مثل الجدات، وهبت قلبي لشاشة التلفاز وأنا أتابع "فرحة". وبينما هي تحاول أن تفتح الباب لتساعد الرضيع "محمد"، كنت أتوسل إليها كي تكون أقوى، وأن تبحث عن شيء حديدي ثقيل لتحطم خشب الباب. بحثت معها في الغرفة المظلمة عن أداة، أي أداة... المهم يا فرحة أن تُحدثي ثقباً يمكنك النفاذ منه لتنقذي "محمد"، وبعدها سنجد طريقةً للنجاة.
"كله تمثيل"، كانت جدّتي تقول، بعد موجة انفعال مع بطلة فيلم ذهبت إلى حيث ستلاقي حتفها، بالرغم من تحذيرات جدتي المستمرة لها بألا تذهب. ولكن عبثاً، لقد ذهبت وها هي تلاقي حتفها وتترك جدتي تعاتبها لأنها لم تلتفت إلى الإشارات ولم تأخذ بالأسباب. تتحسر جدتي كثيراً، وتحزن بصدق قبل أن تتدارك نفسها وتقول: "كله تمثيل".
جدتي، "ليقا خليل"، اللاجئة من قرية يزور، قضاء يافا، لم تكن لتقول "كله تمثيل"، لو أنها شاهدت فرحة. لو أنها هنا.
جدتي، "ليقا خليل"، اللاجئة من قرية يزور، قضاء يافا، لم تكن لتقول "كله تمثيل"، لو أنها شاهدت فرحة. لو أنها هنا.
القرية جميلة، والتين يبدو لذيذاً. أحببت الأرجوحة وعين الماء، وفستان "فريدة" وثوب "فرحة". أنا أعرف إلام ستنتهي الأمور؛ لن تنتهي على خير. أعرف من دون أن أقرأ مسبقاً تفاصيل الفيلم الذي أغضب إسرائيل. أعرف أن الحياة لن تكون كريمةً بما يكفي لتذهب "فرحة" إلى المدرسة حتى ليومٍ واحد.
غريب كيف تتهم إسرائيل الفيلم بالكذب والتضليل، بينما أعدم جنديها قبل أسبوع، شاباً أعزل من مسافة الصفر. وثقت الكاميرات كل شيء، ولا يا جدتي لم يكن تمثيلاً، ولكنكِ لو كنت هنا، لو شاهدت فيديو الشاب على حاجز حوارة -بالرغم من حرص الجميع على ألا تفعلي خوفاً على صحتك- لكنت قلتِ له: "لا يا ستّي... ما تعانده هلكيت بيطخك".
من ثقب الباب ترى "فرحة" إعدام عائلة بأكملها. لا أحتاج إلى أن أذكّر نفسي بأن هذا ليس تمثيلاً. لقد حدث هذا بالفعل. في يوم ما من أيام عام 1948، وفي مكانٍ ما في فلسطين المحتلة، وجدت عصابة صهيونية ضرورةً/ رغبةً ما في إعدام طفلتين وأم وأب. لماذا؟ هل الطبيعة البشرية قاسية إلى هذا الحد؟ هل معركة الوجود حادة وضيقة وبشعة هكذا؟
لم يتغيّر الكثير يا "فرحة"... ما زالت إسرائيل تعدمنا من مسافة الصفر.
عجلت في مشاهدة الفيلم خوفاً من أن تحذفه "نتفليكس"، تحت تأثير الضغوط الصهيونية. كنت متوترةً، فمشاهدة فيلم مبنيّ على أحداث حقيقية يوترني دائماً لأنني أعرف أن من ماتوا قد ماتوا حقاً، ولم يتمكن أحدٌ من إنقاذهم
عجلت في مشاهدة الفيلم خوفاً من أن تحذفه "نتفليكس"، تحت تأثير الضغوط الصهيونية. كنت متوترةً، فمشاهدة فيلم مبنيّ على أحداث حقيقية يوترني دائماً لأنني أعرف أن من ماتوا قد ماتوا حقاً، ولم يتمكن أحدٌ من إنقاذهم. لقد حدث هذا بالفعل، لقد انتهى الأمر وأنا الآن أتابعه على شاشة مضيئة لأن أحداً ما اهتم بما يكفي لينقل الحكاية.
شاهدت مسلسل "القاتل جيفري دمر". أحببت توني كثيراً! آه، كم أحببت مشاهد الصمت الخالية من كل الأصوات. كنت مثله صماء. أحببت ضحكته، وأناقته، وثقته وذكاءه، وتمنيت لو يبني شيئاً من الأمان في قلب "جيفيري". شيء بسيط من الثقة كان يكفي ليتوقف القاتل عن القتل ويعيش الحب والأمان. أنا أعلم أن "توني" سيموت لأن القصة تقول إن لجيفري 17 ضحيةً وتوني كان الرقم 12، إذاً سيموت "توني" وسيأكل "جيفيري" بعضاً منه، ولكني كنت أًمنّي نفسي مثل جدة بألا يعود "توني" ليبحث عن مفتاحه، أن يمنح "جيفري" مزيداً من الوقت ليثق بأنه سيعود. يبدو أن للمفتاح دائماً دوراً في القصص الحزينة.
لقد مات الرضيع "محمد"، وكم تمنيت لو أنه لم يمت لأصبح جداً الآن. لماذا يبدو الموت مخيفاً بالرغم من أننا لم نجرّبه؟ أو هو كذلك لأننا لم نجربه. وماذا عن "فرحة" (رضية)، هل أصبحت جدةً؟ هل تعلمت الجغرافيا والرياضيات والعلوم؟ هل أوجعتها الحرب مرةً أخرى في سوريا؟ هل كانت شاهدةً على جريمة قتل مرةً أخرى؟
لماذا يبدو الموت مخيفاً بالرغم من أننا لم نجرّبه؟ أو هو كذلك لأننا لم نجربه. وماذا عن "فرحة" (رضية)، هل أصبحت جدةً؟ هل تعلمت الجغرافيا والرياضيات والعلوم؟ هل أوجعتها الحرب مرةً أخرى في سوريا؟ هل كانت شاهدةً على جريمة قتل مرةً أخرى؟
تبدو إسرائيل لي مثل serial killer. هي حقاً كذلك، وبالمناسبة أيها القاتل قد تُبنى جريمتك على قصة حزينة عشتها، تفكك أسري، اضطراب نفسي، إبادة عرقية، محرقة جماعية، ولكن ماضيك الصعب لن يشفع لك. لن تنجو من فعلتك البشعة لأنك كنت تعاني. ما هكذا تقاس الأمور.
جدتي ليقا أُمية لا تقرأ ولا تكتب، ولكنها على طريقتها كانت ذكيةً بما يكفي لتنظم حياتها وحياة أولادها. بعد اللجوء أصبحت زوجةً ثانيةً لرجلٍ في عمر أبيها. لم تكن هذه خطة أحلامها، ولكنها كانت مضطرةً. كانت عائلتها اللاجئة تبحث عن أمان بناتها قبل الطعام. الأمان كان بالزواج فقط. أتذكر الآن "ليلى"، بطلة رواية ألف شمسٍ ساطعة، "ليلى" الطفلة تزوجت بزوج الخالة "مريم"، لتحظى بالأمان بعد استيلاء طالبان على السلطة في أفغانستان. ضحايا للحروب وضحايا للزواج؟ ثقيلةٌ هذه يا الله.
كانت لجدتي طريقةٌ في إظهار فخرها بالكلمات الإنكليزية التي تعرفها. كانت تسألني: هل تعرفين كيف تقولين صباح الخير؟ أجيب بلا. وتقولها هي، والآن أتذكر صوتها وهي تقولها، وأعتقد أنه أجمل تعريف للذكاء. كنت أظن أني باختلاق جهلي أمنحها الكرسي الأعلى في المعرفة. كنت أظن أني أعطيها شيئاً، ولم أعرف أن المرأة التي تطوعت لتصلي كل صلاةٍ مرتين وتعوض أياماً قديمةً لم تتحدث فيها مع الله بما يكفي. المرأة التي كانت تعرف كيف تشتري العقارات تماماً مثلما تخلل الخيار. المرأة التي جعلها فقر اللجوء كريمةً بسخاء، بعدما ودّعت بعرق جبينها الفقر. هذه المرأة لا يمكنك أن تعطيها شيئاً.
تسأل فرحة فريدة: كيف تقول "مع القلعة"؟
Goodbye، تقول للجنود الإنكليز المغادرين البلاد، وتوجه إليهم مسدساً مفترضاً. سيتحول كل شيء إلى حقيقة يا "فرحة"؛ الوداع والمسدس.
هكذا بكل بساطة؟ يقتلك ويأخذ بيتك ويعلق صوره مكان صورك. يخبر العالم بأن البيت كان خالياً وأنه جاء ليعمر المكان ويصدق الكثيرون ويصدقك القليلون؟ ستقول لي مستحيل... لو انطبقت السماء على الأرض! وسأقول لك لقد انطبقت حقاً!
أرى "فرحة"، بينما أتذكر جدتي، وأكتب عن ليقا واسم رضية أمامي. أفكر في حق الأموات الذين قد تنتهي حكايتهم لمجرد أنهم لا يستطيعون الاستيقاظ من النوم الآن. العالم مكانٌ تتزاحم فيه الأوجاع، ويبدو أن الحي أبقى من الميت حقاً. ولكن حقهم... من يأخذ حقهم؟
هل يمكن حقاً أن يمر الإنسان من هذا العالم، محملاً بالكثير من الأحلام، وينتهي هكذا من دون أن يلتفت إليه أحد؟ نقول لو انطبقت السماء على الأرض، للدلالة على الاستحالة. ولكن ماذا لو كانت ابنتك جالسةً في البيت الآن، وعمرها 14 عاماً، وشعرها مجدول، وقلبها مليء بحب الجغرافيا والعلوم والرياضيات، ثم جاء أحدهم ليأخذ البيت، ويحوله إلى بيته، هكذا بكل بساطة؟ يقتلك ويأخذ بيتك ويعلق صوره مكان صورك. يخبر العالم بأن البيت كان خالياً وأنه جاء ليعمر المكان ويصدق الكثيرون ويصدقك القليلون؟ ستقول لي مستحيل... لو انطبقت السماء على الأرض! وسأقول لك لقد انطبقت حقاً!
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...