"قبل فترة بدأت أفقد قدرتي على جعل الأشياء تبدو أفضل. بدأت أعاني من وضوح شديد في الرؤية، وهذا أسوأ ما حصل لي منذ ولادتي. أريد الخروج من هنا وهذا كلّ شيء. أشعر بأني عالقة في الجحيم"؛ بهذه العبارات أجابتني صديقتي رنيم، خريجة كلية الإعلام، عندما سألتها: لماذا تريدين السفر؟ وبهذه العبارات عدت سنوات إلى الوراء، إلى الفترة التي كانت فكرة السفر فيها تأكل رأسي، كآخر طريقة للنجاة، لكني عدلت عنها أخيراً بقوة الأمومة فقط. المغامرة في السفر مع طفلين ليست سوى انتحار.
منذ ثلاث أو أربع سنوات تقريباً، انتشرت موضة الجاكيت الزيتي. دخلت في سباق لشرائه كغيري من الموظفات الحكوميات اللواتي بات سقف أحلامهن لا يتجاوز شراء قطعة ملابس جديدة. جلست أمام راتبي الذي لم يكن وقتها يتجاوز المئة ألف ليرة سورية، أي نحو عشرين دولاراً، وبعد حسابات مطولة، وضعت الميزانية المنشودة التي تمكّنني من شرائه بنحو شهرين فقط. ولكن للأسف خطتي كانت ناقصةً، فأي معجزة قد تحدث لتثبّت الأسعار في بلد كسوريا لمدة شهرين كاملين؟
عدّلت الخطة مراراً وتكراراً، وفي كل مرة كنت أخسر السباق وتفوز الحكومة.
منذ بداية الحرب، وأنا أحاول تحقيق قليل من التوازن اقتصادياً، لكني ما زلت حتى الآن عاجزةً عن ذلك. أنا في النقطة نفسها أدور وأدور حول نفسي، وأتوهم أني أتحرك والحقيقة أن العالم هو الذي يجري ونحن في سوريا نُصاب بالدوار فقط.
كل ما يحيط بنا زائف ومجحف وغير واقعي وغير إنساني، لكننا جميعاً عاجزون عن الرفض. جميعنا نمتلك الذريعة ذاتها. نمتلك الخوف، الحقيقة الوحيدة التي لا مجال للشك فيها في هذه البلاد
جميعنا على وشك السقوط. شعب كاملٌ يمارس حياته الاعتيادية التي يشعر بأنّها منسجمة ومتسقة وطبيعية وواقعية، وفجأةً يدرك أنّه يعيش لحظة ما قبل السقوط، وكل ما يحيط به زائف ومجحف وغير واقعي وغير إنساني، لكننا جميعاً عاجزون عن الرفض. جميعنا نمتلك الذريعة ذاتها. نمتلك الخوف، الحقيقة الوحيدة التي لا مجال للشك فيها في هذه البلاد.
وطني كومة ذكريات
هل يستحق الوطن كلّ هذا الأسى الذي نعيشه جميعاً؟ وهل نعرف حقاً ماذا تعني هذه الكلمة؟
تعود ذاكرتي في هذه اللحظات عشرين سنةً إلى الوراء؛ أتذكر نفسي في تلك الفترة، وبالرغم من ثقل هذه الكلمة إلا أنني في الحقيقة أشعر بالخجل من سذاجتي المفرطة ومن الشخص الذي كنته. أسأل نفسي مراراً وتكراراً لو لم تمر سوريا بما مرّت به، هل كنت أفكر الآن بالطريقة نفسها؟ أم أنني في أحسن الحالات كنت أنقل الراية من يد إلى يد؟
ما اعتقدناه جميعاً أنّه وطن، لم يكن إلا الأصدقاء الذين تشاركنا معهم جزءاً من حياتنا. لم يكن إلا السهرات الطويلة أمام شاشات التلفاز حين كنا نشجع مشتركاً سورياً في أحد برامج المواهب العربية، ونشعر بالفخر إن فاز. الوطن لم يكن إلا ذلك الشعور المزيّف بالأمان، ولما ذهبوا جميعاً ذهب الوطن معهم.
على أبواب المطارات وفي البحار وأمام المحال التجارية وفي مخيمات اللاجئين، مات وطننا مراراً وتكراراً، لنصبح أخيراً بلا انتماء ولا هوية.
الحرب جعلتنا ندرك كم كان انتماؤها هشاً، وكم كنا مخدوعين بتلك الشعارات الرنانة والخطب الطويلة. يقول الشاعر أحمد مطر:
"إن لم يكن بنا كريماً آمناً
ولم يكن محترماً ولم يكن حراً
فلا عشنا... ولا عاش الوطن"
أخبرتني صديقتي أنه وبعد أقل من خمس سنوات على وجودها في ألمانيا، بدأت تشعر بأنّها تنتمي إلى ذلك المكان أكثر من انتمائها إلى سوريا، تقول: "هنا فقط استطعت أخيراً أن أكون أنا. لا أدّعي أنّ كل شيء مثالي في ألمانيا، لكنني على الأقل لست خائفةً، وأعرف تماماً أنّ هناك قانوناً يحميني. ما يربطني الآن بسوريا كمشة من الذكريات فحسب، ونصفها ذكريات موجعة".
تتابع: "أفهم جيداً الآن أنّ الوطن ليس مقعداً خشبياً في حديقة، وليس أغنيةً جميلةً وفنجان قهوة، وحكماً ليس تلك القصيدة التي حفظناها جميعاً عن ظهر قلب. الوطن هو المكان الذي تشعر فيه بأنّك إنسان، والمكان الذي تصان فيه كرامتك، وتُحفظ فيه حقوقك. مكان تجد فيه نفسك ولا تضيّعها. مكان لا يوزع أبناءه على العالم كجوائز ترضية، كما فعلت بلادنا".
أتذكر كلامها بالحرف، وأنا واقفة أمام أحد المحال أراقب رجلاً يقف منذ نصف ساعة يتأمل ملابس الأطفال المعروضة في الواجهة.
من سوريا... هنا الجحيم
تسألني طفلتي ذات الثمانية أعوام: "ليش نحنا عايشين"؟ لم أستطع النظر في عينيها، وبالرغم من أنّي أمتلك الكثير من الإجابات المنمّقة والعبارات اللطيفة، اكتفيت بجملة واحدة اعتقدت أنّها الأصدق: "لا أعرف". ضممتها بعدها بشدة إلى صدري، وأمضيت بقية يومي ألعن البلاد التي يتساءل فيها الأطفال عن جدوى وجودهم ومعنى حياتهم.
لقد أصبحت مشكلات الأطفال هنا مختلفةً عن أي مكان آخر في العالم، وحتى أحلامهم أيضاً، فجميعها تتلخص في فكرة الخروج، الخروج يعني النجاة. "عندما أكبر سأسافر بعيداً عن هنا"؛ هذه العبارة حقيقةً ليست من تأليفي وليست من صنع مخيلة امرأة ناقمة، هي حلم معظم طلابي عندما أسألهم: ماذا ستصبحون في المستقبل؟
تسألني طفلتي ذات الثمانية أعوام: "ليش نحنا عايشين"؟ لم أستطع النظر في عينيها، وبالرغم من أنّي أمتلك الكثير من الإجابات المنمّقة والعبارات اللطيفة، اكتفيت بجملة واحدة اعتقدت أنّها الأصدق: "لا أعرف"
منذ فترة طويلة لم أسمع أحداً يقول أريد أن أصبح طبيباً، مهندساً، ممثلاً، أو مطرباً. في الواقع لم يعد أحد يهتم بماذا سيكون... سيكون أي شيء، لا فرق، المهم فقط أن يكونه بعيداً عن هنا.
"لقد قامت الحرب بأشياء استثنائية للناس. وما كان أكثر استثنائيةً من الطريقة التي قُتلت بها الناس هي الطريقة التي لم تقتلهم بها أحياناً"؛ لن تمر مثل هذه العبارة التي قالها جورج أورويل على لسان بطله في رواية "الخروج إلى الهواء الطلق"، مرور الكرام على السوريين الذين لم تقتلهم الحرب. ما فعلته الحرب بنا أكثر بكثير من القتل، وأقسى من الموت مرّةً واحدةً. نحن نموت يومياً هنا مئات المرات، وبمختلف الطرق وأبشعها، وبقرارات ظالمة، وبأسعار فاقت قدرتنا على الاحتمال، وبحاجات أطفالنا، وبرغباتنا المكبوتة وحاجاتنا اليومية التي صارت أحلاماً.
في هذه البلاد، نحتاج إلى فرح، نحتاج إلى سرير واحد يحملنا، ونحتاج إلى حلم لا يبقى صغيراً، حلم حقيقي يكبر خارج رؤوسنا.
أنا مجاز السوريين جميعاً
مرحباً أيها البشر خارج هذا القبر الكبير. مرحباً أيتها النساء اللواتي يشغل بالهن لون فستان سهرة الخميس، والرجال الذين يقضون حزنهم لخسارة فريقهم المفضل. مرحباً أيها الآباء الذين يعرفون كيف يملؤون بطون أولادهم. تحية طيبة وبعد...
أنا رهام عيسى عمري ثلاثة وثلاثون عاماً من سوريا،
عشت في المناطق الآمنة كما يطلقون عليها. ففي ثقافة بلادي لا نعترف بالعنف ولا بالأذى النفسي. أطالب العالم بحقي في الانتماء إلى وطن ما، وطن يعترف بحقي في الحياة، ويرى مسؤولوه أن شراء البندورة ليس بطراً.
أنا رهام عيسى امرأة قلقة دائماً، أعاني من الأرق ومصابة بالاكتئاب. أنا امرأة فعلت بها الحرب ما هو أشد من القتل. أنا امرأة حزينة وعلى حزني أن يعنيكم جميعاً.
أطالب بحصتي من الفرح، وبحقي في أن أشتري علبة عطر من دون أن أتسبب بانهيار اقتصادي داخل أسرتي.
أريد أن أستردّ أحلام أطفالي وحياتهم. أريد أن أنشر غسيلاً أبيض ناصعاً. أمي لن تسامحني على نشر غسيلي الوسخ حقيقةً ومجازاً على الملأ، أطالب بحقي من هؤلاء الذين حوّلوا أحلامي إلى هذه الترهات التي تسمعونها.
أطالب بحقي في أن أبكي على حاتم علي وصباح فخري وجدتي التي ماتت ومرّ خبر وفاتها عليّ كخبر ارتفاع سعر البطاطا.
أريد وطناً بلا قضايا وبلا أزمات وبلا حقوق رد وبلا عتمة وبلا قوارب للموت.
أنا رهام عيسى امرأة قلقة دائماً، أعاني من الأرق ومصابة بالاكتئاب، وهذه ليست مشكلات شخصية.
أنا امرأة فعلت بها الحرب ما هو أشد من القتل. أنا امرأة حزينة وعلى حزني أن يعنيكم جميعاً.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...