شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!
عن لافتة لم أعلّقها يوماً

عن لافتة لم أعلّقها يوماً

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة

الجمعة 2 ديسمبر 202205:01 م

أذكر جيداً أنني لم أعلّق، في أي يوم من الأيام، لافتةً على باب بيتي تقول: "أحتاج إلى من يخلّصني من هذه الحياة المملّة"، حتى أنني لم أرتدِ كنزة يُطبَع جملة مماثلة عليها. أذكر أيضاً أنني لم استخدم جملةً على هذا النحو في أي منشور على أي تطبيق من تطبيقات وسائل التواصل الاجتماعي.

وهذا يعيدنا إلى أن المرة الوحيدة التي سمعت فيها مثل هذا الإقرار، كان في أحد المسلسلات المكسيكية التي انهالت على شاشات التلفزة اللبنانية خلال عقد التسعينيات، كان ذلك في مسلسل "أنت أو لا أحد"، حين قالت إحداهن لأوسكار "الشرير": "أجل أوسكار، خلّصني من هذه الحياة المملّة". وهو مشهدٌ، حسبما أذكر، يغلب عليه الطابع الجنسي الشبقي، وليس أمر وروده في دعاية المسلسل بغية استقطاب نسبة أكبر من المشاهدين بالجديدة، حيث إنها آلية تسويقية تعتمدها التلفزيونات اللبنانية بشكلٍ مستمر.

عدا عن تلك "القفشة"، لم أذكر أنني سمعت مثل هذه الجملة من أحد معارفي يوماً، أو حتى من أولئك الذي التقيتهم صدفةً. كما لم أذكر أنني استخدمتها في أي تفصيل عشته، أو نص كتبته. حتى أنني لم أنظر إلى حياتي بهذا الشكل المريب أصلاً، ناهيك عن أنني، وعلى حد علمي، لم أطلب شيئاً مشابهاً، لا على مستوى المعنى ولا على مستوى الدلالة. فحياتي، لربما مملّة في مشهديتها، إلا أن صخبها المميت للآخرين بملله الافتراضي كافٍ لأعرف أن ما يمكن أن يراه الآخرون مللاً هو ليس على هذا القدر من الرتابة، بل هو أكثر حدّية من ذلك قليلاً، أكثر بشكل يسمح له أن يكون مللاً تأسيسياً، لكنه فياض بالجديد على نحو غير ممل.

أذكر جيداً أنني لم أعلّق، في أي يوم من الأيام، لافتةً على باب بيتي تقول: "أحتاج إلى من يخلّصني من هذه الحياة المملّة"

حسناً إذن، بعد سيل هذه الإقرارات، لماذا يعتبر البعض أن له الأولوية والحق للنظر في حياة الآخرين طمعاً بتغيير مللها؟ من أي موقع أو منطلق، من أي سياق يحق له النظر بتعديلها بغية التماهي مع نظرته هو المملّة نحو الآخرين، وليس التماهي مع هذا الذي يراه الآخرون في حياتهم مللاً؟

نخرج هنا من سياق السجال، والسجال ليس حرباً هذه المرة، ولا هو سؤال وجواب، كما وأنه ليس كمية مضاعفة ومكثّفة لمحاولة تبرير تجرّع السم في تفاصيلنا اليومية. كل ما في الأمر أن ما تراه عين الآخرين هو ما تسمح لنا إمكاناتنا الذاتية المتأثرة بإمكاناتنا الموضوعية به. صدقاً، هي لا تسمح لنا بأكثر من ذلك.

ليس الأمر على هذا النحو من الكارثية كي يتحوّل نقاشاً موضوعياً ناشفاً ورتيباً. ليست الأمور في ملعب الانتقال من نقطة إلى أخرى بشكل منطقي. فهلّا نثب قليلاً معاً، خارج الموضوعية ووعود الخلاص الأبدية، لأن الموضوعية والمنطقية والخلاص ممكنات تجعل من حياتنا مجرّد جثة هامدة مملّة يسهل هضمها؟

حسناً إذن، بعد سيل هذه الإقرارات، لماذا يعتبر البعض أن له الأولوية والحق للنظر في حياة الآخرين طمعاً بتغيير مللها؟ 

كما وأنه ليس في الوارد أن يتحوّل النص إلى ما يشبه أغنية درامية تعكس اكتئاباً غير مشروع، وإن بصيغة متسلسلة. كأن تكون حبة دواء يرتشفها الشخص، بشكل رتيب وعلى نحو ممل يومياً، على مدى أيام متتالية. حبة تنحت عميقاً، وتؤدي بالشخص إلى شخصٍ آخر ليكونه بكثير من الانسيابية.

لطالما لفتتني تلك الجزئية التأويلية النيتشوية من جدلية السيد والعبد، التي تتمرّد على الأصل الهيغلي في تحول العبد إلى سيد والسيد إلى عبد. لقد لفتتني تأويلية رؤية أن السيد يبقى سيداً إلى ما لا نهاية، إذ هو لا يحوّل رغبته فعلاً رتيباً ومتكرّراً يومياً، بل هناك فيض في الرغبات الجديدة التي لا تنتهي ولا تضمر ولا تركن. هذا وحده كفيل بخلق كمية لانهائية من إعاقات معرفة رغبات السيد المتكرّرة من قِبَل العبد. تلك المعرفة التي تخولّه في أن يصبح سيداً انطلاقاً من سيادته على تحقيق رغبات السيد المتكررة. جُلّ ما في الأمر أن الملل أيضاً يشابه فيضان رغبة السيد، هو متعدٍ وطامح، اجتياح عارم، فوق واقعي وغير قابل للتنبؤ والهضم، وهذا التفصيل يجعل منه مللاً عصياً على الفهم وعلى الملل.

لا أعلم مصدر تلك الفكرة الجهنمية في تغيير الآخرين. كما لا أفهم، وبالقدر ذاته، تلك الرغبة العصية القائمة عند الآخرين، القاضية بالثبات في ما هو الشخص فيه وعليه. كلها ممكنات مملّة، تماماً على ذات درجة الملل في الاستحالات. هي ممكنات واستحالات بنتائج متوقعة على نحو متكرّر ورتيب جداً، وعلى نحو لا يستطيع مقاومة غول الملل التأسيسي المتربّص في كل شيء.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image