في حزيران/ يونيو من العام 2018، دخلت الدولة اللبنانية في مفاوضات مع شركة "bein" القطرية، ووكيلتها في لبنان شركة "سما" لنقل مباريات كأس العالم في روسيا على شاشة تلفزيون لبنان الأرضية، وليتمكن اللبنانيون من مشاهدة البطولة الأهم للرياضة الشعبية الأولى في العالم، وقد نجحت في ذلك بالرغم من أن المفاوضات وُصفت حينها بأنها "شحادة"، أي تسوّل، في محاولة لتخفيض التكاليف، لتتمكن الدولة من تحمّلها.
اليوم وبعد أربع سنوات، حان موعد مونديال قطر. سنوات تبدّلت فيها الحياة في لبنان بعد الانهيار الاقتصادي الكبير عام 2019، وفي حال كانت الدولة سابقاً تتسوّل لنقل المباريات، فإنها اليوم تتوسّل لنقلها، ولم تنجح في ذلك بسبب 4 ملايين دولار ونصف، تقول الحكومة اللبنانية إنها غير قادرة على دفعها بسبب عدم قدرتها دستورياً على الاجتماع بسبب الفراغ الرئاسي المخيّم على البلاد، وهو ما جعل فقراء هذا البلد محرومين من لذّة مشاهدة كرة القدم.
"سما" والحصرية
تمتلك شركة "سما" الحق الحصري لبث قنوات "bein" الرياضية في لبنان، وهي تأسست عام 2010 في بيروت، وتعمل في مجال الحقوق الحصرية للقنوات الفضائية، أبرزها على الإطلاق القنوات الرياضية التي تنقل أهم البطولات والدوريات الأوروبية لمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وأول كأس عالم حصلت "سما" على حقوق نقله، كان مونديال عام 2014، واستمرت الأمور على ما هي عليه حتى يومنا هذا.
تمتلك شركة "سما" الحق الحصري لبث قنوات "bein" الرياضية في لبنان، وهي تأسست عام 2010 في بيروت
تمتلك الشركة وكالةً حصرية تسري على جميع المناطق اللبنانية، وتشتمل وكالتها الحصرية على "حقوق البث وإعادة البث الأرضي والهوائي وIPTV، وحقوق بيع بطاقات DTH، وبث القنوات عبر الشاشات الكبيرة في المقاهي والفنادق، على أن تكون هذه الحقوق حصريةً ولا يمكن بثها أو إعادة بثها والعمل بها من دون الحصول على إذن مسبق من الشركة وذلك بموجب الاتفاقية الموقعة مع الجزيرة الرياضية (التي أصبحت bein اليوم).
كلفة الاشتراك
في المنازل، تختلف كلفة الاشتراك لمشاهدة المونديال بين من يملك في الأصل الجهاز الرقمي "الريسيفير"، وبين من لا يمتلكه، فالأول يمكنه أن يشترك في القنوات التي تبث مباريات كأس العالم مقابل 55 دولاراً في بيروت على سبيل المثال، و65 دولاراً في مناطق الجنوب، وذلك بسبب اختلاف الجهة المزوّدة، بين وكيل مباشر لشركة "سما"، وموزّع فرعي يحصل على 10 دولارات من كل مشترك، بينما تكون الـ55 دولاراً للوكيل. هكذا تكون الكلفة بالليرة نحو مليونين و200 ألف ليرة، وتالياً كلفة المباراة الواحدة 34 ألف ليرة لبنانية.
أما الثاني، فعليه شراء جهاز البث الرقمي، وتالياً يصبح الاشتراك بكلفة 95 دولاراً أمريكياً تقريباً، أي ما يساوي اليوم في لبنان، 3 ملايين و800 ألف ليرة لبنانية، وتكون كلفة مشاهدة كل مباراة نحو 60 ألف ليرة.
هذا بالنسبة إلى المنازل، أمّا المقاهي فتدبيرها مختلف، وأسعارها مختلفة تتراوح بين 500 دولار، و20 ألف دولار، وذلك بحسب مساحة المقهى وعدد الكراسي الذي يتضمّنه، وموقعه الجغرافي.
وكانت وزارة السياحة اللبنانية قد أعلنت في 19 تشرين الثاني/ نوفمبر الجاري، أنه "مع انطلاق مباريات كأس العالم لكرة القدم 2022، وحيث أنه تترتب على المؤسسات السياحية التي ستقوم بعرض المباريات في صالاتها كلفة مالية، كل مؤسسة بحسب قدرتها الاستيعابية، يُسمح للمؤسسات السياحية التي ستنقل المباريات، باستيفاء رسم دخول عن كل شخص أو تحديد السعر المطلوب استيفائه عن كل شخص بحسب ما تقدمه المؤسسة، خلال فترة بث المباراة".
وعليه، قامت بعض المقاهي بفرض تسعيرة لكل كرسي مقابل مشاهدة مباراة في كأس العالم، وبعضها الآخر قام بفرض "minimum charge" على كل زبون، أي دفع مبلغ من المال يتضمن المشاهدة، والأكل والشرب، وذلك بهدف وضع حدّ أدنى لفاتورة كل زبون.
المونديال بـ10 ملايين
بعض المقاهي الشهيرة لبنان، دفعت للوكيل الحصري مبالغ تفوق الـ10 آلاف دولار، وبعضها وصل إلى حدود الـ20 ألف دولار، ففرضت مبالغ كبيرةً بالليرة اللبنانية مقابل مشاهدة كأس العالم، لن تتمكن نسبة كبيرة من اللبنانيين من تلبيتها.
في جولة على بعض المقاهي في أكثر من منطقة في العاصمة بيروت، يتبيّن أن الحد الأدنى لمشاهدة مباراة واحدة في كأس العالم يتراوح بين 200 إلى 400 ألف ليرة، لماذا وكيف؟
وقام رصيف22 بجولة على بعض المقاهي في بيروت، ليتبيّن بنتيجتها أن المبالغ تتراوح بحسب المكان، ما بين 100 و400 ألف ليرة كمعدل عام، وذلك بحسب أهمية المباراة، وتالياً في حال أراد مواطن مشاهدة نصف مباريات كأس العالم، أي 34 مباراةً، فعليه دفع ما بين 3 ملايين و400 ألف و10 ملايين و200 ألف ليرة، للمشاهدة فقط، وهذه المقاهي هي من ضمن المجموعة التي دفعت للوكيل أكثر من 10 آلاف دولار للحصول على حق بثّ المباريات، وبعض المقاهي اتّبعت طريقة "الحدّ الأدنى للفاتورة"، وهذه المقاهي دفعت للوكيل أقل من 10 آلاف دولار، والمقاهي الشعبية الصغيرة دفعت نحو 500 إلى 1000 دولار أمريكي.
في منطقة الأشرفية في بيروت، تطلب قهوة "لبنان"، حدّاً أدنى من الزبون بقيمة 400 ألف ليرة لبنانية، أما غرين كافيه الواقعة في المنطقة نفسها، فتفرض حداً أدنى على الزبون قيمته 250 ألف ليرة في المباريات المهمة حصراً، بينما يُقدم مطعم الساحة على طريق المطار في بيروت المشاهدة مجاناً، على اعتبار أن المناسبة قادرة على جمع عدد أكبر من الزبائن، وهو من الأماكن المقصودة دائماً، في حال وجود مباريات أو في حال عدم وجودها.
"pros" كافيه في منطقة الدكوانة، تفرض حدّاً أدنى للفاتورة بحسب المباراة، وتتراوح الأسعار بين 100 و200 ألف ليرة، بهدف تحصيل ثمن الاشتراك كما يقولون، بينما في مقهى "كعكايا" في شارع الحمرا الحدّ الأدنى هو 150 ألف ليرة، وفي كازينو لبنان الذي يستقبل الروّاد في صالة السفراء، تتراوح الأسعار في الحدّ الأدنى للفاتورة بين 300 و350 ألف ليرة لبنانية.
في الضاحية الجنوبية لبيروت، وضع مقهى "غاردينيا" لزبائنه حدّاً أدنى للفاتورة قيمته 100 ألف ليرة، أي ما يسمح بالحصول على نرجيلة ومشروب ساخن أو بارد، ويقول صاحبه محمد لرصيف22، إن هذا المبلغ الزهيد يأتي بسبب معرفته بمستوى زبائنه المادّي، مشيراً إلى أنه دفع مقابل الحصول على حق البثّ 800 دولار أمريكي، أي 32 مليون ليرة.
سرقة البثّ غير متوفرة، وكل ما يمكن فعله هو المشاهدة عبر تطبيقات على الهاتف لا تقدم جودةً جيدةً وهي تتعرض للحجب دوماً
في بعض المقاهي الشعبية في القرى والبلدات البعيدة عن بيروت، فإن رسم الاشتراك هو كرسم اشتراك المواطن في منزله، أي بحدود 65 دولاراً أمريكياً، ولا تفرض هذه المقاهي على روّادها أي بدل للمشاهدة.
محبّو كرة القدم يضحّون لأجلها
يقول فراس، وهو أحد موزعي خدمات الكايبل في منطقة الجاموس وصفير في الضاحية، لرصيف22، إن "90 في المئة من زبائنه الذين يملكون جهاز البثّ الرقمي، اشتركوا لمشاهدة كأس العالم بملبغ 55 دولاراً أمريكياً، بينما هناك نحو 30 مشتركاً اشتروا جهاز البث وحق المشاهدة بملبغ 95 دولاراً"، مشيراً إلى أن محبّي كرة القدم ولو كانوا من الفئات غير الميسورة يدفعون المبلغ لأن كرة القدم تمنح محبيها شعوراً بالفرح، ولذلك هم يضحّون بـ50 أو 100 دولار لأجلها.
يجزم فراس بأن سرقة البثّ غير متوفرة لأحد، وكل ما يمكن فعله هو المشاهدة عبر تطبيقات على الهاتف لا تقدم جودةً جيدةً للصورة، ولا هي مضمونة لأنها تتعرض للحجب من قبل القيمين على الشركة القطرية، أما في المقاهي الشعبية فيمكن عرض المباريات فيها بعد شراء جهاز البث الرقمي المخصص للمنازل، لكن هذه المقاهي ستكون عرضةً للغرامات المرتفعة في حال تمّ ضبطها".
بحسب ما يروي الموزع، فإن الوكيل الحصري يقوم عبر موظفيه بجولات على المناطق للتأكد من عدم مخالفة أحد، وستكثر الجولات في منتصف كأس العالم، مشيراً إلى أن مثل هذه الأعمال تحصل في المناطق البعيدة عن العاصمة، وفي بعض المناطق المكتظة والفقيرة داخل العاصمة، حيث تكون المراقبة صعبة للغاية.
الفقير محروم من المتعة
ليس كل اللبنانيين قادرين على متابعة متعة كرة القدم في كأس العالم، فلا هم قادرون على جلب المباريات إلى منازلهم، ولا التوجه لمشاهدتها في المقاهي والمطاعم، وقد يكون الأمر في بيروت والمدن الكبرى أصعب بالنسبة إلى هؤلاء كون المقاهي في القرى تقدّم المتعة مجاناً، ويوسف حويلا أحد هؤلاء، وهو شاب يسكن في بيروت، ويشجع المنتخب البرازيلي ويبحث عن طريقة لمشاهدة مباريات منتخبه المفضل فقط.
راتب يوسف يبلغ 5 مليون ليرة، إذا أراد أن يتابع المباريات، المهمّة منها، فهو بحاجة لما يفوق راتبه فقط كي يشاهدها في المقهى، فماذا يفعل ومن مثله في هذه الحال؟
يقول لرصيف22: "راتبي يبلغ 5 ملايين ليرة فقط، وبالكاد أؤمّن مصاريف الطعام والشراب وإيجار المنزل، وأنا غير قادر على مشاهدة المباريات لا في منزلي ولا في المقاهي، وحتى على تطبيق "دراما لايف" الذي قال لي أحد أصدقائي إنه يمكن مشاهدة المباريات من خلاله على الهاتف، لكنه يحتاج إلى الكثير من "الإنترنت"، كذلك مواقع البثّ المباشر التي تسرق العرض، لذلك سوف أحاول مشاهدة مباريات البرازيل في منزل صديق لي".
ما ينطبق على يوسف ينطبق على كثيرين، فلبنان في وضع اقتصادي حرج، والتضخم الذي طاول الاقتصاد جعل الفقراء الأغلبية في البلد، وهؤلاء ليس لديهم أمل بمتابعة كأس العالم سوى عبر تلفزيون لبنان الذي لم يُعلن للّبنانيين الخبر السار بعد، بالرغم من أن المبلغ المطلوب يُعدّ رقماً بسيطاً للمتمولين من سياسيين ورجال أعمال الذين استفادوا على مدى عقود من خيرات لبنان وأموال كل اللبنانيين.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين