شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
هل نحن أسرى العبودية أم أننا نختارها؟

هل نحن أسرى العبودية أم أننا نختارها؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الثلاثاء 16 نوفمبر 202112:40 م

ولّى زمن تجارة الرق بعد ثورات كثيرة اندلعت في أوروبا والولايات المتحدة الأميركية، وغيرها من الدول والمجتمعات التي كانت قد شرّعت العبودية لأهداف زراعية، اقتصادية واجتماعية.

وعلى الرغم من أن العبودية ما زالت تُمارس في المجتمعات الحديثة تحت أشكال مختلفة، مثل تزويج القاصرات وحرمان العاملات في الخدمة المنزلية من حقوقهنّ، إلا أن المنظمات الإنسانية والحقوقية تقوم بتسليط الضوء ورفع الصوت لإنهاء تلك الجرائم بحق الإنسانية، وهي بالفعل تحقّق نتائج إيجابية في هذا الصدد بالرغم من المعرقلات الكثيرة الناتجة عن بعض العقائد الدينية والاجتماعية.

أما عبودية الفكر فما زالت مزدهرة، مقنّعة بالدين ومشرّعة بقواعد تربوية. هذه العبودية قد تبدأ منذ الصغر، إذ يُنسب إلى النبي محمد حديثه عن إرضاء الوالدين: "من أرضى والديه فقد أرضى الله ومن أسخط والديه فقط أسخط الله"، وفي سفر الأمثال نقرأ: "الابن الحكيم يقبل تأديب أبيه والمستهزئ لا يسمع انتهاراً"، ولا ننسى الوصايا العشرة في اليهودية المسيحية وأبرزها: "اكرم أباك وأمك لكي تطول أيامك على الأرض التي يُعطيك الرب إلهك".

ليس الرضا بحد ذاته عبودية، على العكس، إنها متعة خالصة أن نرضي من نحب وأن يكون لنا في إسعاده حصّة، لكن العبودية التي نتحدث عنها هنا تتمثل في أن يصبح هدف حياتنا الأساسي التحوّل إلى كائن بشري يعكس رغبات الآخر ومجرد انعكاس لصورته.

في بيئة الاحتمالات فيها موضوعة سلفاً، ماذا عن عبودية الفكر والعيش؟ ماذا عن طاعة الأهل والمجتمع؟ ماذا عن أشخاص يعيشون في مستنقع الخوف من التحرّر رغم عدم وجود سلاسل معدنية تلف رقابهم؟

التمسّك بالقديم البالي

"أبي يريد تسجيل الشركة التي يملكها وإرغامي على العمل في الاستيراد والتصدير بعد موته، وإلّا يحرمني الرضا والمكوث في المنزل، أما أنا أحب التمثيل"، يقول عبدالله، لرصيف22، وعلى وجهه تعابير تشبه السجين المحكوم مدى الحياة.

درس عبدالله التمثيل خلسة، وهو اليوم يشارك في أدوار يحرص ألا تُعرض على أي من وسائل التواصل الاجتماعي، بالرغم من أنه محبوب في الوسط الفني وبين الناس.

ليس الرضا بحد ذاته عبودية، على العكس، إنها متعة خالصة أن نرضي من نحب وأن يكون لنا في إسعاده حصّة، لكن العبودية التي نتحدث عنها هنا تتمثل في أن يصبح هدف حياتنا الأساسي التحوّل إلى كائن بشري يعكس رغبات الآخر ومجرد انعكاس لصورته

يصارع نظرات أبيه ونقمته الدائمة على مجال التمثيل الذي، وفق رأيه "لا يطعم خبزاً" ولا يضمن مستقبلاً، متهماً ابنه بالكسل وقلّة الطموح والفشل لعدم استفادته من الرزق.

يعيش هذا الشاب الثلاثيني حالة من الذنب المزمن، مع أنه يرفض في العلن خيار والده المهني، لكن أفكاره تتأرجح بعنف بين حائطين كلاهما مرّ: إما الرضوخ لرغبة الأب والتخلّي عن الشغف بالتمثيل أو العيش خارج المنزل وإثارة غضب الأب والعائلة كلّها.

هذا الصراع الداخلي استمر أعواماً عديدة، وبالرغم من محاولات إقناع الوالد بصوابية الخيار، إلا أن الأخير تمسّك برأيه، ما جعل عبدالله يتخلّى عن حلمه ويتبوّأ إدارة الشركة.

وبالرغم من أنه نجح في تأدية "الواجب المهني"، لكن داخله محطّم: لا شهية للحب ولا للعلاقات المستقرة، فيقضي يومه كله في الشركة وبعدها يذهب مباشرة إلى البيت. لم تعد الصداقات مهمة ولا خشبة المسرح باب الخلاص، حتى أنه بات عاجزاً عن الاستمتاع بالمبلغ المالي المغري الذي يتقاضاه ثمناً لرضوخه.

اختار عبدالله الانتماء للبيئة المفروضة عليه خوفاً من مجهول اعتبره مصدر إرهاق، سواء كان ذلك على الصعيد المادي أو العاطفي، كما أنه اختار أيضاً رضا مشروطاً بأفكار فُرضت عبر الأجيال، أفكار ممنوع مناقشها أو نقضها، لا خيار أمام الفرد سوى القبول والانصياع من خلال التخويف المستمر وشيطنة كل ما/من هو مختلف.

بحسب علم النفس، القطرة الأولى في بحر الذنب يقطرها الأهل، بما أنها العلاقة الأولى التي يشكّلها الشخص، ومن خلال تلك العلاقة الأولى تتشكل كل العلاقات فيما بعد.

يوضح بحث بعنوان "تأثير تذنيب الأهل للطفل على إصابته بالاكتئاب"، دور الأهل في تكوين شخصية الطفل، أي أن الوضع النفسي الحالي لأي شخص هو وليد تربية الأهل أولاً ومن ثم المجتمع.

وخلص البحث إلى أن تعزيز الذنب من قبل الأهل هو نوع من أنواع الكآبة المقنّعة التي تتجلى في التعويض عن أحلامهم الضائعة أو مشاريعهم القديمة الفاشلة، ونتيجة لذلك، سوف يعمل الطفل على إرضاء الأهل وتجاهل "الأنا"، وبالتالي كبت المشاعر السلبية والرضوخ لأهله خوفاً من خسارتهم.

الخوف من التجدّد

يعتبر تيم فيريز، صاحب مقاطع البودكاست الشهير، أن الشخص يفضل أن يكون غير سعيد من أن يكون غير أكيد.

وبدورهم، يؤكد المختصون في علم الأعصاب أن المجهول في دماغ الإنسان له الصورة ذاتها للخطأ، ما يخلق رابطاً بين الخوف من الخطأ والخسارة، أي خسارة الرضا والحب.

كل هذه التعقيدات النفسية ترجع إلى العلاقة الأولى التي تعرّف الإنسان على العالم المحيط به وتشكل ركناً أساسياً في بناء العلاقة بين الإنسان والعالم.

نور، مثال واضح عن الخوف من التجدّد رغم خوض غمار التخلّي عن التقاليد والعادات العائلية.

صحيح أنها كانت تتمتع بفضول أدبي منذ الصغر، إلا شمعتها بدأت تنطفئ شيئاً فشيئاً كلما اصطدمت بواقعها الأحادي الرأي.

درست نور الصحافة المكتوبة، وكان الكتاب رفيقها ووسيلة الهروب من فروض الصلاة والعائلة والمجتمع، حتى ظنّ أهلها أنها تعاني من التوحد أو أن هناك جنّاً ما يسكنها.

تشبثت بحلمها وقررت مغادرة وطنها والعمل خارجاً في مؤسسة إعلامية في باريس، بالرغم من معارك التكفير التي واجهتها لفترة طويلة، كانت رحلة الاستكشاف ممتعة، بالقراءات واللقاءات والتعرف على أشخاص من جنسيات وأديان أخرى، أشخاص كان ممنوعاً عليها السؤال عنهم حتى في حياتها من قبل.

"غادرت عالمي القديم، لكن هل يتقبّلني العالم الجديد؟"، تسأل نور التي تتمسك ببعض التقاليد والأفكار رغم أنها لا تعرف ما إذا كان لهذه التقاليد مكان في عالم التحرر، فهي لا تريد خلع الحجاب لكنها تشعر بالخجل بين زميلاتها غير المحجبات في القناة. في بالها أسئلة عمّا إذا كنّ ينظرن إليها بشفقة أو تنمّر خفي، بينما هي تحاول التعبير عن آرائها وأفكارها بصوت أعلى من المعتاد.

لا صورة واضحة لما ينتظر الإنسان حين يتحرّر من الحبال التي كان مربوطاً بها، لكنّ الجديد (أي كل ما هو مجهول) مخيف، لا أثر له ولا طعم ولا تقدير عن النتائج أو المكاسب، لذلك تسمّى التجربة: مغامرة.

حبال تبحث عن مرساة

النيوفوبيا (Neophobia)هو رهاب من الأشياء والتجارب الجديدة. حالة الخوف غير العقلانية تلك شائعة خصوصاً لدى الأطفال. لا نتحدث هنا عن الخوف الطبيعي الذي يرافق الرضيع مع بداية الشهر الثامن من عمره حين يبدأ بإدراك وتمييز الغرباء والخوف منهم، بل ذلك الخوف المرضي الذي يأسر الشخص في روتين مدمّر حتى هو في أعماقه لا يريده، لكنه ما إن يفكر في التغيير حتى تحيطه مشاعر الذنب والخوف، فيخال له أنه سوف يخسر كل شيء ليجد نفسه وحيداً متروكاً مكروهاً.

يبقى الخيار الصعب الذي يراود كل فرد منّا: هل أبقى أسير/ة أفكار لا تشبهني، أم أسدد ثمن التخلي عن الموروثات الاجتماعية وأخلق من جديد؟

يُقال إن الإنسان عدو ما يجهل، لذلك فإن التخلي عن الحبال التي كانت تربط الشخص بواقعه المعلوم أمر صعب، خصوصاً في ظل التكريس الديني الاجتماعي لقدسية الانتماء والتمسك بتلك الحبال.

بالإضافة إلى ذلك، فإن الإنسان بشكل عام، بحاجة للانتماء لمكان ما، أو لشيء ما، كي يشعر بالأمان. تصبح حينها المعركة مزدوجة: قطع الحبل مع الماضي وخلق حبال جديدة، أي الانفتاح على مجتمع جديد ومجهول، لم يختبره الشخص من قبل ولم يلمس أي ربح هناك، فضلاً عن أهمية اكتشاف الذات المميّزة ودورها في تطوير المجتمعات وتقدّم الإنسان، ما يخلق نزعة الفضول الممزوجة بخوف إغضاب من منح الحياة والبيت والراحة.

يبقى الخيار الصعب الذي يراود كل فرد منّا: هل أبقى أسير/ة أفكار لا تشبهني، أم أسدد ثمن التخلي عن الموروثات الاجتماعية وأخلق من جديد؟


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image