شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!

"شو بدك ولا جحش؟"... عندما التقيت المتنمّر فوق سور المدرسة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة

الثلاثاء 12 أبريل 202209:51 ص

عام 2007 نُظّم أول نشاط رسمي للحد من التنمر، وزّع خلاله طالبان كنديان خمسين قميصاً وردياً اعتراضاً على سخرية بعض المتنمرين من طالب كان يرتدي قميصاً وردياً في اليوم الأول من المدرسة.

كنت دائماً مقتنعاً بأنّ المدرسة هي بيتك الأول، وآخر مكان يمكنك أن تدرس فيه. تلك المنظومة التي تجمعك في مستوعب كبير مع المئات من أبناء جيلك وعشرات المدرسين لساعات طويلة يومياً ستكون كفيلة بنحتك ورسم صورة رجل المستقبل الذي ستكونه. في هذا المكان، ستتغير الآراء والمسلّمات، ستفقد وتكتسب كثيراً من الأشياء.

لا أعرف بالضبط متى استُخدمت كلمة متنمّر للمرة الأولى، ولكنّي على يقين بأنّ هؤلاء الذين تمت تسميتهم لاحقاً بالمتنمرين وُجدوا قبل استخدام المصطلح بوقت طويل.

الجميع سيسكنون ذاكرتك، من المدير القاسي إلى أبي بسام، بائع الفول العبوس، ولن تنسى الساحة، ودورات المياه المتسخة، والأبواب والنوافذ والأضواء المكسورة، والألقاب المضحكة للمدرسين، ومقعدك والشقوق التي حفرتها بقلمك أو بأظافرك في الحصص المملة. ولن ينسى أيّ منّا المتنمّر في مدرسته وخصوصاً من كان سيئ الحظ وجمعته الأقدار في مواجهة معه.

لم يكن ما يميز مدرستنا شكلها الهندسي المشابه للسجون، ولم تكن مشهورة ببرامجها العلمية، بل كانت، ككل المدارس العامة في المدينة، تشتهر بعدد المتنمّرين والعدوانيين فيها.

لا أعرف بالضبط متى استُخدمت كلمة متنمّر للمرة الأولى، ولكنّي على يقين بأنّ هؤلاء الذين تمت تسميتهم لاحقاً بالمتنمرين وُجدوا قبل استخدام المصطلح بوقت طويل.

في مدرستي الإعدادية، لا يمكن لأحد من أبناء جيلي أن ينسى وحشها المسيطر "أبو سعيد"، الشاب الطويل ذو اللحية السوداء. ستدلّك هيئته إلى أنه رسب في كل الصفوف مرة أو أكثر لتمنحه السنوات تباعاً عمراً وحجماً أكبر من بقية طلاب المدرسة. كان يلبس دائماً بنطالاً رمادياً قريباً من اللباس المدرسي، وسترة جلدية بنية، وحذاء رياضياً لا يُعرف لونه لكنه يوحي أنه قارع كثيراً من الخصوم في كرة القدم أو في الشجارات.

لا يملك حقيبة أو كتاباً ليدلّك على أنه هنا للدراسة. يتجول في الساحة كإقطاعي يتفقد أملاكه، وقلة من الطلاب يقفون معه، أو بالأحرى يستطيعون الاقتراب منه. يجب أن تعرف أحداً ما يعرفه أو أن تكون ابن حيّه كي تتفادى بطشه.

"مين هالحمار اللي عم يلعب بالطابة؟! يا أستاذ مالك جبلي ياه لهالحيوان". وكأنه لا يعرف مَن "أبو سعيد". وكأنه لا يتذكر حين هدده وشتمه وأهانه أمام المدرسين جميعهم

تعيش المدرسة كلها على إيقاع تقلبات مزاجه. فإذا جاء يوماً غاضباً وقرر ألّا يلعب أحد كرة القدم فستخلو الساحة من الكرات. كان قادراً على إخراج عشرين طالب بكالوريا من الملعب إذا أراد اللعب وحده. كثيرون هم الحمقى الذين اتجهوا إلى الإدارة نتيجة لكمة أو رفسة من "أبو سعيد". لكن المدرسة، كما هذه البلاد، يحكمها قانون لا يسري على الجميع.

في إحدى المرات، بينما كنا نؤدي تحية العلم في المدرسة - وهو نشاط صارم وأمر مقدس لا يتم إلّا بوجود الطلاب الحاضرين كلهم والكادر التدريسي، باستثناء "أبو سعيد" الذي كان يلعب الكرة وحيداً في نهاية الساحة - صرخ المدير على الميكروفون: "مين هالحمار اللي عم يلعب بالطابة؟! يا أستاذ مالك جبلي ياه لهالحيوان". وكأنه لا يعرف مَن "أبو سعيد". وكأنه لا يتذكر حين هدده وشتمه وأهانه أمام المدرسين جميعهم. ها هو الآن يضع الأستاذ مالك، مدرّس التربية العسكرية، في مأزق. ينفذ الأستاذ مالك أمر المدير ويتجه نحو "أبو سعيد". يهمس أحد الطلاب: "اطلبوا الإسعاف"، فنضحك بصوت خافت.

قبل أن يصل إليه، يصرخ الأستاذ مالك بأبي سعيد: "تعال لهون يا بني".

كان على يقين بأن تلك الصرخة لن تلقى استجابة، لكنها كانت بمثابة إخطار يقول أنا قادم إليك فاحترس، وبذلك يعطي الخصم فرصة للانسحاب وتجنب مشكلة نتائجها غير واضحة، ولكنها في الغالب تحمل له إهانة من نوع ما.

ربّما لن تنفع المبادرات والقمصان الوردية في إيقاف التنمر في بلادي التي أنهكتها الحرب.

دار بينهما حديث لم نسمعه استمر بضع دقائق. بعدها ركل "أبو سعيد" الكرة إلى خارج المدرسة وقفز بحركة رشيقة إلى عارضة المرمى ومنها إلى السور. بقي الأستاذ مالك مراقباً ولم يفعل شيئاً معطياً خصمه الوقت كله ليهرب، مما جعل المدير يقول عبر مكبر الصوت: "جبلي هالكلب يا أستاذ مالك!".

فيرد "أبو سعيد" من فوق السور بصوت سمعه كل الطلاب وأبناء الحي المجاور: "واحد متلك كلب وابن كلب، بسيطة. والله لفرجيك مين الكلب".

ما كنت أستغربه ولا أفهمه، هو أنّ "أبو سعيد" جاء بعد أيام معدودة إلى المدرسة ومرَّ قبالة المدير والمدرسين ودخل إلى الصف وكأن شيئاً لم يكن.

لا أعرف كيف كانت تُحل الأمور فيما بينهم في مثل هذه الشجارات الكبيرة. تذكرني هذه الفكرة بالخلافات بين الدول العظمى كالجواسيس وقضايا التنصّت وما شابه، والتي يثقبون رؤوسنا فيها لأيام في وسائل الإعلام، فنعتقد أن حرباً وشيكة ستقع بين تلك الدول، ولكن بعد فترة يعود السفراء وتُنسى الحكاية وكأن شيئاً لم يكن.

سور مدرستي كان ممتلئاً بالثقوب التي تساعد على التسلق والقفز إلى الحرية. في أحد الأيام، قررت أن أهرب من الحصة المدرسية الأخيرة، وضعت دفاتري تحت حزامي وبدأت بتسلق السور بسرعة قبل أن يراني أحد المدرسين. في تلك اللحظة التي وصلت بها أعلى السور، وبينما كنت أرفع قدمي بشكل جانبي، جاءت ساعة الغفلة كما يُقال.فقد جمعتني المصادفة البحتة والأقدار السيئة بأبي سعيد الذي كان يقفز داخلاً إلى المدرسة. لم نتقابل بشكل مباشر، ولكنّا التقينا في أعلى السور فارتطمت قدمي بكتفه واتسخت سترته.

في تلك اللحظة التي لا تنسى، كنت أنا "وأبو" سعيد فوق سور ارتفاعه ثلاثة أمتار وقد ركلته على كتفه. إذ ذاك، تمنيتُ لو أنّي لم أسكن في هذا الحي ولم أدخل المدرسة ولم أهرب من الدرس ولم أكن عاقّاً بوالديَّ. تمنيت لو لم أكن موجوداً.

في تلك اللحظة التي لا تنسى، كنت أنا "وأبو" سعيد فوق سور ارتفاعه ثلاثة أمتار وقد ركلته على كتفه. إذ ذاك، تمنيتُ لو أنّي لم أسكن في هذا الحي ولم أدخل المدرسة ولم أهرب من الدرس ولم أكن عاقّاً بوالديَّ. تمنيت لو لم أكن موجوداً

سيناريوهات كثيرة مرّت في رأسي خلال أجزاء من الثانية. توقعت أنْ يحملني بيديه كلتيهما وأن يوجّه قدميّ للأعلى ورأسي للأسفل، ويرمي بي من أعلى السور ثم يقفز فوقي ليكمل ما لم ينكسر من عظامي، أو أن يكسر رجلي التي ارتطمت به مع عدة لكمات على أنفي ووجهي.

بحركة سريعة، مددت يدي على كتفه لأمسح آثار قدمي وأنا أقول:

- "عفواً عفواً أنا آسف، والله ما عن قصدي"، فأمسك يدي من المعصم وأنزلها عن كتفه قائلاً: "معليش حبيبي معليش، بسيطة ما صار شي".

ثم قفز نحو ساحة المدرسة، وقفزت بدوري عن السور وبدأت أمشي مسرعاً باتجاه البيت.

في اليوم التالي، حين حدّثت أصدقائي عن الأمر سخروا مني ومن خيالي الخصب، وقال لي أحدهم: "ما عزمك عا سندويشة كمان؟" وآخر قال: "كلامك صحيح حتى إن المدير ونائبه والمدرسين كانوا يجلسون على السور وعندما حدث ما حدث صفّق جميعهم لك".

ثم بدأت فيما بيننا الرهانات والتحديات لإثبات صحة كلامي. قال لي أحدهم بشكل مستفز: "إذا كان صح كلامك روح سلّم عليه لنشوف".

صمتُّ قليلاً ورحت أفكر بالمغامرة. كانت معادلة لا تحمل حلولاً وسطية. هناك خياران، الأول أن يرد السلام وأثبت صحة كلامي، والثاني أن يكون مزاجه سيئاً فيضربني.

قلت لصديقي: "سأذهب بعد قليل". بقيت أسترق النظر إليه من بعيد لأرى حالته النفسية، وفجأة اتجه هو نحو السور وقفز من فوقه، فأخبرتهم بأني سألحق به.

قفزت. وجدته يأكل صحن فول عند أبي بسام، تقدمت نحوه وبكل ثقة قلت:

- "مرحبا أبو سعيد".

نظر إليّ وهو يبصق قشرة الفول من فمه. تمعّن بي قليلاً بطريقة توحي أنه تذكرني، ابتلع لقمته ثم أجاب:

- "شو بدك ولا جحش؟".

- "ما بدي شي بس حبيت سلم عليك".

- "جاي تاكل فول؟".

- رددت بصوت خافت: "إي".

- "أبو بسام حاسبو بصحن الفول تبعي، ثم غادر".

نظر بائع الفول إليّ، ومن ابتسامتي البلهاء السخيفة عرف أنّي سأدفع.

يقف الناس يومياً في طوابير للحصول على حاجاتهم، ويتعرضون للتنمر ويسكتون رغم عيونهم المليئة بالكلمات كي لا يخسروا فرصة الوصول إلى ما يقيهم شر الموت جوعاً أو برداً

ربّما لن تنفع المبادرات والقمصان الوردية في إيقاف التنمر في بلادي التي أنهكتها الحرب. أصبح هناك الآلاف من "أبو سعيد" هنا، وقد يبدو غريباً لو قلت إنّ أي شخص امتلك سلطة ولو بسيطة، وكلّ من حمل سلاحاً وانتظرك على مفترق طرق، سواء كان عاملاً في محطة الوقود أو بائع الغاز أو حتى بائع الخبز في الفرن، سيمارس التنمّر عليك من دون أي رادع.

يقف الناس يومياً في طوابير للحصول على حاجاتهم، ويتعرضون للتنمر ويسكتون رغم عيونهم المليئة بالكلمات كي لا يخسروا فرصة الوصول إلى ما يقيهم شر الموت جوعاً أو برداً.

كبرتْ هذه الأشياء القاسية والمؤلمة مع مرور الزمن، وأصبح سلوك "أبو سعيد" أصغرها الآن.

*نُشرت هذه القصّة ضمن مجموعة "حكاية قهوة بحرية" القصصية للكاتب. والتي صدرت عام 2015 عن دار "ارواد للطباعة والنشر".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard