أثناء انتظاري في صالة التفتيش على حاجز إيرز، وصول حقيبة السفر التي خضعت لتفتيش آلي ويدوي دقيق، رأيت عضواً في حزب سياسي معارض يمشي حافياً بين جمهور المنتظرين، سلمتُ عليه بإيماءة بالعين دون حديث، فلا توجد كلمات ينمكن أن نقولها لبعضنا، فالمشهد يلخص كل الكلمات، على الجهة المقابلة كنتُ أشاهد العائدين من الفردوس الذي أنتظر الذهاب إليه، كان المكان قريباً جداً يفصله حائط زجاجي له باب مفتوح على الدوام، فمن ينتهى من لَملمةِ أغراضه القادمة من غياهب التفتيش، يذهب إلى تلك المنطقة. أثناء وقوفي رأيت أحد الوزراء يخطو مثل الطاووس متجهاً نحو بوابة الخروج، فوراً تذكرتُ رحلة خروجه وكيف خلع حذائه ووقف على قدميه فارجاً ساقيه رافعاً يديه لآلة التصوير الإشعاعي، ها هي النفوس تتغير… فسبحانه وحدة الذي لا يتغير.
كنتُ أشاهد العائدين من الفردوس الذي أنتظر الذهاب إليه، كان المكان قريباً جداً يفصله حائط زجاجي له باب مفتوح على الدوام، فمن ينتهى من لَملمةِ أغراضه القادمة من غياهب التفتيش، يذهب إلى تلك المنطقة...
جاءت الأغراض فلملمتها كيفما اتفق، وذهبتُ مسرعاً ناحية نقطة العبور التي تجلس فيها جنديتان إسرائيليتان باللباس الشرطي داخل غرفة زجاجية مترين في مترين تقريباً، تواجه كل واحدة منهن جهاز كمبيوتر يحتفظ بتفاصيل حياتنا، وفتحة صغيرة في أسفل الزجاج تسمح بتمرير الأوراق الثبوتية للتأكد منها أو لسحبها عند الضرورة، ذهبت إلى تلك الغرفة بعد السماح لي من خلال البوابة الصغير التي تسبق الوقوف أمام الغرفة الزجاجية كي أقف أمامها وأقابل إحدى المجندات التي طلبت مني أن ألصق تصريح المرور والهوية الشخصية بالزجاج كي تقوم بالتأكد منهما من خلال قراءة رقم البطاقة والتصريح دون لمسهما، أخذ هذا الإجراء دقيقة دون أن يصدر عن المجندة أي ردة فعل سوى النظر لي مرة، والنظر إلى جهاز الكمبيوتر أمامها مرة أخرى، حتى طلبت مني بطاقة الهوية، فوضعتها في الفتحة الكائنة في وسط الحائط الزجاجي المخصص لذلك ثم لبست في كفيها قفازاً من النايلون الخفيف ثم أخذت بطاقة الهوية وطلبت مني الجلوس على كراسي الانتظار التي تقابل الغرفة، فعلت ما طلبت وبدأ القلق يتسرب لي ماذا هناك؟ ولماذا تم إيقافي؟! هل هي النهاية إذن، هل سأحرم من الدخول، أم سيتم اعتقالي لأي سبب كان؟!
ذهبتُ مسرعاً ناحية نقطة العبور التي تجلس فيها جنديتان إسرائيليتان باللباس الشرطي داخل غرفة زجاجية مترين في مترين تقريباً، تواجه كل واحدة منهن جهاز كمبيوتر يحتفظ بتفاصيل حياتنا، وفتحة صغيرة في أسفل الزجاج تسمح بتمرير الأوراق الثبوتية للتأكد منها أو لسحبها عند الضرورة...
لم أكن الوحيد الذي يجلس على كراسي الانتظار تلك، بل هناك أحد الزملاء المرافقين لنا في رحلة الذهاب إلى معرض الكتاب برام الله قد تم إيقافه بنفس الطريقة، فتحاورت معه في المقاعد وأخذنا ننتظر وننظر لباقي الزملاء الذي ينتهون من لملمة أغراضهم ويقفون لثوانٍ معدودة أمام تلك المجندة ومن ثم يعبرون ناحية الفردوس المفقود، بعد وقتٍ قصير تجمّع الزملاء في الحافة التي جهزتها وزارة الثقافة خصيصاً لنا ليتم نقلنا من خلالها إلى معرض الكتاب ولم يبقَ إلا أنا والزميل الآخر نجلس في الانتظار، حاول مسؤول التنسيق أن يستفسر عن الأمر فأخذ مني رقم البطاقة الشخصية، استغرق جلوسي نصف ساعة تقريباً حتى أشارت لي المجندة الأخرى التي تجلس في نفس الغرفة الزجاجية على الناحية المقابلة لزميلتها بيدها كي أحضر وسألتني باستغراب بلغة عربية مكسرة لماذا أنت تجلس هنا؟ فقلتُ لها أن زميلتها هي من أشارت لي بالجلوس.
كانت بطاقة هويتي في يدها وهمّت أن تعطيني إياها لكي أكمل طريقي إلى الناحية الأخرى، لكن المجندة التي منعتني في البداية قفزت من فوق كرسيها ومدَّت يدها وأخذت البطاقة من يد زميلتها رافضة السماح لي بالعبور وأشارت لي بحركة فهمت منها أنني لن أمر ويجب على أن أعاود الجلوس على كراسي الانتظار مرة أخرى، كان الأمر غريباً نوعاً ما، سيما أن حالة الغرفة بعد عودتي للانتظار كان يغلب عليها روح السعادة والمزاح، وربما السخرية، انتظرت عشر دقائق أخرى، كان ضابط التنسيق الفلسطيني قد أكمل عمله بالتواصل مع مديرية الارتباط في رام الله من أجل حل مشكلتي أنا والزميل الآخر الذي سُمح له بالعبور بعد ذهاب الحافة التي أقلتنا جميعاً، ولحق بنا في سيارة أجرة بعد تعطيله لمدة ساعة، وبعد العشر دقائق جاء ضابط ودخل الغرفة الزجاجية، ثم أخذ بطاقة هويتي وأشار لي بالقدوم، ففعلت، وأعطاني الهوية وسمح لي بالعبور، وتقدمت وقتها كأنني محمول على الريح، لم أشعر بتلك المشاعر على مدى عمري الذي يبلغ سبعة وثلاثين عاماً، هذا فرح لا يأتي للإنسان إلا نادراً، خمسة عشر خطوة من الغرفة الزجاجية إلى الباب الخارجي الذي يفضي إلى فلسطين المحتلة عام 1948 هناك حيث الحكايات الطازجة منذر عشرات السنين.
دأب الناس أن يسألوا المسافر خاصة عن حاجز إيرز كيف كان الوضع، فالإجابة الأولى التي تتكرر على الألسن هي أن الهواء بعد غزة غير، هواء منعش له خواص مختلفة، هذا حقيقي جداً لقد شعرت بذلك تماماً، لكنه شعور متعلق بأمر مختلف عما ظن البعض بأن هواء غزة ملوث أو محبوس أو ملعون، بل كان الأمر له علاقة بفيزياء المكان الذي ندخله ونبقى فيه لساعة أو ساعات طويلة ثم نخرج منه باتجاه الشمال، أو باتجاه الجنوب عائدين وممنوعين من تحقيق الحلم، المكان الذي أقصده هو صالة الحاجز الكبيرة التي تمتد لعدة كيلو مترات والمغطاة بشكل كامل بألواح معدنية مقسمة إلى عدة أقسام، وكل قسم منهم له الجو الفيزيائي الخاص فيه، ففي البداية نمشي لمئات الأمتار في صالة مخصصة لعبور المشاة مغطاة بألواح معدنية، ثم ننتقل إلى غرفة تفتيش صغيرة، ثم عشرات الأمتار من المشي، ثم ندخل في صالة زجاجية مكيفة الهواء نبقى فيها مدة غير معلومة، ثم إلى صالة زجاجية أخرى مكيفة نعبرها بسرعة أو نبقى نجلس على كراسي الانتظار- كل هذه السلسة إن لم تواجه بالطبع أي عقبات أو تدخل إلى غرف التحقيق وما شابه من أمور لم أكتشفها- في أثناء هذه الرحلة نستنشق هواءً مكيفاً ونسير طيلة الوقت تحت درجات حرارة مضبوطة، وعندما يسمح لنا بالعبور نخرج إلى الهواء الجوي الطبيعي فينتابنا شعور بالانطلاق لأننا في الداخل كنا داخل تأثير الهواء المكيف وأنفاس كثيرة وأمنيات أكثر تسبح في الفضاء المغلق، كل هذه التفاصيل جديدة على أنوفنا التي يستقبلها الدماغ فيترجما إلى شعور مختلف وهو كذلك لكن الاختلاف هنا ناتج عن انتقالنا من غلاف جوي إلى غلاف جوي آخر، هذا تفسير شخصي للأمر، ويبقى لكل واحد تفسيره الخاص.
وقفت على أعلى الدرجات التي سوف أخطو من خلالها ناحية موقف السيارات والباص الذي كان ينتظر راكبيه على نار الشوق كي ينطلق بنا إلى رام الله، لكنني كباقي الزملاء الذين عبروا قبلي لأول مرة قد توقف بهم الزمن على هذا الدرج وهم يسمعون لأول مرة في حياتهم نداءات السائقين على "القدس رام الله، نابلس عسقلان حيفا، يافا، المجدل، اسدود، بير السبع، النقب"
هنا أنت تسمع أسماء المدن التي هجر منها أهلك عام 1948، تسمعها بلغة فلسطينية خالصة، تشاهدها بعيون مختلفة عن وصف من شاهدوها وعاشوا فيها وأرغموا عنوة على تركها تحت صوت الرصاص والصراخ والمطر، أنت الآن داخل نفسك، داخلها فلسطين.
في تلك الدقائق القليلة غبت عن الواقع، ودخلت في دوامة الزمن نفذت إلى ذلك من خلال حكايات الجدات، والصور القديمة، أخيراً سوف أرى بلادنا، سأشم راحة البرتقال والزيتون سأشاهد بأم العين أشجار الجميز، سأمر على المقاهي القديمة والبيوت المهجورة، سأجلس مثل الغريب في بيته، سأسرق تفاصيل الكلام والزمان لأعود بحسرة جدتي التي توفيت أمامي وهي تقول لأمي التي كانت تقف على رأسها في النزاع الأخير: "وَدوني عَ الدار" وقتها لم أكن بذلك الوعي الذي يعطيني القدرة على فهم وتحليل طلب الجدة، فقلت لها بحنية الصغار وجهلهم: "هيّك في الدار يا جِدة" فعاودت جدتي القول: وَدُونِي ع الدار بصوتٍ مخنوق، فتهتُ أنا وصرتُ أبحث في الوجوه التي تجلس حولي عن إجابة فتلاقت عيني بعين أمي التي انخفض صوتها جداً وهي تقول: "جدتك قصدها الدار اللي في البلاد يمّة" وانهمرت أمي بعدها بالبكاء، وماتت جدتي يومها على أمنية العودة وحلم البيت القديم، وها أنا أقف على أعتاب الأمنيات والأحلام، أحمل أنفاس من ماتوا، وحكاياتهم، وأعبر فيها لأزرعها في رحم البلاد لتبقى الفكرة قائمة: البلاد بلادنا ولو بعد ألف جيل، مات الكبار ولم ينس الصغار يا بن غوريون.
قطع ذلك الصمت الرهيب أحد الأصدقاء وهو ينادي عليّ أن أسرع في خطواتي كي نتحرك باتجاه رام الله قبل الظهر لنتمكن من حضور افتتاح معرض الكتاب، ونزلت الدرج أخطو أولى خطواتي ناحية البلاد.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Mohammed Liswi -
منذ يومأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ يومينلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 5 أياممقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه
بلال -
منذ أسبوعحلو
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعالمؤرخ والكاتب يوڤال هراري يجيب عن نفس السؤال في خاتمة مقالك ويحذر من الذكاء الاصطناعي بوصفه الها...