"إنا لله وإنا إليه راجعون، انتقل إلى رحمة الله تعالى زوجي حبيبي محمد أبو الغيط بعد ‘مقاومة باسلة‘ ضد مرض السرطان. الرجاء الدعاء له بالرحمة والمغفرة ولنا بالصبر الجميل"، بهذه الكلمات أعلنت إسراء شهاب الخبر المفجع الذي أعقب دخول الطبيب والصحافي المصري النابه في غيبوبة تامة ثلاثة أيام.
ما إن أُعلن الخبر، الذي كان صادماً بقدر ما كان مرتقباً بالنظر إلى تدهور حالة أبو الغيط في الأسابيع القليلة الماضية وفق ما دوّنه هو نفسه عبر حسابه في فيسبوك، حتى انطلقت عبر مواقع التواصل الاجتماعي "مظاهرة حب تاريخية في محبة محمد والثناء عليه" و"حالة حزن مدهشة، وإجماع نادر على إنسانية ونبل وجودة شخص، في وقت عزت فيه الإنسانية والنبل".
وهو ما اعتبره الصحافي خالد البلشي "وداعاً يليق بالصادقين" أمثاله، مشدداً "مفيش كلام يوفيك حقك... حملت أمانتك وأديتها كاملة". وشدد الصحافي محمود التميمي أنه "صدق وعده مع الضوء... فذهب حيث ينبع كل ضوء"، قائلاً إن "رحلته في محاربة مرض السرطان كانت ملهمة للجميع".
ونعى عشرات الصحافيين والكتاب "زهرة من زهور يناير" في "يوم حزين تتحجّر على أعتابه الكلمات"، وتذكروا كيف أن "يومياته مع السرطان كانت تلهمنا الأمل" فيما ذهب البعض منهم إلى أنه لم يخسر معركته أمام السرطان وآلامه وإنما "الانتصارَ لا يأتي بالصور التي نشتهيها أحياناً". واعترف الكثير منهم بفضله عليهم ومساعدته لهم في حياتهم المهنية والشخصية.
كما رثت نقابة أطباء مصر أبو الغيط الذي "رحل شاباً وترك تاريخاً، من المواقف والكتابات الموضوعية والتحقيقات الاستقصائية، يبقيه حياً في القلوب".
"بعد مقاومة باسلة ضد مرض السرطان"... الموت يُغيّب الصحافي المصري النابه محمد أبو الغيط عن 34 عاماً في منفاه الاختياري بلندن. مناشدات للحكومة المصرية للإفراج عن والد زوجته ليؤازرها في محنتها وتتحقق "أمنيته الأخيرة"
من هو محمد أبو الغيط؟
ولد أبو الغيط في محافظة أسيوط عام 1988، درس بها الطب، وعمل في مستشفيات القاهرة قبل أن يتحول إلى العمل الصحافي حيث عمل صحافياً لدى الشروق حتى عام 2014، وكان أحد كُتاب مقالات الرأي بها. بعد ذلك، وبسبب مواقفه وأفكاره وكتاباته المغايرة للنظام الحاكم، انتقل للعيش في لندن.
تخصص أبو الغيط في الصحافة الاستقصائية وشارك في تحقيقات استقصائية عابرة للدول، تتناول قضايا تجارة السلاح وانتهاكات حقوق الإنسان والتطرف والفساد وتتبع الأموال. كما عمل مدققاً للحقائق، وأشرف على إنتاج تحقيقات ودرّب صحافيين لصالح مؤسسات عديدة، كما عمل بمجال الإنتاج التلفزيوني مع قنوات عربية وأجنبية. واشتغل مذيعاً في الراديو عبر الإنترنت.
وبرغم صغر سنه، حصد العديد من الجوائز الدولية عبر التحقيقات التي شارك فيها. وتم تكريمه في عدة محافل دولية. قبل أسبوع، كرّم منتدى مصر للإعلام أبو الغيط، في حفل ختام المنتدى في نسخته الأولى، "لإسهاماته المتميزة وتجربته الملهمة في مجال الصحافة والإعلام".
وأخيراً، أُعلن عن قرب صدور أحدث مؤلّفاته، كتاب "أنا قادم أيها الضوء"، عن دار الشروق، ومن تحرير صديقه الكاتب الصحافي أحمد سمير.
وهو كتاب "مُلهم وإنساني، يحمل في كلماته روح المقاتل وعزيمة المثابر وحكمة المتأمل، لا يحكي فيه محمد أبو الغيط عن المعركة الشرسة بينه وبين أبغض أمراض العصر، بل يحكي عن العشرات والعشرات من التفاصيل في جوانب الحياة المختلفة، تتماس وتبتعد عن بعضها البعض لكن يبقى هو وروحه التي لا تقهر وإرادته البشرية الهائلة وإنسانيته اللا محدودة، هي العوامل المشتركة بين كل تلك الحكايات".
وبقلم أبو الغيط، يرد في الكتاب: "لو تحققت نجاتي بمعجزة ما، فسأسعى نحو ذلك الضوء الذي زادت خبرتي به وتقديري له في أيام مرضي، وسأمنح ما أستطيع عرفاناً لكوني محظوظاً بزوجة مضيئة، وبأبٍ وأمٍّ مضيئيْن، وبالكثير من الأصدقاء الذين يطمئنني نورهم لحقيقة الخير في الدنيا. ولو وافاني القدر بالوقت الذي قدره الأطباء، أرجو أن يكون ما بعد نفقي نوراً وهدوءً، وأن يمرَّ عبر هذا الكتاب بعض الضوء إلى من يقرأ".
كان الأمل بالشفاء، أو على الأقل العودة لحياة شبه طبيعية، عظيماً لدى محمد أبو الغيط. كتب في آخر منشور له: "قبل أيام قال الأطباء إن ما بقي قد لا يجاوز شهراً أو اثنين على الأكثر، لكني أدير الحياة ولو ساعة واحدة باقية تلو ساعة، لا يوماً تلو يوم"
يوميات محارب سرطان
وعبر حسابه في فيسبوك، شارك أبو الغيط - قدر استطاعته - عدة منشورات عن يومياته مع المرض والألم، بتجرد تام من السوداوية وحرص شديد على بث الأمل في نفوس من يقرأها، وتقديم المعرفة العلمية بأحدث ما توصل إليه العلم في مجال محاربة هذا المرض الفتّاك، مستفيداً من خبرته العلمية وتجربته المرضية التي استمرت عاماً واحداً.
في منشوره "سؤال الألم"، بتاريخ 3 تشرين الأول/ أكتوبر 2022، قال أبو الغيط: "12 نوفمبر 2021، أحفظ هذا التاريخ جيداً. هذا تاريخ أسوأ ألم في حياتي على الإطلاق.
كنت قد أجريت عملية استئصال الورم ومعه المعدة والطحال وأشياء أخرى قبل أسبوع، كنت ممنوعاً تماماً من أي شيء يؤكل أو يُشرب، لكن في ذلك اليوم، بعد التأكد من عدم وجود تسريب بوصلة المريء بالأمعاء، طلب الطبيب أن أتناول 30 مل من المياه كل ساعة فقط لا غير. أحضروا أكواباً ورقية صغيرة جداً وبدا لي الأمر سهلاً. عرفت أنها ثقة الجهل. مع أول تجربة أتى الألم الرهيب. فعلاً أتردد بوصفه. وعموماً فإن بعض المشاعر تعجز عنها الكلمات، منها ذروة الحب وذروة الألم. لم يحدث أن تمنيت الموت خلال مساري كله إلا في ذلك اليوم.
يبدأ الألم كأنها كرة من السكاكين تنزل ببطء من فمي، الأمر محتمل حتى تنحشر أسفل صدري مباشرة، ثم تتجه ببطء إلى اليسار وهي تتضخم، وتتضخم، بينما أتمزق من الداخل، حتى تتوقف أسفل قلبي ورئتي اليسرى... وتنفجر!
ألم رهيب يسري حتى أعلى كتفي الأيسر. قمة الرئة تضغط على أعصاب ما في ذلك الموضع مع كل نفس. لا يمكنني التأوه أو الصراخ، بل أجاهد كل لا أتنفس، لأن كل نفس يعني دفعاً أكبر للرئة بالأعلى".
مع ذلك، كان الأمل بالشفاء، أو على الأقل العودة لحياة شبه طبيعية، عظيماً لدى أبو الغيط. كتب في إحدى تدوينات يومياته مع المرض اللعين: "رغم أن شعوري الغالب هو أني سأموت بذلك المرض، لكني كنت دائماً أتهرب بالتفكير في أن أرقامي تقول إنه ما زال أمامي أشهراً على الأقل. ما زلت بلا فشل كبدي حاد ولا دمار ضخم في المخ أو الرئة".
قال أيضاً: "رغم أني غير متحمس كثيراً لتوصيف ‘مقاتل السرطان‘ الذي يضفي توقعات معينة قد لا تتوافق مع كل المرضى، وقد تمثل عبئاً عليهم، لكني في هذه اللحظة تحديداً استحضرت تماماً ذلك الوصف. سأقاتله وأنتصر عليه في هذه الجولة على الأقل بأي ثمن. سأقدم الكثير من الآلام قرباناً للوحش عله يرضى ويفلتني من أنيابه ولو قليلاً".
وكتب في آخر منشور له: "قبل أيام قال الأطباء إن ما بقى قد لا يجاوز شهراً أو اثنين على الأكثر، لكني أدير الحياة ولو ساعة واحدة باقية تلو ساعة، لا يوماً تلو يوم".
في أيامه الأخيرة، حرص أبو الغيط على الإشادة بدور أسرته الصغيرة، زوجته وطفله الوحيد، وعائلته الأكبر، والديه وأشقائه في رحلة علاجه وفي حياته عموماً في منشورات مطوّلة وملهمة وشديدة الحرفية والإنسانية في الوقت نفسه
"لو تحققت نجاتي، فسأسعى نحو ذلك الضوء الذي زادت خبرتي به وتقديري له في أيام مرضي، وسأمنح عرفاناً لكوني محظوظاً بزوجة مضيئة، وبأبٍ وأمٍّ مضيئيْن… ولو وافاني القدر، أرجو أن يكون ما بعد نفقي نوراً وهدوءاً، وأن يمرَّ عبر هذا الكتاب بعض الضوء لمن يقرأ"
على جزأين، كتب أبو الغيط عن الدور الباسل الذي لعبته زوجته إسراء في معركته ضد السرطان، وفي حياته منذ التقيا للمرة الأولى قبل نحو عقد من الزمن، تحت عنوان: "وردتي البيضاء الخارقة".
عنها قال:
"كل يوم أخسر عضواً أو وظيفة من عضو. كأني أتساقط بالتدريج. هل أموت بالتقسيط؟ أصارح إسراء بأفكاري الرثائية فتطلب مني التوقف عن هذا التفكير، وأنظر لجوانب إيجابية.
أتأملها نائمة على سرير مستواه منخفض للغاية تحتي، فأقول لها: يا إسراء كإنك بتعملي اللي بيقولوه في الأفلام ‘فضلت قاعدة عند رجل جوزها تخدمه‘. فتقول إنها تفخر بهذا التشبيه ما دام هي من اختارت أن تفعل ذلك لحبيبها، بل تؤكد أنه ‘ده العادي‘ لأني كنت سأفعل المثل لو تبادلنا الظروف، ‘مش كدة ولا إيه؟‘ فأقول لها إني أقسم أني لو كنت مكانها ما فعلت إلا ذلك، ويشرفني أن أكون عند قدميها لأخدمها، لكني أحمد الله أنني أنا المصاب لا هي. نتشارك البكاء…
بالتوازي تستمر إسراء الخارقة في فعل ما لم أتوقعه: تواصل عملها في مجالها ‘بحوث السوق‘ بواحدة من الشركات الكبرى عالمياً، بل أبلغوها رسمياً قبل أيام بحصولها على علاوة نهاية العام، أي حققت مستهدفاتها فلا مجاملات في الأرقام.
"رغم أني غير متحمس كثيراً لتوصيف ‘مقاتل السرطان‘ الذي يضفي توقعات معينة قد لا تتوافق مع كل المرضى، وقد تمثل عبئاً عليهم، لكني في هذه اللحظة تحديداً استحضرت تماماً ذلك الوصف. سأقاتله وأنتصر عليه في هذه الجولة على الأقل بأي ثمن".
كانوا قد منحوها بسبب ظروفي استثناء العمل الدائم من المنزل. لكنه حقاً ‘عمل‘. تسهر معي بهذا الجحيم الليلي ثم أفتح عيني في الثامنة فأجدها تفتح شاشتها المليئة بالجداول والأرقام. بالتوازي كل خطط و‘روتين‘ يحيي تمضي حسب المعتاد إلى حد كبير، تذهب به مواعيد تمارين السباحة والفنون واجتماعات المدرسة".
وفي نهاية هذا المنشور الأخير، عاهد نجله يحيى الذي توجه إليه بالكتابة للمرة الأولى: "لو غبت عنك يا بني بعد عشرين يوماً أو شهراً أو عشرين عاماً فثق أني سأكون في مكان ما أنظر إليك. لعلي في نسمة هواء أو تراكم قطرات الندى، أو في أصغر وردة بيضاء تذكرني بأمك… وفي تلك المساحة أعرف أنه ستظل تلك الطاقة من حبي تحيط بك وبأمك سواء كنت أنظر إليكما بعيناي، أو أنظر إليكما بعيون كل ذلك الكون الفسيح الجميل".
هل تتحقق أمنيته الأخيرة؟
في خضم الشعور العميق بالفقد، لفت عدد ممن رثوا أبو الغيط على الظلم الذي وقع عليه في حياته لاضطراره إلى العيش والموت خارج وطنه، ومنهم الصحافية نورا يونس، رئيسة تحرير موقع المنصة.
كتبت: "تقدر تقول إن محمد أبو الغيط مات في عز شبابه بسبب السرطان. لكن متقدرش تنكر أنه مات بعيد عن أهله في منفى اختياري لأنه لو كان في مصر كان زمانه من ضمن القائمة اللي بيتفاوضوا عليها جماعة الحوار الوطني من أجل عفو رئاسي".
وختمت: "البقية في حياتنا يا محمد، يا نحصلك يا البلد تفتح لكل الصحفيين اللي زيك".
من جهتها، انتهزت الناشطة الحقوقية منى سيف الفرصة وناشدت مسؤولي الحكومة المصرية "اتخاذ قرار واحد إنساني رحيم يطبطب على قلوب مظلومة، ويمكن يشفعلكم حبة لما كل اللي عملتوه يتحط في ميزان العدالة الحقيقي قدام ربنا والناس" بالإفراج عن والد إسراء زوجة أبو الغيط، المحبوس منذ عام 2013 بتهمة الانتماء لجماعة الإخوان المسلمين، ليشد من أزرها في هذا المصاب الجلل.
وتساءل الصحافي المخضرم حافظ الميرازي: "هل يمكن تحقيق أمنية فراش الموت للصحافي الذي كرّمه منتدى مصر للإعلام"، مستشهداً بمناشدة أبو الغيط في منشور سابق للتدخل للإفراج عن والد زوجته بقوله: "أرجو ممن كانت لي عنده لحظة ود أن يساعدنا في ألا تُفجع إسراء في زوجها ووالدها ووالدتها المتوفية بالفعل قبل عامين بالسرطان".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...