شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!

"الزَرْقَلَاف" والعيش على حد الكفاف...معيشة المغاربة في ظل التضخم

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الخميس 1 ديسمبر 202203:55 م

"هل تعرف ما الذي حصل؟"، سألني أحمد، صاحب متجر المواد الغذائية.

انتظرت رده؛ كنت في وضعية الطفل المتلهف إلى جواب جاهز وواضح. حكّ البقال الجزء العلوي من أذنه بالقلم الجاف مفرجاً عن جواب عن تساؤله: "يا سيدي... الذي حصل أن الزرقلاف (ورقة المئتي درهم)، مع الوقت، غاتولي بحال (ستصبح مثل) العشرة دراهم في التسعينيات. كانت ورقةً ثم تحولت إلى قطعة نقدية باهتة".

الورقة النقدية من فئة المئتي درهم (نحو 20 دولاراً)، أو "الزَرْقَلَاف"، كما يحب أن يلقّبها المغاربة، كانت وما زالت -إلى حد ما- عنواناً واختزالاً للرفاهة المادية في المغرب، توظَّف الورقة  في النكت والكلام المسكوك للدلالة على المال الوفير والثراء، وأيضاً على الممارسات التي تُنافي الأخلاق كالرشوة وشراء الذمم.

لعقود ممتدة حافظت هذه الورقة المالية على هيبتها وشأنها الكبيرين، بلونها الأزرق، ورسوماتها المزخرفة الفخمة التي يتسيّدها وجه الملك. لكن وضع المئتي درهم لم يعد كما كان. إنها تمضي في سكة السقوط التدريجي لقيمتها بسبب تبعات التضخم الذي يشهده البلد والعالم برمته.

على وشك الاندحار

يصف معظم المغاربة الوضع الذي تعيشه ورقة المئتي درهم بفقدان "البركة" أو نقصانها.

"ما بقاتش البركة فهاد الميتاين درهم" (لم تعد هناك بركة في ورقة المئتي درهم)؛ يشدد أحمد صاحب الدكان في مدينة أݣادير. تحدث إليَّ وهو منهمك في تدوين المشتريات المحسوبة على زبائنه الذين لم يدفعوا ما في ذمتهم من ديون أو ما يُعرف محلياً بـ"كناش الكريدي".

يكمل أحمد حديثه إلى رصيف22: "الدليل على كلامي هو مشتريات زبائني. فمثلاً، بالكاد تكفي المئة أو المئتا درهم حتى لشراء الحاجيات الأساسية لأسرة مكونة من 3 أفراد لأيام قليلة جداً. كالعادة، غالباً ما تلجأ هذه الفئة إلى 'الكريدي' (الدين)".

"يا سيدي... الذي حصل أن الزرقلاف (ورقة المئتي درهم)، مع الوقت، غاتولي بحال (ستصبح مثل) العشرة دراهم في التسعينيات. كانت ورقةً ثم تحولت إلى قطعة نقدية باهتة"

في دكان أحمد التقيت بالحسين، الذي يعمل في قطاع البناء، ودخله الشهري لا يتجاوز في أفضل الأحوال الحد الأدنى للأجر الذي لا يتجاوز 3 آلاف درهم (نحو 300 دولار). بدا على وجهه حنق مختلط بمشاعر الإحباط لَمَّا أفصح له البقال عن قيمة المشتريات المسجلة خلال يومين. تأمل كناش "الكريدي" ما في ذمته، ثم صَمت قليلاً، وأفرج عن كتلة من المشاعر الاحتجاجية.

يستغرب الحسين في حديثه إلى رصيف22: "شوف الغلاء فين وصل!"، ثم يكمل حديثه: "قبل سنة كانت مشترياتي لا تتعدى المئة درهم في أسوأ الأحوال خلال اليوم الواحد. أما حالياً، فبمجرد أنك تشتري زيتاً نباتياً وفاصولياء جافة وشاياً وبضعة مستلزمات أخرى ضرورية تصل قيمتها أحياناً إلى ما بين 100 و200 درهم. هادشي بزاف عليا (هذا كثير عليَّ)".  

يردد قطاع واسع من المغاربة استنتاجاً جاهزاً مفاده أن هذه الورقة في طريقها إلى أن تصبح بقيمة العشرين درهماً، فلا فرق بينهما سوى الصفر الزائد شكلياً. بيد أن هذا الحكم قد يبدو مبالغاً فيه.

يُقَيِّم سعد (اسم مستعار)، ويعمل مدرّساً حكومياً في نواحي مدينة أݣادير، قيمة المئتي درهم بمستوى ورقة المئة درهم الصفراء.

يقول سعد لرصيف22: "لقد تراجعت قيمتها بمقدار النصف. لاحظت ذلك بعد أن راجعت حساباتي، واكتشفت أن مشترياتي من خضروات وفواكه وأساسيات، كانت بالكاد تعادل المئة درهم قبل سنتين. أما خلال هذا العام، فهذه المشتريات نفسها بالكاد تصل إلى مئتي درهم. إنه فرق، فرق واضح!".

"شوف الغلاء فين وصل! بمجرد أنك تشتري زيتاً نباتياً وفاصولياء جافة وشاياً وبضعة مستلزمات أخرى ضرورية تصل قيمتها أحياناً إلى ما بين 100 و200 درهم. هادشي بزاف عليا!

بالنسبة إلى إبراهيم، الذي يعمل في مؤسسة حكومية في الرباط، فهو يرى أن هذه الورقة لم تعد تخاطب المغاربة وتلبّي احتياجاتهم المتعددة، إذ صارت تمضي بسرعة البرق من دون أثر.

هذا الوصف المجازي يكشف عنه إبراهيم بنبرة ساخرة قائلاً: "إنها لا تتوقف. عندما قلت لهذه الورقة المالية لا تقومي بأفعال الصبية عاندتني. وعبثاً صارت بالكاد تكفي لشراء الأساسيات، أما في ما مضى فكانت تفي بأغراض كثيرة".

كالسحر... تختفي بسرعة!

أما عني، فصارت قيمة مشترياتي المعدودة التي لا تتجاوز أربعة أو خمسة عناصر غذائية أو من احتياجاتي الأساسية تغطيها في الغالب ورقة المئتي درهم. لقد شعرت بمفعولٍ أقرب إلى السحر. إنها تختفي بسرعة ولا يستمر أثرها على نحو مطول كما كان الحال قبل سنة أو سنتين على الأكثر.

يردد قطاع واسع من المغاربة استنتاجاً جاهزاً مفاده أن هذه الورقة في طريقها إلى أن تصبح بقيمة العشرين درهماً، فلا فرق بينهما سوى الصفر الزائد شكلياً. بيد أن هذا الحكم قد يبدو مبالغاً فيه

على سبيل المثال، قبل عامين كنت أشتري بهذه الورقة مستلزماتي الضرورية من خضروات وفواكه، بالإضافة إلى مصاريف التنقل وغيرها من المصاريف الجانبية، كارتشاف قهوة أو مشروب في المقهى أو أكلة خفيفة في مطعم الوجبات السريعة، المعروف في المغرب بـ"السناك". ومع ذلك، تتبقى لدي بضعة دراهم، أقلها عشرون درهماً (نحو دولارين)، وأقصاها 30 درهماً (نحو ثلاثة دولارات).

لكن بدءاً من هذا العام، تغيّر الوضع؛ لم تعد تصمد الورقة لأطول مدة، إنها تندحر عند أول شراء للاحتياجات الضرورية من مأكل وتنقل، ولا مجال لدراهم متبقية لسد رمق الكماليات. إنها بالكاد تكفي لسد الحد الأدنى، وفي أفضل الأحوال الحد المتوسط من العيش اليومي.

بيض وزيت... والباقي قليل

إذا كان وقع التضخم على المئتي درهم قليلاً، فإن وقعه على المئة درهم أضخم. جباري أيوب، صاحب حساب على تيكتوك، اختبر قيمة المئة درهم من خلال شرائه أشياءً في حكم الضروريات: عشر بيضات و5 لترات من الزيت النباتية وكيلو من الحمص. هذه العناصر الثلاثة وصلت قيمتها إلى 78 درهماً (نحو 8 دولارات)، بينما كان سعرها 43 درهماً (نحو 4.5 دولارات) قبل نحو سنة.

"هادشي بزاف... تصدمت بزاف" (هذا كثير... إني مصدوم)؛ يعلّق صاحب القناة التيكتوكية، ويؤكد أن ما تبقى له من النقود بالكاد يكفي لشراء القليل من الخضروات الأساسية وغير الغالية.

هذا الوضع المعيشي الصعب يرخي بظلاله على أنماط المغاربة في الأكل والحياة المعيشية. وعلى ذلك، انتشرت مؤخراً فيديوهات على قنوات السوشال ميديا لتحضير الكيك والأكلات الخفيفة بأقل كلفة ممكنة. فهناك فيديو بعنوان: "كيف تحضر كيك من دون بيض ولا حليب ولا خميرة ولا ياغورت"، وآخر يغري محدودي الدخل بإعداد فطيرة غريبة وهجينة تُسمّى "البيتزا السائلة"، تُحَضّر على المقلاة "من دون جبن موتزاريلا"، وثالث حول تحضير "طاجين من دون لحم ولا خضروات غالية وفي وقت سريع".

 ما تكشفه الأرقام

الأرقام في العادة لا تكذب، وما كشفت عنه الجهات الرسمية كفيل لرصد الوضعية المعيشية للمغاربة عموماً، إذ بينت مندوبية التخطيط أن أسعار المواد الغذائية سجلت ارتفاعاً بنسبة 14.7 في المئة، وتكلفة النقل 12.9 في المئة. كما أكدت أن مستوى معيشة الأسر تراجعت بنسبة 2.2 في المئة سنوياً، بين عامي 2019 و2021.

سُجل بين تشرين الأول/ أكتوبر 2019، وكانون الأول/ ديسمبر 2021، انخفاض "متوسط مستوى معيشة الأسر، المُقاس بالنفقات الاستهلاكية للفرد"، من 20،400 درهم إلى 20،040 درهماً (من نحو 2،040 دولاراً إلى 2،004 دولارات).


وتراجع خلال هذه الفترة (أي ما بين عامي 2019 و2021)، مستوى معيشة خُمس ما تسميه المندوبية بـ"الأسر الأقل يُسراً" من 7،000 درهم إلى 6،860 درهماً (من نحو 700 إلى 687 دولاراً)، أي بمعدل انخفاض سنوي قدره 2.3 في المئة في القيمة الحقيقية، فيما انخفض مستوى معيشة خُمس "الأسر الأكثر يسراً" بنسبة 2.5 في المئة من 47،780 درهماً إلى 46،620 درهماً (من نحو 4،800 إلى 4،700 دولار).

أما بالنسبة إلى 60 في المئة من الأسر الوسيطة (أي التي توجد بين الأقل والأكثر يسراً)، فقد تراجع مستوى معيشتها من 15،730 درهماً إلى 15،570 درهماً (من نحو 1،580 إلى 1،560 دولاراً)، أي بمعدل انخفاض سنوي قدره 1.9 في المئة.

هذه المعطيات المعيشية يؤطرها وضع اقتصادي يمر من معضلة التضخم التي تفيد أرقام مندوبية التخطيط بأنه ارتفع إلى 8.3 في المئة، حتى نهاية أيلول/ سبتمبر الماضي على أساس سنوي. وتوقعت الحكومة أن ينحصر نمو الاقتصاد الوطني سنة 2022، إلى 1.5 في المئة، عوض 3.2 في المئة المتوقعة في قانون المالية، ويُتوقع أيضاً أن يتجاوز معدل التضخم 5.3 في المئة مقابل 1.4 في المئة في 2021 .

الحكومة... تدحرج كرة الثلج

"مازدناش ف الكهرباء"(لم نرفع من سعر فواتير الكهرباء)؛ قال رئيس الحكومة عزيز أخنوش، أمام الإعلام المحلي بنبرة صوت هادئة، وبملامح تقترب من الاستغراب المبطن، وشدد على أن الحكومة تتحمل ما يسميها أعباءً تخص الكهرباء وغاز البوتان وبعض المواد الأساسية.

حكومة أخنوش أعلنت في وقت سابق، أنها خصصت 15 مليار درهم إضافية (نحو 1.5 مليارات دولار) لدعم صندوق المقاصة (صندوق الدعم الاجتماعي)، كما أنها وفرت دعماً مالياً بدءاً من مارس/ آذار الماضي، لمهنيي النقل البري لمواجهة الارتفاع غير المسبوق في أسعار المحروقات، بالإضافة إلى الرفع من الحد الأدنى للأجور في قطاعات الصناعة والتجارة والمهن الحرة بنسبة 5 في المئة، وبنسبة 10 في المئة في القطاع الزراعي. وأقرّت الحكومة برنامجاً استثنائياً للحد من آثار الجفاف بقيمة 10 مليارات درهم (نحو 1.2 مليار دولار) يتضمن إعادة جدولة ديون المزارعين، ودعم الأنشطة الزراعية المتضررة.

ترى أصوات معارضة وخبيرة في الاقتصاد، أن ما قدمته الحكومة غير كافٍ، بالنظر إلى حجم الأزمة التي بدأت تكبر مثل كرة الثلج.

نجيب أقصبي، خبير اقتصادي، واحد من هذه الأصوات، إذ يرى أن صيغة الدعم الحالي "عمياء وغير عادلة"، لأنها حسب رأيه "تدعم المنتجات ولا تدعم المستهلك، وتالياً يستفيد الميسور والغني من الدعم كما يستفيد منه الفقير".

وقال إن "نظام الدعم المباشر ليس أفضل حل، ولكنه على كل حال أقل ضرراً من النظام القائم حالياً بخصوص دعم المواد في إطار المقاصة (الدعم الاجتماعي)".

وفي الوقت الذي يتنامى فيه معدل التضخم من دون توقف، تتصاعد أصوات حانقة على السوشال ميديا معلنةً عن غضبها من زيادة الأسعار، وهكذا طفا فوق السطح هاشتاغ جديد بدءاً من شهر تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، تحت وسم "لا لغلاء الأسعار في المغرب"، إذ دُبِّجت فيه مقاطع مصورة وصور وتدوينات تدعو المغاربة إلى الخروج إلى الشارع ومطالبة الحكومة ومُنَاشِدَةً ملك البلاد بخفض الأسعار إلى "مستويات معقولة"، أو الرفع من الأجور بما يتماشى مع أسعار السلع والاحتياجات الضرورية في السوق.

وأمام هذا المشهد الصعب اقتصادياً ومعيشياً، يُطْرَح سؤال ستجيب عنه الأشهر والسنوات المقبلة: هل ستصمد ورقة "الزرقلاف" أمام أهوال التضخم؟ أم ستتحول إلى مجرد ورقة باهتة تكفي للعيش على حد الكفاف؟

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard