في شهر آب/ أغسطس من العام 2020، وبعد وقوع أحد أكبر الانفجارات في التاريخ، في مرفأ بيروت، كتب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، عبر التويتر، "تغريدةً" باللغة العربية، للتعبير عن تضامنه مع اللبنانيين، وتأكيد وقوف فرنسا بجانب لبنان دائماً، لكن الدلالات السياسية التي حملتها التغريدة كانت أكبر من قيمة كتابتها باللغة العربية التي يستعملها ماكرون في أكثر من مناسبة، وآخرها حين تأهل منتخب فرنسا إلى الدور الثاني في بطولة كأس العالم المقامة في قطر.
الموقف حينها كان بمثابة "إعلان عودة الاهتمام الفرنسي الكبير بلبنان"، وهو ما ظهر بعدها من خلال زيارات ماكرون نفسه المتتالية إلى بيروت، ثم تواجد فرنسا في قلب كل الأحداث التي حصلت منذ انفجار المرفأ حتى يومنا هذا. فما هي طبيعة الاهتمام الفرنسي التاريخي بلبنان؟ وإلى ماذا يهدف؟
الموارنة طريق البداية
في بحث معمّق عن تاريخ العلاقة بين الفرنسيين ولبنان، نشره "المركز الديمقراطي العربي"، بدأت ملامح العلاقة عن طريق "الموارنة"، وكان الملك الفرنسي لويس التاسع، هو أوّل من مدّ لهم يد العون الفرنسي، وكان أول صديق فرنسي لهم، إذ "سار إليه وفدٌ مؤلف من خمسة عشر ألف ماروني معهم المؤن والهدايا عندما نزل إلى البرّ في شاطئ عكا، وقد سلمهم بهذه المناسبة رسالةً مؤرخةً في 21/5/1250م، فيها تصريح بأن فرنسا تتعهد بحمايتهم"، وجاء في الرسالة: "نحن مقتنعون بأن هذه الأمة التي تُعرف باسم القديس مارون، هي جزء من الأمة الفرنسية".
في العام 1535، عقد معاهدةً فرنسيةً-عثمانيةً مُنحت فيها فرنسا امتيازات في بلاد الشام، وفي القلب منها لبنان
وفي العام 1535، عقد معاهدةً فرنسيةً-عثمانيةً مُنحت فيها فرنسا امتيازات في بلاد الشام، وفي القلب منها لبنان، وبهذه المعاهدة انتزعت فرنسا حقاً في حماية الكاثوليك في لبنان، وترسخت الحماية الفرنسية إثر تعهد للويس الرابع عشر عام 1649، بشأن "حماية الكنيسة المارونية وجميع طوائفها".
بعد الاستقلال اللبناني عن الانتداب الفرنسي عام 1943، بقيت العلاقات طيبةً بين الفرنسيين والمسيحيين في لبنان، لكن في زمن الحرب الأهلية غابت فرنسا، إذ لم يكن لها أي دور في إنهاء الصراع الدائر، سوى استقبال قائد الجيش حينها ميشال عون، على أراضيها، بعد خروجه من لبنان، كما أنها غابت عن اتفاق الطائف، وما تلاه من حكم كانت مظلته أمريكيةً-سوريةً-سعوديةً، وركّزت أكثر على الدور الاقتصادي.
أسباب التراجع
لم يكن "الابتعاد" الفرنسي ناجماً عن رغبة فعلية لديهم، بل مردّه بحسب الصحافي المتخصص في الشؤون الفرنسية والأوروبية تمام نور الدين، إلى الدخول السوري والفلسطيني إلى لبنان، مشيراً في حديثه لرصيف22، إلى أنه "من بعد الدخول السوري، قوات الردع، والدخول الفلسطيني، منظمة التحرير، إلى بيروت، خفّ الوهج الفرنسي في لبنان، وبسبب الطبقة السياسية التي أصبحت تستمع إلى كلمة السوريين أكثر من الفرنسيين، وأصبح الفرنسي -عن طريق السوريين- يطلب ما يريد، وأصبح السوري شريكاً للفرنسي بحكم الأمر الواقع والجغرافيا".
وأيضاً مع السوري، كان هناك دور للسعودي الذي دخل إلى لبنان عام 1980، عن طريق شركة "أوجيه" التي تأسست عام 1978، وبدأت تقوم بأعمال إنشائية وعمرانية، وهنا بحسب نور الدين، صارت فرنسا مضطرةً إلى التعامل مع السعودي والسوري لتتمكن من إدارة أمورها في لبنان.
اهتمام يخفّ ويشتدّ
يرى الصحافي المتخصص في الشؤون الفرنسية والأوروبية، أن الاهتمام الفرنسي بلبنان والذي بدأ منذ أيام نابليون الثالث، عندما أرسل الجيش الفرنسي إلى الشواطئ اللبنانية لأجل حماية المسيحيين عام 1860، "ما زال يخفّ ويقوى"، ويقول: "ففي عهد الرئيس نيكولا ساركوزي، سُجّلت نسبة الاهتمام الأقل بلبنان، واستمر الاهتمام باهتاً خلال عهد الرئيس فرنسوا هولاند"، مستذكراً يوم استقبل ساركوزي البطريرك الماروني بشارة الراعي، وكيف أن الراعي عندما شعر بخفّة الاهتمام، قرر المغادرة، مشيراً إلى أن الاهتمام الأقوى بلبنان كان في عهدَي جاك شيراك، واليوم إيمانويل ماكرون.
"نحن مقتنعون بأن هذه الأمة التي تُعرف باسم القديس مارون، هي جزء من الأمة الفرنسية"، من رسالة اللويس التاسع لموارنة لبنان الذين انتظروه عند شواطئ عكّا، فكيف تطورت العلاقة بعدها؟
بعد الطائف، والدخول الفعلي لرئيس الوزراء السابق الشهيد رفيق الحريري إلى الحياة السياسية في لبنان، كانت هناك علاقة صداقة كبيرة بين الرئيس الفرنسي جاك شيراك، الذي وصل إلى الرئاسة الفرنسية عام 1995، والحريري، ويومها، انتقلت فرنسا إلى موقع اقتصادي، فكبُرت الحركة التجارية بين البلدين، ورعت فرنسا خلال ولاية شيراك، مؤتمرات باريس 1 و2 عام 2001 وباريس 3 عام 2007، لتقديم الدعم الاقتصادي للبنان، فكانت وكأنها "أمّه الحنون" التي تجمع الأموال لولدها من الدول المانحة، وصولاً إلى مؤتمر "سيدر" في زمن الرئيس ماكرون عام 2018، والذي سبق الانهيار الاقتصادي اللبناني، وكان له شروطه التي لم تجعل أمواله البالغة نحو 11 مليار دولار تصل إلى لبنان حتى اليوم، بسبب غياب الإصلاحات وانتشار الفساد.
الأهداف الفرنسية
عام 2005، اغتيل رفيق الحريري وخرج الجيش السوري من لبنان، وبدأت حقبة سياسية جديدة، فتعدد اللاعبون على الساحة الداخلية، وحاولت فرنسا أن تُعيد قوتها ونفوذها، أو على الأقل أن تحفظ موطئ قدم لها، الأمر الذي بدأ عام 2007 من خلال دعوة اللبنانيين إلى طاولة حوار في مدينة سان كلو الفرنسية، لمناقشة مستقبل الصيغة اللبنانية في ظل الفراغ الرئاسي، لكن الحوار آنذاك لم يؤدِ إلى نتيجة.
كان الانهيار الاقتصادي في لبنان، ومن بعده انفجار مرفأ بيروت، في 4 آب/ أغسطس 2020، نقطة تحول سعى الفرنسي من خلالها إلى العودة الى الساحة اللبنانية بقوة، فكانت زيارة الرئيس الفرنسي ماكرون إلى بيروت بعد يومين فقط من الانفجار، وكلامه الذي حمل إشارات سياسيةً بالغة الأهمية يوم قال من شارع الجميزة في بيروت: "سأقترح على المسؤولين اللبنانيين ميثاقاً سياسياً جديداً لتغيير النظام".
كان الانهيار الاقتصادي، ومن بعده انفجار مرفأ بيروت، نقطة تحول سعى الفرنسي من خلالها إلى العودة إلى الساحة اللبنانية
توالت بعد ذلك التاريخ زيارات ماكرون الذي أدخل إدارته في تفاصيل الحياة السياسية اللبنانية وتشكيل الحكومات، حتى وصل به الأمر إلى تزكية مرشحين لتشكيل الحكومة، مثل سفير لبنان في ألمانيا مصطفى أديب، وبات لفرنسا ما يشبه الحصة الوزارية المؤلفة من وزراء لبنانيين يحملون الجنسية الفرنسية. فهل الهدف اليوم تغيير النظام؟
يُشير نور الدين، إلى أن "فرنسا ترى أن الصيغة الحالية لم تعد تنفع لبنان، ولكنها لم تعد اللاعب الوحيد فيه، إذ إن هناك الأمريكيين والسوريين، وهناك طرف لبناني أساسي موجود على الساحة اللبنانية هو الطرف الشيعي، الذي لديه امتدادات من سوريا إلى إيران، لذا لم تعد فرنسا قادرةً وحدها على مناقشة مستقبل لبنان، وأصبحت مضطرةً إلى أن تتحدث مع السعودي، والإيراني، والأمريكي".
يروي نور الدين، أنه "كانت هناك حماسة لدى ماكرون لتغيير الصيغة الحالية للبنان، ولكنها اصطدمت بالموقف السعودي، وبعد قمة ماكرون-محمد بن سلمان في جدة، بداية العام 2021، أصبح من اللازم الحديث عن اتفاق الطائف في كل بيان يصدر عن لقاء فرنسي-سعودي، بسبب رمزيته لدى السعودية، وتالياً فرنسا لم تعد منفردةً بقرار لبنان لتقرر ما ترغب فيه".
إذاً، لا يمكن لباريس اليوم أن تفرض على لبنان أي تسوية من دون الاتفاق بين الدول المؤثرة في كل المنطقة نظراً إلى الارتباطات الموجودة، الجغرافية من جهة، والسياسية من جهة أخرى، فارتباطات الأطراف اللبنانيين بالمنطقة تفرض على الفرنسيين أن يتفقوا مع دول متعددة، من أجل أي تغيير في الصيغة الحالية للبنان، وكل ما يمكن لفرنسا القيام به اليوم هو تسوية مرحلية، ولكن التسوية النهائية أي ما يشبه "الطائف"، بحاجة إلى توافق الجميع.
دور اقتصادي وسياسي
يعيش لبنان مرحلة تمرير وقت في انتظار الحل النهائي في المنطقة، وباريس عملت على الجانب الاقتصادي من اتفاق "أبراهام"، وهذا ليس خافياً على أحد، لإدخال كل المنطقة من الإمارات إلى السعودية والأردن والعراق وسوريا وإسرائيل ولبنان، في جبهة اقتصادية واحدة، وبحسب نور الدين فإن "الشركات الفرنسية تعمل حالياً على موضوع الطاقات المتجددة، ويقومون بمشاريع مع السعودية والإمارات بمليارات الدولارات، والقواعد الفرنسية أصبحت موجودةً في الأردن والإمارات، وقريباً ستتواجد في السعودية كونها تخرج من العباءة الأمريكية".
فرنسا ترى أن الصيغة الحالية لم تعد تنفع لبنان، ولكنها لم تعد اللاعب الوحيد فيه، فكيف يُمكن أن تفرض تغيير الصيغة ومع من ستتكلم أولاً؟
يضيف: "أكد الفرنسيون على قدرتهم في حماية السعودية في المنطقة، وهم يلعبون دوراً لا يمكن لأي طرف آخر أن يلعبه، كونهم منفتحين على كل الأطراف اللبنانية ومن ضمنها حزب الله، وهذا الدور لا يمكن أن تؤدّيه السعودية في الواقع الموجود، وهناك أطراف لا يمكن أن تتواصل مع السعودية أو أمريكا، والعكس صحيح، لذا فرنسا اليوم هي الوسيط بين هذه الأطراف لتمرير الحل المؤقت الذي سيأتي على أساسه قائد الجيش جوزيف عون، رئيساً للجمهورية".
لا يمكن لفرنسا أن تفرض ما تُريد، لكنها الوحيدة القادرة على الحوار مع كل الأطراف المتنازعة في المنطقة لأجل تمرير التسويات التي تكون بطابعها سياسي، وباطنها اقتصادي بحت، بعد أن أصبح لبنان جزءاً من منطقة غنية بثروات النفط والغاز، من دون أن يعني هذا أن اهتمام فرنسا التاريخي بلبنان هدفه ماديّ فقط، فبحسب نور الدين فإن "لبنان هو الدولة الوحيدة في العالم التي يُشار إليها بعبارة ‘الدولة الشقيقة’ لفرنسا على لسان الدبلوماسيين الفرنسيين ووزراء الخارجية".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ 3 ساعات??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 23 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون