفتوحة دائماً لمرتاديها من كل أحياء العاصمة. وحرص أهالي الغوطة حينها على عدم تضييع أي مباراة ضمن البطولة رغم الحصار الذي كان في بداياته، ولبت "قناة هوا" نداءات المتفرجين العاديين والمُخضرمين في منازلهم تحت أسقف أكثر أمناً من غيرها.
في النسخة الأولى من بطولة كأس العالم خلال الحرب، اختفتْ مظاهر رفع أعلام الدول المشاركة في البطولة تماماً من الشوارع، وقلت أدوات التعبير عن الميول الرياضية كالرسم على الوجه أو ارتداء تيشرت المُنتخب المُفضل أو تعليق العلم على النوافذ والشرفات، وانحصرتْ ممارسة الطقوس المعتادة المُرافقة للبطولة في بعض المقاهي والمطاعم فقط.
لم يختلف الحال كثيراً في نسخة العام 2018 على الرغم من الاستقرار الذي شهدته معظم الجبهات حينها وتحرير أغلب المناطق. ضجت مقاهي العاصمة بالأجواء الكروية المشحونة حيناً والهادئة المُترقبة حيناً آخر، وعلى الرغم من أن قذائف الهاون قد صارت جزءاً من زمن مضى على الساكن في حاضر الـ 2018، إلا أن شيئاً من الحذر والحيطة، أو ربما الخجل، لم يأتِ بجديد.
2017... عام كروي سوري
لربما كان التحول الأبرز في المواقف لدى مختلف أطياف وشرائح المجتمع السوري في الداخل والخارج خلال سنوات الحرب، يعود للعام 2017 مع بلوغ المُنتخب السوري الملحق الآسيوي ضمن تصفيات كأس العالم 2018، والحالة الوطنية غير المسبوقة التي قادها الفريق بعد حوالي ستة أعوام من الخلاف والمشاحنات بين السوريين المتعارضين في وجهات النظر والآراء.
في حينها غفت الحرب غفوةً واستفاقت مجدداً، حين انسحب المشهد الكروي وحلت محله المشاهد المعتادة.
في العام 2015 قرر خريج كلية التربية الرياضية عبد الرزاق وهو اسم مستعار، الإبحار نحو أوروبا في عدة محاولات باءت جميعها بالفشل، إلا أن المحاولة الأخيرة والتي خاضها مع بعض أفراد عائلته تكللت بالنجاح، لتكون الوجهة ألمانيا.
في مخاطرة خاضها آلاف السوريون خلال سنوات الحرب. انتقل من خلالها عبد الرزاق، والناشط في مجال الصحافة الرياضية، من صفة مُتابع لكرة القدم بعين المحلل من وراء الشاشة في أحد أحياء محافظة حماة، إلى مُتفرج في مدرجات أهم الملاعب الأوروبية وناقل للحدث أيضاً لصالح بعض المواقع الرياضية.
بعد الحرب انتقل عبد الرزاق، من مُتابع لكرة القدم من وراء الشاشة في أحد أحياء حماة، إلى مُتفرج وصحافي رياضي في مدرجات أهم الملاعب الأوروبية
يقول لرصيف22 عن المرة الأولى التي حضر فيها مباراة كلاسيكو في العاصمة الإسبانية مدريد وبالتحديد في ملعب السانتياغو برنابيو: "لا يمكن أن تطغى مشاعر التعصب لفريقك المُفضل على مشاعر الامتنان والسعادة التي تغمرك وأنت موجود ضمن آلاف المشجعين والمُحبين لكرة القدم وفي أعرق ملاعب العالم".
قلّتِ المخاطرات والمجازفات التي يسلكها متابعو كرة القدم اليوم في سورية للتمكن من متابعة مباريات فرقهم المفضلة على الرغم من ظروف الكهرباء والإنترنت وارتفاع تكاليف ارتياد المقاهي، إلا أن التجربة التي خاضها هؤلاء خلال الحرب تؤكد أن كرة القدم هي الأداة الأكثر كفاءة في إصلاح ما أفسدته السياسة، بل والحياة نفسها كما يميل بعض المتحمسين للقول.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...