تندرج هذه المادة ضمن ملف الرسائل (أمّا بعد)، في قسم ثقافة، رصيف22.
الكلمات قوية. أليس كذلك؟
يمكن استخدامها لإنشاء رسالة مؤثرة أو لتحسين حياة شخص ما، أو لبناء أمل جديد. الكلمات قوة كبيرة جداً، كما يقول لي أحد برامج الذكاء الصناعي.
المشاعر قوية، ساحرة، يقول أهل التأمل والسحر إن آمنت -والإيمان الجرعة المتطرفة من الإحساس- بالشيء ستقول له كن فيكون.
وليس أهل الإيمان وحزب السياسة والنشطاء عنهم ببعيد.
أقوى ما يمكن أن يفعله المرء، هو أن يحب، ويكتب عما يشعر لمن يحب
إن كان ذلك كذلك، فأقوى ما يمكن أن يفعله المرء، هو أن يحب، ويكتب عما يشعر لمن يحب.
وإن كان كذلك، فلماذا تفشل قصصنا فيما ينجح فيه الشعر، أو بالأحرى كلماتنا الشاعرية "اللي على قدها وقدنا".
طلبت مني الزميلة والصديقة مريم أن أشارك معها في ملف تعدّه عن الرسائل، وطلبتُ من نفسي أن تتذكر، وتتأمل، وتفهم.
البداية
كانت أول رسالة، من أصل رسالتين، كتبتها على ورق ملوّن يباع في المكتبات، قبل انتشار التكنولوجيا، كنا نستخدم هذا الورق الملون بأشكاله وتنوعاته لكتابة كلمات الحب أحياناً، أو لاقتباسات ملهمة، كمفكرة صغيرة نحتفظ بها بكلمات غالية على قلوبنا. اخترت ورقاً تميل ألوانه الزاهية إلى الاصفرار، كأنها ورق بُردى، وكتبت بخط يدي بأقلام ملونة اخترتها بعناية:
"هذه الرسالة كتبت لـ… خاصة، وللناس عامة".
وسميتها "الوصايا العشر".
كانت حركة فطرية عفوية، في عمر كنا نتحرك فيه أكثر مما كنا نفكر، مدفوعين ببراءة متخيلة عن الواقع، الذي لم يصمم إلّا على مقاس رغباتنا، وحرياتنا. وكذلك كائناته، موجودة لنصاحب ونسهر ونضحك.
أعتبر حكايتي مع صديقتي آنذاك أولَ الحكايات، وأكثرها براءةً، لأنني كنت قد غادرت تواً تلك الخيامَ البدوية، بأفكارها الأصولية ونشأتي في السعودية، إلى ما كنت أحسّه، قصور الحضارة الواسعة، التي يضيع في أفكارها وأيديولوجياتها الواحدُ منا.
"اعشقي الوجودَ تَمَّحِ الأسئلة. خلق الله الكونَ لنعشقَه، لا لنسأله. الإنسانُ الإنسان تكفيه لحظةٌ ليحيا الحبَّ كاملاً"... لماذا كتبت الرسالة بتلك الطريقة، وكأني نبي من أنبياء بني إسرائيل، أو صوفي مسلم من القرون الوسطى؟
كنت حديث عهد بكل شيء: مخالطة الجنس الآخر، مطالعة حيوية لفلسفات وأيديولوجيات من اشتراكية ماركس إلى وجودية كولن ويلسون، وتحليلية آريك فروم.
هذا الإحساس البكر بالحرية، وصفه صديق لي، بأنني كأني تربيت في كهف ضيق، وانتقلت مرة واحدة إلى أراضٍ خضراء شاسعة بالألوان والروائح.
كنت أصاحب امرأة هوى ربما، أكثر تجاوباً وحيوية وحرية في التعامل مع الطاقة الجنسية، كان تأثير الأورغازم أقوى من المزاج العالي للحشيش الصافي "اللبناني"، كما نسميه في مصر، وفي ذات الوقت أراسل هوى المرأة التي أحببتها.
"الوصيَّة الأولى:
* أحِبِّي الحياةَ تكوني مؤهَّلةً لها
اعشقي الوجودَ تَمَّحِ الأسئلة
خلق الله الكونَ لنعشقه، لا لنسأله
الإنسانُ الإنسان تكفيه لحظةٌ ليحيا الحبَّ كاملاً
الوصيَّة الثَّانية:
* كوني قديسةً في كلِّ شيء، يكن كلُّ شيء مقدساً
صلِّي!
حتى أدنى الغرائز صلِّيها كي لا تكون المتعةُ حجاباً
تخيَّرَ الله مكاناً لروحه، فلم يجد أجمل وأطهر وأنبل من الجسد
ما أجمل الطبيعة، وما أجمل الجسد الحي!
حين تتماسُّ الأجسادُ، تتلامس الأرواح
حين يحب الربُّ عبدَه، ينسى مقام ألوهيته،
وحين يحب العبدُ ربَّه، ينسى مقام عبوديته
الوصيَّة الخامسة:
* اكفري: فالكفر بدايةُ الإيمان والوجهُ الأول له
الأنبياء ما آمنوا إلا حين كفروا
تطرَّفي تطرُّفك
أهل الجنة يتلذَّذون في غرفهم،
وأهل النار متآلفون مع العذاب،
والأعراف مَن يتبعون الأعراف –الوسطيين:
ذوي المزاج الوسط، والأفكار الوسط، والدين الوسط...
في الوسط لا يشعرون بشيء، ولا يفكرون في شيء
العاشق عابد
انظري – فالنظرة عبادة
تكلَّمي – فكلام العابد قرآن
اقتربي: أدنى من قاب قوسين
والمسيني
لتُعيدي الروحَ إلى الرّوح
والحياةَ إلى الحياة".
هذا بعض ما جاء في الرسالة، أول رسالة حب، ونُشرت في موقع معابر الثيوصوفي، وفي كتاب "الحد الأقصى من الحياة".
النهاية
أجدني بعد كلّ هذا العمر، أتساءل لماذا كتبت الرسالة بتلك الطريقة، وكأني نبي من أنبياء بني إسرائيل، أو صوفي مسلم من القرون الوسطى الذهبية في ذكرياتنا؟
وأجدني أتذكر فيلم "الرسالة". كان ذكياً مخرج هذا الفيلم الديني، فكلمة "الرسالة" لها كاراكتر ديني، روحاني، أدبي في إرثنا الثقافي والاجتماعي؛ فأول ذكرى تحفظها عربيتنا عنها هي تلك الرسائل التي أرسلها محمد في بداية توهّج "الدعوة"، لملوك الفرس والروم، وفيها ختمه الذي لا ينسى: "أسلِم تسلم".
"الرسالة" أيضاً هي الكلمة التي تقوم مقام الجملة الوصفية في عربيتنا، أي الوحي الذي ينزله الله على أنبيائه المرسلين، وهي أيضاً رسائل جبران خليل جبران ومي زيادة، ورسائل الكتاب المخضرمين إلى محرريهم أو أصدقائهم، أو للكتاب الشباب الذين يتلمسون متخبطين طريقهم، المملّ المثير، القصير الطويل.
فلماذا كتبت رسالتي لحبيبتي على هيئة "وصايا عشر" موسوية، ونحن في زمان اللهو واللعب؟ هل وقعت أسيراً لكاراكتر جملة "الرسالة"؟ ولماذا حقنتها بكلّ كيمياء التمرد البكر الطفولي، وعقدتُ مسائلنا؟
تتصفح ذاكرتي ما يقوله أصدقاء الجامعة عني، فتبرز كلمات أحدهم: "انت بتحسس بالملل كتير من الواقع، عشان كده لما بتعمل حاجة لازم تنفخ فيها سحر وأساطير، مش عايز تحب زي الناس، أو تشتغل زي الناس".
لقد تمردت على "الرسالة" بالرسالة، رسالتي الأولى لحبيبتي الأولى
إنها أول لحظة كفر، في خيالي، أو أول لحظات التمرد الصبياني في واقع صديقي ذلك.
إنها المرة الأولى التي أعبر فيها عن حريتي البكر من وصايا العشر لموسى، وكل إرث بني إسرائيل الصحراوي، بالمعنى الإيجابي والسلبي لتلك الجملة، المرة الأولى التي شعرت بها جذوري بالعطش، واجتاحها وعيي أنها في صحراء، تحتاج إلى أن تسافر تحت الأرض إلى غابات الأمازون، حيث وفرة الحياة البدائية، وندرة الرفاه الحضاري.
باختصار، لقد تمردت على "الرسالة" بالرسالة.
وأنا أكتب هذه الكلمات، تذكرت أني مؤخراً "بطلت" أكتب رسائل، أعبّر بها بالكلمات لصديقتي/حبيبتي، وتذكرت أني كلما مارست التأمل والسحر أكثر، شعرت بعجزِ هذه الكلمات، على شاعريتها وروائحها الأسطورية، عن التعبير، عجز فاتن وساحر كعجز قطط الشارع، وقرود الغاب.
بعد أن أصبح لدي حلم، ربما أسطوري وشاعري يضيف المعنى على عبثية الواقع بلغة صديقي ذلك، أن أعيش مع من أحب على تخوم غابات الأمازون في أمريكا اللاتينية، وبعد علاقتي "الأسطورية" بتلك المرأة، ذات الروح البدائية، التي سلمتني مفاتيح الغابة، بدأت علاقتنا بالشك والسب والصراخ والبكاء، لا كلمات حب، ولا رسائل متمردة، ولا وصايا عشر.
كأن الكتابة، وكأن الرسائل كانت تمثل الواقع الافتراضي في عصور ما قبل التكنولوجيا، سوشيال ميديا أيام زمان، من يدمنها يسافر بعيداً في خياله عن واقعه، ويومه، ومعاشه. وكأن كلمات الحب ورسائله هي مقدمة الفراق، ولعنة الكبت، وأحزان المصير، وكأنّ الشتائم الواقعية الفظة، والفجة، بامتداداتها في اليد والقدم وملامح الوجه الممتعضة، بداية الحميمية، والوصال، والحلم، حتى لو كان أسطورياً وشاعرياً، يا صديقي.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ 5 أيامبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ أسبوعمقال رائع فعلا وواقعي