تندرج هذه المادة ضمن ملف الرسائل (أمّا بعد)، في قسم ثقافة، رصيف22.
من بين رسائل الحرب التي لا تُعدّ ولا تحصى، ثمة رسالتان لفتتا انتباهي؛ الأولى لعريف كرديّ اسمه أحمد، كان خلال الحرب العالمية الأولى في الجبهة الغربية للبلاد، وكتب لخطيبته "پَري" رسالةً. قصة تشكيل جبهة في غرب إيران تعود إلى بداية عام 1916، إذ، برغم إعلان حيادية إيران، فقد تمّ احتلالها. دخلتها من الشمال القوةُ الروسية ومن الجنوب اجتاحها البريطانيون.
أدّى هذا الحدث إلى أن يقدّم نواب البرلمان استقالاتهم، وقام البعض منهم برفقة بعض السياسيين بالذهاب إلى غرب البلاد، وبإعلانهم الاتحادَ مع الألمان والعثمانيين أسسوا جمعيةَ الدفاع الوطنية حتى تكون جهة مواجهة مع القوات الروسية والبريطانية. لم تتمكن اللجنة من المقاومة، وقد استسلمت مع حلافائها في الحرب، وتقبلوا الهزيمة. رحل الكثير من الضباط الكبار بعد انهيار اللجنة إلى أوروبا، وطوال سنوات الحرب، كانوا يعودون الواحدُ تلو الآخر إلى البلاد. بيد أنّ أحمد كان أحد الجنود المدافعين عن بلادهم. وقد بدأ رسالته:
"پَري يا ضوء قلبي
كان أقصى أملي رؤية وجهك القمر. آه، هل ستمرّ هذه الحرب على بيسُتون (من المدن الإيرانية التاريخية، تقع اليوم في محافظة كِرمانشاه- أصبح جبل بيستون في الذاكرة الجماعية الإيرانية وعن طريق قصيدة "خسرو وشيرين" الغزلية للشاعر الشهير "نظامي"، رمزاً للحب) لنصل نحن أيضاً إلى آمالنا؟ طلبتُ من قائدة السرية إجازةً، فقد أصل إلى طاق بُستان (من آثار مدينة بيسُتون). لم يسمح لي وإن كنت قد كتبت على لسان أختي إمّا أن تعود بمدالية ونصر أو تفدي وطننا المحبب وتجد لك اسماً مشرفاً. ماذا أفعل إذ لم أجد طريقاً للاستشهاد".
"لا يمكنني الاستمرار في الكتابة. يُسمع صوت مدفع العدوّ من بعيد وقد أطلق بوق الاستعداد ممزقاً طبلة الأذن. عزيزتي إلى اللقاء إذا لم أُقتل"
يمتدح أحمد في القسم الثاني من رسالته مستغلاً مواساة پَري، شجاعةَ نساء وطنه، ويكتب:
"عزيزتي، إنّ الفرسان وغير العسكريين محظوظون لأنّ أغلب نسائهم حضرن الميدان فخراً. كم هو سعيد الرجل الذي لديه مثل هذه المرأة والزوجة! ما الذي حدث؟ ما الذي حدث ليشدّ هذا الجنس اللطيف الرصاصَ من ظهره حتى تحت الصدر، ويحمل بندقيةً، ويضع سيفاً بجانب سرج الخيل؟! نعم هذه لبوءات إيران اللواتي رجّحن الوطنَ على انفسهن وآبائهن وأولادهن وعلى الحياة".
ينهي الرسالة بين صوت الرصاص والمدافع متمنياً البقاء على قيد الحياة ورؤيتها:
"لا يمكنني الاستمرار في الكتابة. يُسمع صوت مدفع العدو من بعيد وقد أطلق بوق الاستعداد ممزقاً طبلة الأذن. عزيزتي إلى اللقاء إذا لم أُقتل".
لا نعلم ما الذي حدث لأحمد، وللأسف هذه هي الوثيقة الوحيدة منه، ولا نعلم هل استطاع الخروج حياً من جحيم الحرب واستطاع أن يحتضن پَري أم لا.
أما الرسالة الثانية فليست من شخص مجهول، بل من أحد رجال القاجار باسم علي خان أرشَد الدولة، وقد كتب رسالة إلى زوجته أختَر الدولة (ابنة ناصر الدين شاه القاجاري 1831-1896)، بعد خلع محمد علي شاه من الحكم من قبل لجنة الثورة الدستورية في إيران، اتُّخذ قرارُ نفي الملك المخلوع إلى روسيا. ولكن بعد عام دخل محمد علي شاه إيران، وسعى مع الدول المتحالفة إلى الهجوم على طهران واستعادة التاج والحكم. كان أرشَد الدولة من المتحالفين مع الملك المخلوع، وقد هجم مع ثلاثة آلاف جندي على شاهْرود (مدينة في شرق طهران) ونجح في إتمام المهمة. يكتب في رسالة موجهة إلى زوجته: "لقد هزمنا العدوَّ شرَّ هزيمة".
سيدتي العزيزة، والآن ها هي أنفاسي الأخيرة، وبعد إنهائي الرسالة ستُطلق عليّ الرصاصة. من بعيد وأنا في هذه الحالة التي أنا فيها قوي وصابر، لا أذكر أحداً إلا أنتِ. سأفارق الحياة وأنتِ أمام عيني"
بعد ذلك وصل إلى وَرامين (مدينة قريبة من طهران) بقوة عسكرية أكبر، وحدثت مواجهة بين جيشه والقوى الحكومية، انهزمت فيها قوى أرشد الدولة شرّ هزيمة وتمّ أسرُه. بعد هذه الهزيمة، عُقدت مباشرة محكمةٌ عسكرية، وحُكم عليه بالإعدام. نُفذ الحكم دون تريّث. كتب أرشد الدولة لزوجته قبيل إعدامه رسالةً ذيلها بتاريخ 7 أيلول/سبتمبر 1911. في الواقع هي بمثابة وصيّة. يعرف أرشد الدولة أنها أنفاسه الأخيرة، فيبدأ رسالته:
"سيدتي العزيزة
والآن ها هي أنفاسي الأخيرة، وبعد إنهائي الرسالة ستطلق عليّ الرصاصة. من بعيد وأنا في هذه الحالة التي أنا فيها قوي وصابر، لا أذكر أحداً إلا أنتِ. سأفارق الحياة وأنتِ أمام عيني. هذه الورقة هي الذكرى الأخيرة مني، وستبقى لكِ. لا تتخيلي أنني نسيتك. السلسلة التي أهديتِني إياها في فيينا مازالت في رقبتي، وقد رجوتهم ألا يخرجوها من رقبتي".
لكن السلسة تُخرج من رقبته، وفي الصورة الملتقطة بعد إعدامه تبدو مفقودة، وواضح أنها قد سرقت. يكتب أرشد الدولة في الرسالة عن لقائهما المقرر قبل الحرب والقبض عليه وأسباب تأخره:
" أتحسر، فلقاؤك الذي كان من المقرر أن يكون في مرقد جعفر في وَرامين هو أكبر أمنياتي، وسآخذها معي إلى القبر".
"أطلب من الله سلامتكِ وأترككِ برعايته. سينقَل جثماني إذا وفوا بوعدهم إلى المدينة. ادفنيه حيث تودّين. يودّعك جسدي الممزق وداعاً حاراً"
ينهي الرسالة موصياً بدفنه:
"أطلب من الله سلامتكِ، وأتركك برعايته. سينقل جثماني إذا وفوا بوعدهم إلى المدينة. ادفنيه حيث تودّين. يودّعك جسدي الممزق وداعاً حاراً. سلّمي على الجميع. لديّ ثمانية آلاف تومان ورقية، وألف مناط روسي في جيبي. لا أعلم هل سيسلمونها لك أم لا".
المال الذي أوصى به أرشد الدوة لم يصل أبداً لزوجته. يكتب مليجَك، زوج أختر الدولة الأول، في يومياته، عن الدفن:
"كان من المقرر أن يوصل لي أهل المعسكر مالاً مقداره اثنا عشر ألف على يد يبرم (قائد القوة الحكومية). قال لي إنه ليس أكثر من ألفين أو ثلاثة آلاف تومان، وُزّع بعضها على الفرسان، وسُلّم الباقي إلى الدائرة المالية".
يعود أرشد الدولة مرة أخرى في نهاية رسالته إلى حبّه، ويختتم الرسالة باسمه الأول مع توقيع:
"العاشق المبتلى بكِ- علي".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
HA NA -
منذ 3 أياممع الأسف
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.
Eslam Abuelgasim (اسلام ابوالقاسم) -
منذ أسبوعحمدالله على السلامة يا أستاذة
سلامة قلبك ❤️ و سلامة معدتك
و سلامك الداخلي ??
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعمتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ أسبوععظيم