شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
القول الفصل من أفواه الحجّات...

القول الفصل من أفواه الحجّات... "للمقلوبة خمسة أنواع"

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة نحن والتنوّع

الخميس 1 ديسمبر 202209:34 ص

عندما يتعلق الأمر بلحظة قلب الطنجرة، فالأمر غاية في الجدية، فالسعادة التي تخرج مع بخار المقلوبة قبل أن ينكشف إتقان الطبخة ودقة قطر الدائرة، تحمل معها كثيراً من الجوع المتشوق للانقضاض. يمكن القول إن المقلوبة من الموروثات القليلة التي لم تطلها رياح التغيير، ولم ذلك؟ وهي كاملة كما هي.

لطالما كانت لحظة قلب الطنجرة المقلوبة معياراً للتمييز  بين قدرات النساء التنافسية، ومؤخراً انضم الرجال إلى السباق أيضاً.

الـ"تفنّن" في إعداد المقلوبة لا يقل أهمية عن طعمها، لأن الطعم شهي دائماً "قولاً واحداً" كما يقال للتعبير عمّا لا خلاف فيه، والعبرة في التفاصيل، سواء بإضافة البندورة أو الامتناع عنها، بالزهرة والباذنجان، مجتمعان أو منفصلان.

من الأسئلة المشروعة في هذا العالم: هل البطاطا بدعة في المقلوبة؟ وما الأصح أن يُستخدم الأرز المصري أم البسمتي؟ هل تعتبر مقلوبة الفول الأخضر مقلوبة أصلاً؟ وماذا عن الحمص هل له من داعٍ أم أن الطبخة ستتحول إلى قِدرة خليلية؟ كيف يحبها أهل نابلس؟ وماذا عن أهل عمّان هل يقومون بقلي الدجاج أم سلقه؟

يدور هذا التقرير حول السباق الـ"مقلوبي" الذي حددت مساره نساء أردنيات وفلسطينيات تحدث معهن رصيف22، وحول أهمية الطبخة التي تنافس المنسف في كونها طبق يوم الجمعة الرئيسي.

قاع الطنجرة... المعيار الأهم

بغض النظر عن مكوناتها، فالاختبار الأهم لإتقان المرأة للمقلوبة هو قاع الطنجرة كما ترى الحاجة السبعينية دلال عيسى، تقول:  "أغلب أفراد الأسرة يتسابقون للأكل من قاع المقلوبة، أي مما يلتصق في الطنجرة، وهذا معيار الإتقان، مثلاً إذا كان ما التصق في القاع هو بعض الأرز، فالمقلوبة ناجحة بامتياز، إما إذا التصقت بعض من قطع اللحم أو الدجاج فالطبخة لا ترتقي إلى الصدارة" وبرأيها يعود الخطأ في هذه الحالة إلى طريقة توزيع اللحم أو الدجاج خلال "تطبيق" الطنجرة، أي صف مكوناتها.

أسئلة مشروعة: هل تضاف البندورة للمقلوبة؟ وهل لقاء الباذنجان والزهرة في طنجرة حلال؟ وهل البطاطا بدعة؟ وهل مقلوبة الفول الأخضر مقلوبة أصلاً؟ ماذا عن الحمص؟

ما العبرة في هذه المعايير؟ سألنا الحاجة دلال، وأجابت: "لأننا تربينا أن ست البيت المعدّلة هي التي تبدع في إعداد طنجرة المقلوبة، فالمقلوبة جزء مهم من تراثنا لأنها تحمل نفَس بلاد الشام في الأكل، ونكهة فلسطين قبل الاحتلال".

ثم تستذكر  مشهداً من تاريخ منطقة راس العين في عمّان الشرقية، حين كانت العائلات قديماً تجتمع في دوائر أرضية حول الـ"سدر" بعد قلب الطنجرة لأخذ نصيب الأسد. أما ما هو نصيب الأسد، فتقول: "الجزء الداخلي للمقلوبة عندما يتم قلبها، أي ذلك المائل إلى الطراوة من دون تخبيص، مع قطعة الموزة من اللحمة، أو أكبر صدر دجاج مع الجناح، وهذا النصيب غالباً ما يذهب لكبير العائلة".

وتختم: "اليوم أعد طنجرة المقلوبة كمن تقوم بإعداد القهوة، من كثرة ما طبختها في حياتي وتعوّدت عليها، وطبخها هو أوّل شيء علمته لبناتي عند زواجهن، كتبتها لهن على دفتر، وصدقيني هي نفس وصفة جدتي التي وصفتها لأمي ونقلتها منها على دفتر".

الأساس البنيوي... للمقلوبة

"المقلوبة جزء من تاريخ الأردنيات والفلسطينيات" هكذا تقول الحاجة نهى خريسات (67 عاماً)، وتضيف: "المطبخ العربي بغض النظر عن المنطقة هو جزء من عاداتنا، مثله مثل اللباس والدبكات واللهجات، المقلوبة مهمة جداً في المطبخين الأردني والفلسطيني، لذا نجد أن الإضافات على طريقة إعدادها لا تتوقف، مع أهمية الحفاظ على أساسها البنيوي".

وهل للمقلوبة أساس بنيوي؟ تجيب: "طبعاً، ويبدأ منذ لحظة ترتيب طبقات المقلوبة، إذ لا يجوز أن توضع البطاطا والزهرة مثلاً في نفس الزواية، كل مكون يتم توزيعه بشكل هندسي متقن، لذا تجدين أننا كنساء نعرف الأشطر بيننا بأنها التي تظل مقلوبتها ثابتة لدى قلب الطنجرة، أي دون سقوط أجزاء في الأطراف".

 لا يجوز أن توضع البطاطا والزهرة مثلاً في نفس الزواية، كل مكون يتم توزيعه بشكل هندسي متقن

ضحكت الحاجة نهى عندما سألناها عما يحدث في حال تبعثرت مقلوبتها عند رفع الطنجرة، وأجابت بكل ثقة: "مقلوبتي لا تسقط... وإذا وأشدد على كلمة "إذا"، إذا سقطت يكون السبب هو نق أبنائي عليها عند قلبها، وهم يصرخون يلا يلا يلا".

"عشان تِغلبي سلفاتك وتعجبي حماتك" 

"من المقلوبة نعرف رائحة البيت الفلسطيني" بهذه العبارة وصفت أم الليث (68 عاماً) أهمية الطبخة، وتكمل: "هي وجبة أجدادنا التي ستبقى حاضرة، والتي فشل الاحتلال في سرقتها منا كمحاولاته سرقة الزعتر والحمص والفلافل، ليس لأن الإسرائيليين لا يحبون مكوناتها، بل لأنهم يفتقرون لنفَس طبخها الذي لا تمتلكه إلا العربيات".

تحسم أم الليث الجدل التاريخي، وتقول إن للمقلوبة في فلسطين خمسة أنواع، هي: "مقلوبة الزهرة والدجاج والبطاطا، مقلوبة الزهرة والبطاطا فقط، مقلوبة الدجاج والباذنجان فقط، مقلوبة اللحمة بالباذنجان، ومقلوبة الفول" مع التنويه إلى أن التفاصيل تختلف من ذوق إلى آخر وبين منطقة وأخرى، وتوضّح: "أهل نابلس مثلاً يحبون الإضافات على المقلوبة، فيما يضيف أهل القدس الجزر أحياناً".

ومن ذاكرتها في بداية زواجها، تقول: "أمي الله يرحمها كانت حريصة على تعليمي طبخ المقلوبة بطريقة دقيقة، وكنت ألاحظ حرصها المتكرر على زيارتي منذ الصباح في اليوم الذي تعلم فيه أنني سأطبخ مقلوبة لزوجي، وفي مرة سألتها عن السبب فأجابتني: حتى تِغلبي سلَفاتك وتعجبي حماتك، ومنذ ذلك الوقت تعلمت أن المقلوبة خارطة الوصول إلى القلوب الصعبة، كقلب حماتي" تختم حديثها ضاحكة.

أختي أهانت مقلوبتي 

تشاجرت السبعينية ناهد الخواجا مع شقيقتها لأنها أهانت مقلوبتها، عن هذه السردية تقول: "كانت عزومة كبيرة للعائلة ومن بينها أختي وزوجها، وطبعاً كانت الطبخة الرئيسية إلى جانب أكلات أخرى مقلوبة باذنجان مع اللحمة والتي أشتهر بإتقانها، عندما رفعنا الطنجرة وقبل أن يتذوّقها أحد، قالت أختي: شكله الرز مخبص، والله كأنك طعنتيني في ظهري بسكين".  

للمقلوبة خمسة أنواع فقط، وهي: مقلوبة الزهرة والدجاج والبطاطا، مقلوبة الزهرة والبطاطا، مقلوبة الدجاج والباذنجان، مقلوبة اللحمة بالباذنجان، ومقلوبة الفول

بهذه الجملة القاسية وصفت الخواجا شعورها عند سماعها تعليق أختها، ذكرته والقهر واضح في نبرة صوتها وكأن الموقف حدث مجدداً، وأضافت: "ملاحظة أختي بأن رز مقلوبتي مخبص جعل البقية يترددون بتذوقها، فقد زرعت الشك فيهم، فصاروا يأكلون من بقية الأطباق الحاضرة على الطاولة تجنباً لتذوقها، بعدها فقدت أعصابي وصرخت فيها: مقلوبتي ما بتخبص، مقلوبتي أطيب مقلوبتك".

شجار المقلوبة هذا فتح كل الملفات القديمة بين الخواجا وأختها، الأمر الذي تطور إلى تُهم وانتقادات لا ذنب للمقلوبة بها، تقول: "عدنا إلى مشاكل حدثت بيننا منذ عشرات السنين، وانتهت الوليمة قبل موعدها، وتخاصمنا أنا وأختي لشهرين".

هذه الطبخة هي ضحكات أطفالنا حين نقول لهم: الغدا اليوم مقلوبة 

وتختم "المقلوبة موضوع شخصي لدى السيدة فلسطينية، ليست قيمة معنوية فقط، هي رائحة جداتنا، وأيادي أمهاتنا، وهي ضحكات أطفالنا حين نقول لهم إن الغدا اليوم مقلوبة".



رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

تنوّع منطقتنا مُدهش

لا ريب في أنّ التعددية الدينية والإثنية والجغرافية في منطقتنا العربية، والغرائب التي تكتنفها، قد أضفت عليها رومانسيةً مغريةً، مع ما يصاحبها من موجات "الاستشراق" والافتتان الغربي.

للأسف، قد سلبنا التطرف الديني والشقاق الأهلي رويداً رويداً، هذه الميزة، وأمسى تعدّدنا نقمةً. لكنّنا في رصيف22، نأمل أن نكون منبراً لكلّ المختلفين/ ات والخارجين/ ات عن القواعد السائدة.

Website by WhiteBeard
Popup Image