منذ عشرين عاماً، قررت إسرائيل بناء جدار الفصل العنصري فوق أراضي الضفة الغربية تحت مبررات واهية، سوّقتها للإعلام الغربي، تتمثل بحماية أفراد دولتها من الهجمات الفلسطينية، لكن هذا القرار كلّف الفلسطينيين الكثير، وألقى بتبعاته على حياتهم اليومية، ومستقبلهم على أرضهم. وشرعت إسرائيل بتنفيذ مخططها في عام 2002، ضاربة بعرض الحائط القوانين الدولية التي تمانع بشكل واضح، جميع الأدوات التي تسهم في الفصل العنصري بين السكان، وتشدّد الخناق على جماعة من الناس، مهما كانت الظروف.
وحتى عام 2006، انتهت إسرائيل من بناء 402 كيلومترين من الثعبان الضخم المتمثل بالجدار العازل، من أصل 703 كيلومترات خطط لها الاحتلال، حيث فصلت أرض فلسطين 48 داخل الخط الأخضر ومحافظة القدس، عن أرض الضفة الغربية، منتهكة حقوق عدد كبير من الفلسطينيين الذين يقيمون على حدود الجدار، في 180 قرية وتجمعاً فلسطينياً، حتى عام 2008، وقد أوقفت المحكمة العليا الإسرائيلية بناء الجدار، بحجج تتعلق بشكاوى السكان الفلسطينيين، لكن الخراب الذي بدأته إسرائيل منذ عام 2002، بقي على حاله.
معاناتنا لا تتوقف في أرضنا التي جاء جدار الفصل العنصري ليقسمها من المنتصف، ويتسبب لنا بأزمة حقيقية، ومخاوف كبيرة، وقلق داخلي، جراء احتكاكنا اليومي بالجنود الإسرائيليين بمحاذاة الجدار
ضرب الاحتلال ضربة ساطور في رأس الحياة الفلسطينية بأسرها، عبر تصفيف قوالب إسمنتية بارتفاع ثمانية أمتار للقالب، وبقواعد اسمنتية ضخمة، تم وضعها بالقوة في منتصف أرض الفلسطيني، غير مبالٍ بالضرر الذي يحدثه ذلك على ملايين الفلسطينيين.
فزاعة للإنسان لا الطير
وقفت هذه القوالب مصطفة مثل فزاعة في الأراضي الزراعية، لا للطير، وإنما للإنسان، تفزع حياته وتؤرقها، التي لم تكن تخلو أصلاً من اليوميات المحزنة والمأسوية، بفعل الحواجز الأمنية التي استمر الاحتلال بوضعها في طريق الفلسطينيين، والتي لطالما أسهمت في تحجيم وتعطيل التنقل للفرد الفلسطيني فوق أراضيه.
وصار الفلسطيني منذ ذلك الوقت، عاجزاً عن التنقل بين المساحات المتجاورة، بفعل وجود جدار الفصل العنصري، وهناك من الفلسطينيين من جلس في نصف أرضه، وبقي الجزء المتبقي على الجانب الآخر من الجدار، لا يستطيع الوصول إليه، فهلكت أشجاره التي ورثها عن أجداده في ذلك المكان المعزول.
وقد نجح الاحتلال الإسرائيلي من خلال هذا التعدي في عزل أهل مدينة القدس عن أهل الضفة الغربية، بشكل كامل، وتمكن من منع الكثير من العائلات من الضفّة الغربية من التواصل التلقائي، من خلال هذا الساتر الاسمنتي الشاهق، إذ وضع حداً جغرافياً لا يمكن لأهل الضفة أو القدس المرور عبره لممارسة الحياة اليومية، إلى درجة تشكّل مناطق داخل الجدار من جهة الخط الأخضر، محبوسة لا تصلها الخدمات الفلسطينية، ولا توجد فيها المستشفيات، ولا تعبرها سيارات الإسعاف إلا من خلال تصاريح وإجراءات أمنية معقدة، إذ أن هناك أطفالاً يولدون في الشارع، في تلك المناطق المسجونة خلف الجدار، بالإضافة إلى المراقبة المميتة بالكاميرات لها، كما أن منطقة العيسوية المقدسية تقع محتجزة بين الجدار والحاجز الأمني الإسرائيلي، وهو ما يعرضها لفقر الخدمات الصحية والحياتية، بشكل مستمر، كما يخضع الأمر لمزاجية الجنود الإسرائيليين، إذا قرروا فرض حظر التجول على القرية الفلسطينية.
نجح الاحتلال الإسرائيلي من خلال هذا التعدي في عزل أهل مدينة القدس عن أهل الضفة الغربية، بشكل كامل، وتمكن من منع الكثير من العائلات من الضفّة الغربية من التواصل التلقائي، من خلال هذا الساتر الاسمنتي الشاهق
الجدار العنصري الفاصل الذي يمتد في عمق الحياة الفلسطينية، تستخدمه إسرائيل لإهدار حياة الإنسان الفلسطيني، من خلال كسر طريقه، ووضع سد في اتصاله بالآخرين من أبناء، فيمر مفعوله في الشريان الفلسطيني مثل جلطة دموية، تتسبب بالشلل لأعضاء الجسد الفلسطيني لمدة أكثر من عشرين عاماً.
وفي عام 2004، صدر حكم من منظمة العفو الدولية يجرم السياسات الإسرائيلية، ويلزم الاحتلال بإزالة الجدار العنصري، وتعويض المتضررين جراء إقامته، لكن هذا لم يغيّر من الواقع شيئاً، وقد أعادت اتهام إسرائيل بالهيمنة وتجريم الفعل تجاه الإنسانية، ببقاء هذا الجدار في تقريرها الصادر في شباط/ فبراير من هذا العام، وأصرت على نيتها الاستمرار في فضح ممارسات الاحتلال.
الشاب الثلاثيني أدهم عمر، وهو من قرية فرعون جنوب مدينة طولكرم، يقول لرصيف22:" معاناتنا لا تتوقف في أرضنا التي جاء جدار الفصل العنصري ليقسمها من المنتصف، ويتسبب لنا بأزمة حقيقية، ومخاوف كبيرة، وقلق داخلي، جراء احتكاكنا اليومي بالجنود الإسرائيليين بمحاذاة الجدار".
ويضيف: "شعور قهري في أن يتم منعنا من الدخول لأراضينا، وإقامة هذا الجدار في منتصف أملاكنا، فأنا لا أستطيع الدخول لأرضي إلا بموافقة الاحتلال، وفي أوقات محددة، هذا ظلم لا يحتمل".
مسافة مبالغ فيها
وحينما تكون المسافة بين الإنسان والجانب الآخر من أرضه مسافة سُمك جدار قمعي، يقف في منتصف الطين، فإن الشعور يصبح أكثر مأسوية، وكأنما خزان المشاعر مصوب تجاه الرمل الممنوع للأرض خلف الجدار، فالأمر يشبه ألا يتحكم إنسان في نصف جسده، وتخذله الخطوة تجاه مشاعره المكتملة، فيما يكون عليه إكمال الصراع مع معضلة شعورية بنصف في متناوله، وآخر يشعره بالعجز والضمور.
يقول أدهم عمر:"لا يوجد بيننا وبين أرضنا مسافة تذكر، لكن بسبب وجود الجدار العنصري الاحتلالي، فإننا بحاجة لقطع مسافة طويلة جداً للوصول لأرضنا، وحتى وإن تم هذا فإننا محكومون بمواعيد محددة من قبل جنود الاحتلال، مثلاً السادسة صباحاً، وليس مسموحاً قبل ذلك الوقت أو بعده".
ويكمل بغصّة: "حينما نصل للأرض ونبدأ في جني الثمار أو الاعتناء بها، يفاجئنا جنود الاحتلال، ودون أي مبرر، بوجوب إخلاء الأرض دون نقاش، ولم يكن قد مضى على دخولنا الأرض أكثر من نصف ساعة، هكذا، وبهذه المزاجية يحدد الاحتلال شكل حياتنا اليومي".
حينما نصل للأرض ونبدأ في جني الثمار أو الاعتناء بها، يفاجئنا جنود الاحتلال، ودون أي مبرر، بوجوب إخلاء الأرض دون نقاش، ولم يكن قد مضى على دخولنا الأرض أكثر من نصف ساعة، هكذا، وبهذه المزاجية يحدد الاحتلال شكل حياتنا اليومي
ويضيف: "يأتي جنود الاحتلال وكأنهم متفاجئون بوجودنا، ويداهموننا بالأسئلة، ماذا تفعلون هنا؟ ولماذا أنتم هنا؟ أسئلة سخيفة، تجعل الدم يفور من شدة القهر والخذلان، ونبدأ بالحديث معهم دون وعي بكل اللغات الممكنة، نحدثهم بالعربية، بالإنجليزية، بالعبرية، نفهمهم، وبالكاد يفهموننا، أو لا يريدون ذلك، كل ما يعونه في تلك اللحظة، مزاجيتهم، والتي قد تصل أن يكون في يوم ما عشر دقائق متاحة لنا للجلوس في أرضنا، وعلينا المغادرة فوراً، ودون أي جدال، وإلا…".
بوز البندقية
يواصل أدهم عمر الكلام:"ذات مرة قبل ستة أعوام، تأخر الجنود الإسرائيليون في فتح البوابة لمدة خمس ساعات، وقد اصطففت ومعي أهلي، وبيننا رجال ونساء كهول، ولكنني تفاجأت بهجوم غريب من جنود الدورية عليّ، وكأنهم قطيع وحوش يداهم فريستهم، وقد اعتدى عليّ أحدهم بمقدمة سلاحه على خاصرتي، وتكاثروا على جسدي، بضربات متتالية، دون معرفة سبب واضح لهذا الاعتداء، وضربني آخر بركلة شديدة العنف، في منتصف وجهي، مما تسبب في جرح شفتيّ من الخارج والداخل، وقد أصبت بفقدان الوعي لحظتها من شدة قوة الضربة، وقد أصيب جسدي بالردود والجروح والخدوش جراء هجومهم اللاإنساني، إنهم يستخدمون القوة من أجل قمعنا، وثنينا عن المطالبة بحقوقنا، ويدعون ليل نهار بأنهم دولة قانون، هذا كذب كبير".
ويتابع أدهم عمر:"على الجانب الآخر من أرضنا، خلف الجدار العنصر، ترقد ذكرياتنا، ومشاعر الحب للأرض والهوية والشجر الممنوع عنا، هناك بستان الزيتون واللوز والتين، الذي لا أستطيع وأهلي الوصول إليه، مثلما لا نستطيع الوصول لأقاربنا وأصدقائنا، الذين نتشارك معهم لحظات جميلة، لحظات لا يمكن أن تنسى".
ولطالما بقي الإنسان في صراع مع إحساسه باللحظة، والمكان، فيكون المكان في هذه الحالة مساحة مختلفة، لربما أوسع من البراح ذاته، وتكون اللحظة فيه بعمق بئر، ويصير الاعتيادي على تلك الأرض الممنوعة خلف الجدار محملاً بأحاسيس شديدة الخصوصية.
يقول عمر حول هذا: "هنا في الجزء المسجون من أرضنا، كل لحظة لها مكانة مختلفة، فإنني أشعر بنكهة الطعام أكثر مذاقاً من أي مكان، وحينما أتمكن من الجلوس داخل أرضي لوقت أطول، يتيح لي طهي الطعام، أيما كان… يُروادني شعور محزن، ممزوج بالتمني، ويتملكني في لحظة ما، شعور بأن ثمة شيء لطالما فقدته، قد عاد للتو إليّ".
مكان محبوس
أما خالد دويمة، 27 عاماً، من قرية كفر عقب شمال مدينة القدس، ويقع على الجانب الذي تسيطر عليه دولة الاحتلال من جانب الجدار، فيقول لرصيف 22:"من المؤسف أن تعيش في ظروف استثنائية طيلة عمرك، وأنت في وطنك، فمشاعر العزلة وحياة الطوارئ، تلازمنا على الدوام في هذه القرية، التي تم تهميشها من المقدرات الإنسانية، خلف جدار العزل العنصري الاحتلالي، ونحن هنا في هذا المكان الجماعي نعاني عشرات الآلام جراء المنع المستمر من قبل الاحتلال للحياة الطبيعية، كل ذنبنا أننا فلسطينيون ملتزمون بالإقامة على أرضنا، ويحاول الاحتلال بكافة الوسائل، تخريب حياتنا اليومية".
ويضيف دويمة: "في عام 2008، كانت زوجتي حاملاً في شهرها التاسع، وحينما جاءتها أعراض الولادة، كان علي السير بها مسافة طويلة جداً من أجل الوصول للحاجز الإسرائيلي، للطلب من الجنود الحصول على ترخيص، من أجل الذهاب لأقرب مستشفى، لكنهم تعاملوا معنا بكل البرود الممكن، وكأن من تقف أمامهم ليست روحاً إنسانية، وتلقوا طلبي بسخرية وتعالٍ، وبقينا واقفين هناك لأكثر من سبع ساعات، دون رد واضح منهم، وكنت كلما أسألهم عن سبب التأخير، يجيبون أننا في انتظار الحصول على الموافقة لمروركم، وقد كانت زوجتي تعاني آلام الطلق والإرهاق والتعب، ولم تجد مكاناً تجلس فيه، ومع مرور الوقت، لم تحتمل ذلك، وفجأة صرخت بأعلى صوتها، وقد ولدت ابننا في العراء، دون أدنى حق لها في الحصول على المتابعة الصحية، في حالة شديدة الخطورة كالولادة".
نقص أكسجين
ويضيف دويمة لنا: "بعد أن تمكننا أخيراً من الوصول للمستشفى، كانت زوجتي في حالة صحية صعبة، إذ أصيبت بالحمى جراء الولادة غير الإنسانية، والظروف القاسية التي مرت بها على الحاجز، وحينما كشف الأطباء على الجنين، قالوا إنه يعاني من نقص في الأكسجين، جراء الولادة غير الطبيعية، وإنه كان بحاجة لتدخل طبي في وقت سابق، ولقد عانى ابني لفترة طويلة من الاختناقات والتشنجات، وقد واجه خطر توقف القلب، وعدم انتظام ضربات القلب وضغط الدم لسنوات، وكان يعاني من مشاكل في الكلى، والآن تعاوده إشكاليات في التنفس جراء الولادة التي أجبرنا عليها الاحتلال الإسرائيلي".
ويتابع دويمة: "لقد كانت لحظة عصيبة في حياتي، أن أجد زوجتي وابني يواجهان الموت، لقد بكيت بحرقة، حينها شعرت بالشلل، وعدم القدرة على إنقاذهما في تلك الحادثة، حيث كنا نقف في عز ضعفنا، أمام لا مبالاة من جنود الاحتلال، إنهم يتعاملون معنا وكأننا جنس أقل منهم، ولا يعيرون مشاعرنا وآلامنا أي اهتمام، وهذا الشعور بالعجز يمر بشكل يومي في حياتنا، فنحن رهائن للقرارات العشوائية التي تصدر من خلالهم، وبشكل متغير، لحظات خروجنا ودخولنا لقريتنا، فلا أذكر منذ أكثر من عشرين عاماً بأنني عشت حياة هادئة خالية من المعاناة، وهذا كله بعد بناء الجدار الإسمنتي العنصري من الاحتلال، وكذلك الأسلاك الشائكة والجبال الرملية وأبراج المراقبة والبوابات الحديدية المكهربة، والتفتيش والمضايقات، التي يصمم الاحتلال على زجها في طريقنا كل يوم".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...