تندرج هذه المادة ضمن ملف الرسائل (أمّا بعد)، في قسم ثقافة، رصيف22.
حتى ستينيات القرن العشرين، كان النصّ المسرحي الجيد، عملٌ واحد فقط، شهادةَ ميلاد لكاتبه. وجدت النصوص المسرحية رواجاً في النشر بالمجلات الثقافية، ولدى ناشري الكتب، كإبداع كتابي، حتى لو لم تُعرض على المسرح. ثم توارت العروض المسرحية الجادة، أمام سطوة مسرح تجاري يدغدغ مشاعر الجماهير، يدللها ويضللها ويتبعها، وانقضى تقريباً زمن النص المسرحي المطبوع. والآن لا يرحب الناشرون بالمؤلفات المسرحية، ويكتفون بنشر كلاسيكيات مضمونة، لا تحملهم عبء حقوق الملكية الفكرية. والمزاج العمومي ينتقي فنا فيصعد، ويعرض عن آخر فيختفي. وقد أسهمت الطباعة ووفرة الصحف والمجلات في رواج فن القصة القصيرة. وتكاد وسائل التواصل، بإيقاعها الإلكتروني الفوري، تقضي على فن الرسائل.
صخب الاتصالات الهاتفية، وتعدد وسائلها بالصوت والصورة، أبطل ملكات التواصل عن بعد، وانتهى تخاطر روحي أتاح الاتصال بين أمهات لم يغادرن القرى وأبنائهن في مدن بعيدة. والاتصالات الميسورة تكاد تنهي فن الرسائل. لا يتاح للكثيرين خلوّ البال لكتابة رسائل مطولة، تستحق أن يقرأها لاحقاً شخص غير المستهدف بها. ويستبدلون بها كتابات مختصرة، عاجلة تناسب ذاكرة الفيسبوك بإغرائه على الانتشار العريض أفقيا والسريع لحظيا. صارت الرسائل للإبلاغ، فوتوغرافية ذات بعد واحد. ولا يعوّل على وسائل التواصل الاجتماعي كذاكرة تحفظ هذه الرسائل المباشرة، فمديرو المواقع يستطيعون حذف ما يرونه لا يتفق مع سياساتهم، وربما يغلقون الحساب كله، ويمنعون صاحبه أن يصل إليه.
ذاكرة الصّخر والورق
ذاكرة الصخر والورق أكثر حناناً من ذاكرة إلكترونية تهدر هيبة الرسائل، وتنزع طاقتها. حروف على صخرة ألهمت أمل دنقل قصيدته الأكثر شهرة. صدّر ديوانه "أقوال جديدة عن حرب البسوس" بمشهد من سيرة الزير سالم. وجّه جساس طعنته، "فنظر كليب حواليه وتحسّر. وذرف دمعة وتعبّر ورأى عبداً واقفاً، فقال له: أريد منك يا عبد الخير، قبل أن تسلبني، أن تسحبني إلى هذه البلاطة القريبة من هذا الغدير، لأكتب وصيتي إلى أخي الأمير سالم الزير. فأوصيه بأولادي وفلذة كبدي.. فسحبه العبد إلى قرب البلاطة، والرمح غارس في ظهره والدم يقطر من جنبه... فغمس كليب اصبعه في الدم، وخطّ على البلاطة وأنشأ يقول".
ذاكرة الصخر والورق أكثر حناناً من ذاكرة إلكترونية تهدر هيبة الرسائل، وتنزع طاقتها
كتب أمل دنقل قصيدة "لا تصالح"، في تشرين الثاني/نوفمبر 1976، اعتراضاً على نتائج محادثات فكّ الاشتباك مع إسرائيل، قبل سنة من زيارة أنور السادات للقدس. قصيدة نبوءة صارت أيقونة ثورية، يستدعيها الغاضبون في المظاهرات عنوانا للرفض. لا يهم إذا كان كليب قد كتب "لا تصالح" بدمه، وصية لأخيه الزير سالم. فالخيال الشعبي أراده أن يكتبها، وأن يتفانى أخوه في الانتقام من قبيلة بكر، وأن يُديم الحرب أربعين سنة. وفي المسلسل التلفزيوني "الزير سالم" الذي أخرجه حاتم علي، بدت حروف "لا تصالح" منقوطة، بدلا من أن تكون عارية من نقط الإعجام. كانت الحروف راسخة، تناسب سليماً مطمئناً لا رجلاً يصارع الموت.
أشرطة الكاسيت العابرة للقارات
المبتذل اليسير عابر، تسقطه الذاكرة. ماذا يبقى من رسائل واتساب وفيسبوك وتويتر؟ أما التحايل على الندرة والحرمان فيثمر إبداعاً، ومجابهة الاستبداد تفرض استجابة أكثر قوة. وفي مسألة البقاء، تربح الوسائل القديمة. في الفيلم الوثائقي "غنّـيلي"، أرادت المخرجة العراقية سما وهام أن تتنفس هواء عراق غادرته في سن مبكرة. قيل لها إن الرحلة إلى بلادها، عام 2014، مخاطرة بالروح، فأسعفها أثرٌ من جدها رشيد ناشي. شريط كاسيت كان قد أرسله، عام 1979، إلى أمها في الإمارات؛ حلٌ فني أنقذ الفيلم الذي احتفظ بالشريط الأصلي، وفيه يختلط صخب أطفال بصوت الجد وهو يخاطب حفيدته سما وأمها عفاف، بلهجة سهلة تمزج الفصحى بالعامية.
أشرطة الكاسيت العابرة للقارات أشعلت الثورة على شاه إيران. من فرنسا واصل الخميني رسائله الصوتية إلى أنصار لا تنقصهم الحماسة الدينية، وبها يتفوقون على قوى اليسار التي تعوزها القدرة على الحشد، ولا تعتمد على التهييج العاطفي. أدت الأشرطة دورها، وكان يجب أن تسكت لكي تنطق المدافع.
وربما يضع باحث إيراني يده على الشريط الأخير للخميني، قبل وصوله إلى مطار طهران، في شباط/فبراير 1979، هابطاً سلم طائرة الخطوط الفرنسية، مستنداً بيده اليمنى إلى طيار فرنسي أنيق يلبس ربطة عنق، ووراءه ملالي بعمائم. الأشرطة والصحف سجل لا يطوى، على العكس من مكالمة هاتفية أحبط بها رجب طيب أردوغان الانقلاب العسكري عام 2016.
"لم أستطع أن أفهم ما كنت تبحث عنه لدى الأخريات، وما الشيء الذي كن قادرات على إعطائك إياه ولم أستطع أنا. فلقد أعطيتك كلّ ما يمكن أن يقدمه إنسان. كيف بحقّ الجحيم تمكنت من إغواء هذا العدد من النساء وأنت قبيح ابن عاهرة؟"... من رسائل فريدا كالو
وسائل الاتصال الحديثة مثقوبة الذاكرة، لكنها تُصلح أخطاءها على الفور. وفي الماضي كان تدارك الأخطاء يتأخر، فتقع كارثة أحياناً بسبب حرف واحد. كان "الدّلال" بطل حرف أسيئت كتابته أو قراءته، نقطة تضاف فتميت، وتُهمل فتحيي.
وقد أرسل سليمان بن عبد الملك إلى والي المدينة أن "أَحصِ مَن قِبَلك من المخنثين"، فقرئت: "أَخصِ"؛ فأمر بإخصائهم، ومنهم "الدّلال"، وكان من أمهر المغنين، "ظريفاً جميلاً حسن البيان، من أحضر الناس جواباً وأحجهم" كما قال الأصفهاني في كتاب "الأغاني". وكان "الدّلال" نجم زمانه، مقبلاً على الملذات عاشقا للحياة، ولا يؤذي أحداً. ربما كتن قارئ الرسالة عنّينا فحقد عليه، وتعمّد قتله بحرمانه من متعة الفحولة.
رسائل فريدا كالو
ولعل من أغرب الرسائل خطاب الرسامة المكسيكية فريدا كالو إلى زوجها دييجو ريفيرا، قبل عملية بتر قدمها. تبدأ الرسالة بمناداته "عزيزي دييغو"، وشرح الظرف العام حيث يتعجلون إدخالها غرفة العلميات، وهي تريد إنهاء الرسالة أولاً: "لأنني لا أريد أن أترك شيئاً غير مكتمل". وتتهم الأطباء بالتخطيط لإيذاء كبريائها بالبتر، وهي لا تبالي، إذ "أصبحت بالفعل تلك المرأة المشوهة بعد فقدك، ولكنني ما زلت على قيد الحياة. لا أخشى الألم وأنت تعلم ذلك جيداً، فالألم كما تعلم مقترن بي دائماً، وعلى الرغم من اعترافي بأنني عانيت كثيراً عندما خنتني، في كل مرة فعلت فيها ذلك، وليس فقط عندما خنتني مع أختي".
"أكتب لأخبرك بأنني سأطلق سراحك، وأنني سأبترك أيضاً مثل قدمي. كن سعيداً ولا تبحث عني مرة أخرى..." من رسائل فريدا كالو
بدت غرفة العمليات بابا إلى الأبدية، والداخل يتعرى، فيكتب وصية أو كشف حساب يخلو من نفاق الذات والآخر، ولا وقت لمراجعة التناقض في المشاعر: الحب والغضب والكراهية والهشاشة والتحدي: "لم أستطع أن أفهم ما كنت تبحث عنه لدى الأخريات، وما الشيء الذي كن قادرات على إعطائك إياه ولم أستطع أنا. دعنا لا نخدع أنفسنا يا عزيزي دييغو، فلقد أعطيتك كل ما يمكن أن يقدمه إنسان، وكلانا يعرف ذلك جيداً. كيف بحق الجحيم تمكنت من إغواء هذا العدد من النساء وأنت قبيح ابن عاهرة؟". وكانت تعرف خصاله النفسية وبنيته الجسدية قبل الزواج. ثم شرحت حالها، وأنها لا تستطيع الذهاب إلى الحمام.
وأعفته من الحزن والمواساة: "لا أنوي جعلك تشعر بالشفقة، أنت أو أي شخص آخر. ولا أريدك أن تشعر بالذنب. ولكنني أكتب لأخبرك بأنني سأطلق سراحك، وأنني سأبترك أيضاً مثل قدمي. كن سعيداً ولا تبحث عني مرة أخرى، لا أريدك أن تسمع أي أخبار عني، ولا أريد أن أسمع عنك أي شيء. إذا كان هناك أي شيء سأستمتع به قبل موتي، فهو عدم رؤية وجهك اللعين المقيت وهو يتجول داخل حديقتي. هذا كل شيء. الآن فقط يمكنني أن أقوم بالبتر في سلام، وداعاً من شخص مجنون يحبك بشدة". ولا أعرف كيف تصرف دييغو. لكن الرسالة، بفضل وسائل التواصل، عبرت اللغات والأزمنة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 22 ساعةمتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع