"ليش رجعت؟" سؤال طُرح علي بعدد مرات مضاعفة لعدد أيام الشهر الذي مرّ وأنا في سوريا، سؤال يشابهه بالشكل الكبير سؤالاً آخر يطرح عليك عند مغادرتك سوريا في هذه المدة المتأخرة ألا وهو: "ليش ضليت بسوريا لهلا". اختلقت العديد من الأجوبة التي قلتها وغالباً لا تشكّل أية منها السبب الحقيقي الذي أعادني بالفعل، أو الذي جعلني أبقى فيها إلى عام 2022. كنت أعتقد أن الجواب الحقيقي الذي سأقوله هو بمثابة مشاعر فيها من الرفاهية الكثير لتُقال في وجه مليء بالخيبة والحزن، لربما افتقادنا للمساحات الآمنة داخل سوريا جعل منّا نقفز فوق كل المساحات الخطرة لنمتلك أقلها خطورة ونبني مشاعرنا المحدودة فيها.
الذكريات هي كل ما امتلكته تجاه سوريا وهي كل ما استطعت الحصول عليه ضمن كل العمر الذي قضيته بها. هي كانت المثال الأكثر استخداماً عند كل قصة أرويها أو رأي أبديه في أي قضية كانت. ما مررنا به هو بمثابة تجارب حياتية ومنهج كبير ليتلقاه الفرد في أي مدة زمنية مهما بلغ امتدادها. لم يعد الموضوع بالنسبة لي ينتمي إلى سوريا فقط، فالذكريات هي حالة مشتركة مع كل الشعوب والفئات. من الجميل دوماً أن تكون هذه الذكريات هي البناء الأساسي لتفاصيل الحياة، ولكن ماذا لو أصبحنا نعيش فقط ضمن هذه الذكريات؟!
نتشارك كل تلك المشاعر مهما بلغ اختلافنا الثقافي أو الاجتماعي. الكلمة الصادقة تجعلنا مربكين دوماً أمامها
عدت من القاهرة مباشرة نحو حلب، تلك المدينة السورية التي أصبح الدمار جزءاً من تكوينها لارتباطي بعمل ضمن معرض يحمل اسم "كان يا ما كان... حلب". قرار العودة لم يكن بالسهل. وعلى الرغم من خطورة كل ما أمر به حينها، حجزت رحلة الطيران. وأنا اليوم أشارك وأوثّق مشاعر قاسية لرحلة أولئك الفنانين من بداية مشروعهم في دمشق للوصول إلى حلب. أعمل ضمن فريق أعاد إحياء المشاعر الإنسانية لدى سكّان حلب الذين لم يعرفوا سوى النزيف على مدار سنين طويلة. أتابع ردّات فعل الناس عند مشاهدتهم لتلك الفيديوهات، تعابير وجوه لم أرها منذ مدّة طويلة. ما يؤثر في أي فرد سوري يؤثر في كل السوريين. باستطاعتك أن تصنع ملفاً تعريفياً عن مشاعرنا. نتشارك كل تلك المشاعر مهما بلغ اختلافنا الثقافي أو الاجتماعي. الكلمة الصادقة تجعلنا مربكين دوماً أمامها.
قرار العودة لم يكن بالسهل. وعلى الرغم من خطورة كل ما أمر به حينها، حجزت رحلة الطيران. وأنا اليوم أشارك وأوثّق مشاعر قاسية لرحلة أولئك الفنانين من بداية مشروعهم في دمشق للوصول إلى حلب
جزء كبير من سكّان حلب الذين قاموا بزيارة ساحة الحطب - المكان الذي أقيم فيه المعرض - لم يتمكنّوا للوهلة الأولى عند دخولهم إلى أي قسم سوى أن يتكلّموا عن تاريخ هذا المكان، عن شكله قبل كل هذا الدّمار. "بابا كان يشتغل بهاد المكان" رجل في الستين من عمره لم ينطق بأي كلمة كل ما قدّمه في تلك اللحظة هو الدموع، ولكن ابنته شرحت لنا السبب. كان والدها متأملاً لكل الخيوط التي صنعتها إحدى الفنانات في ذلك القسم الذي كان عنوانه "تعلّق". قرأ العنوان وشاهد العمل وكأنه لو أتيحت له فرصة أن يكون فناناً لقدّم شيئاً مشابهاً، خيوط حمراء لكون اللون الأحمر يعبّر عن الذاكرة متشابكة بها حمامات بيضاء تمثّل كل فرد فينا وهو متعلق بذكرياته.
أصعب ما يمكن للانسان أن يتحمّله هو التغيير الذي يصيب إحدى الصور البصرية أو أحد أشكال الحياة التي اعتاد عليها. من الممكن أن يكون كل من بقي في سوريا هم الأشخاص الذين لا يملكون أي قدرة على بناء ذاكرة جديدة، لكون ذاكرتهم قد طافت بها الأحداث والمواقف والأشكال العديدة.
نكتة هاربة من ذاكرتنا القديمة كفيلة أن تضحكنا اليوم.
التعلّق هو السبب وراء عودتي للبلد أو تأخري في مغادرتها. عند رؤية ذلك العمل في المعرض، تأكدت مباشرة أنني لست الوحيد الذي يعاني من هذه الأعراض. لم أعد أملك الخوف بأن أبوح بكل العلاقات الإنسانية والأماكن التي تمارس حياتها اليومية في ذاكرتي. لم أعد أملك أي خوف عند حدوث أي ظرف طارئ لي. أصبحت متيقناً بأن النوستالجيا ليست هي السبب الوحيد بل التعلق الذي يبقينا فيها دوماً ويجعلنا معتادين على تلك المساحة على الرغم من خطورتها. ولكن، يبدو أن الذي اعتدناه أفضل بكثير من الشكل الجديد الذي يرغموننا على الاعتياد عليه.
لا يمكن الحديث عن هذا الشيء بأنه شكل صحي من أشكال الحياة ولكن دائماً ما كانت الشعوب العاطفية هم مرضى "التعلق" مهما بلغ شكله، لدرجة أن من الممكن لأي نكتة هاربة من ذاكرتنا القديمة كفيلة أن تضحكنا اليوم، أن تعتاد الأسوأ ليس بالطريقة الصحية ولكن اعتيادك للأسوأ هو مهرب من كل ما يمكن أن يقدّم لك بأنه جيد وهو ممتلئ بالسوء.
سنبقى ونرحل ونعود ونعيش كل هذه الحالات بما فيها الأشد خطورة، لأن الحقيقة بأن حياتنا وذاكرتنا تملكان من الزيف الكثير
يبدو أنني سأسمع نصيحة ذلك الصديق وألّا أحلم بأن يكون حزني وفرحي مرتبطين بغير ما تعودت عليه في الفترات الماضية، أو من الممكن أن محاولاتنا للنجاة حتى وإن كانت على صعيد اعتدناه دون أن يكون فيه أي جديد هو شكل آخر نسعى فيه، حيث إن كل محاولاتنا للنجاة ضمن أي شكل جديد فإنها محكومة بالموت، كما حكم على أحلامنا أو لعلّ تلك الأحداث تعتبر إشارة جديدة لنعلم أن بلادنا هي أكثر الأماكن في العالم التي لا تصلح للعيش فيها بشكل وردي. حقيقة جديدة تشبه الكثير من الحقائق التي شكّلت لنا قالباً وُضعنا به ولا نملك القدرة على الخروج منه. هذا التعلّق هو الشكل الذي اخترته للنجاة وأنا أعلم أنه مؤقت، ولكن سأحاول أن أستنزف كل الحلول الموجودة في ذاكرتي لأبني جزءاً لا يتجزأ من الشكل السيىء لتلك البلاد.
سنبقى ونرحل ونعود ونعيش كل هذه الحالات بما فيها الأشد خطورة، لأن الحقيقة بأن حياتنا وذاكرتنا تملكان من الزيف الكثير.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...